للمشري وجه آخر,, لا يمكن للقارئ أن يكتشفه إلا بمزيد من التروي، والتمحيص,, والتأمل,, وجه المشري يطل من بين السطور غير ما تصافحه عيناك ان سعدت برؤيته,. فالمشري ربما يفوضني كقارئ ان احشر ذاتي في بعض ابداعاته، لأفتش في نهر الكلمات عن سمكة بيضاء لامعة تستميلها الصدف المقسمة,, وقدري انني لم أعثر على كلمة مضيئة,, بل انني اصبحت راضياً بما وهبت من عطايا,, قصص بين الكادي، والورد والمكاشفة، والماء، وبوح السنابل والزهور، والغيوم ومنابت الشجر حتى وصلت إلى الجاردينيا ولم ار غير بهجة تغمرني, لأبوح بها فالمشري اضافة إلى كونه قاصا وروائيا اصبح في يقيني عطاراً ماهراً لا ينسى قارئه ليرسل له الباقة تلو الأخرى,, فمع كل قصة قطفة ورد، أو سنبلة زاهية,, ومع كل صوت يهديه تُشير النوايا كخيوط شمس مستديرة بالعافية هو ذا القاص عبدالعزيز مشري وجهٌ على الماء وأنف على الورد وعينان على السنابل وحواس أخرى عديدة تغمرنا بفيض ودود. * يوميات تتثاءب: في مجموعة المشري جاردينيا تتثاءب على النافذة تسجيل اقتفائي يفتش في خبايا ما لم يقل,, والالتقاط هنا مرهون بدربة التحسس، والنبش بين كل مفردة وأختها والكلمة وظلالها. قصة الهروب فاتحة المجموعة شقاء تفصح عنه الحشرجة تلك التي يحاول الراوي البطل ان يكتسحها بدندنة لا تلبث إلا ان تغيب لفرط المكابدة,, رجل يتهيأ للجماد الهادر,, ووجه امٍ,, يخرج في الزحام وصوت يعلو على المعضلة,, اقسى من طعنة منامات كاذبة تقرب الاوهام,. لا يلبث الراوي إلا ان يفصح عن سر صوت فيروز، وعود المشري المدندن في ثنائية الاوجاع المباغتة تلك التي تثير في دواخلنا صيغ الحزن العام,, وفتات احزان داخلية تميت القلب على يأس انجل,, وحده الوعي,, وشفاء المكابدة تبرز في حيثيات سرد قصة الهروب كاملة,, وطن لا يغني ورجل يهده عناء الديلزة ,, المجموعة ص15 . وجوه رفاق المرض,, لا يحاول المشري ان يقرأ سحنهم المقلوبة بل هو من ابتدع عناوين العطر,, يعجز ان يصف لنا أسود غنيمته السواد الهادي الوقور، وجنوبيين وشماليين هدهم العناء ليصنع من آهاتهم مجداً يفوق مجد فيروز,, والكبار المرضى بأوهام مجدهم. يحشد المشري في تفاصيل سرده اغنيات معهودة تبتدئ من عناء المريض وتنتهي في لحظة تنوير متوارية تؤكد ان العناء قائم والامل قائم فمن الماهر في جعلهما لعبتين يتقن فن تحريكهما دون تردد لا احد يستطيع غير المشري؟!. * وجه مُقطِّب القسمات يُحيِّينا: رقم الملحف بونابرت القصة الثانية في المجموعة ص23 سياق سردي فاتن تتداخل به الرؤيا مع مقولات الراوي فانثيالات الراوي في مناماته انفصلت في تباين مع وصف حالة المريض الذي اصبح صنيعة وهمين لا يلتقيان أبداً,, وصف السجية المتمادية في تفاصيل عنائها اليومي المألوف,, وبين رؤيا منامات تتقاطع مع هذا السدر المتهادئ ذلك الذي يزاوج بين الحلم وواقع راوية ليصنع لنا هذا البناء السردي المتكامل. وتظل قسمات الراوي المقطبة تحيي فينا روح العناد والصبر والمثابرة,, راوٍ يسكننا هلعه لفرط ما يشير في قصة (ليل اصفر) الى عناءٍ وسهرٍ من بياض الاسرة,, وطقوسية (عز الليل) تلك التي توقظ نيامها جلبت الايذاء الوقائي ليلة سهر في المستشفى الكبير,, ذلك الذي امسك بها البطل بتلابيب الكتابة مقدما الرفض المعلن لمفهوم غافل ان المرضى يسهرون من فرط الانين,, لكن مريضا مزدوج الآلام تتنازعه لواعج الكتابة، والفشل الكلوي هو الذي يطعمنا زاد السكينة,, المجموعة ص40، 41 . الرجل المسجي يحطب في حبل الليل سر الكلمات، وممرضة يصفها الراوي الخفي بأنها في قمة انضباطها الساهر لا تهدأ لفرط ما يثيره عربي هده العناء والحبر حتى اصبح بوصلة يثير ضميرها الواعي وتشير بأمانة الى قرب فجر سيأتي محملا بوهج الكلمات,, (عز الليل) أو (أنصاف الليالي) لغة مهادنة لكنها تثير جدل الاصحاء، وتولد في الذات مداها الهلامي,, ذلك هو (بونابارت) وتلك هي (مارس انطوانيت) وجهان مقطبان يتقاطعان مع وجه اصفر يثير في الذات شهوة القلق المبرر من عالم لا يعرف عن وعينا غير (شو، هو) وغيرها من مفردات تتثاءب لفرط ما لكنا قشورها, المجموعةص42 . * في القصة التي حملت اسم المجموعة جاردينيا تتثاءب في النافذة يؤكد القاص عبدالعزيز مشري مشقة عناء الطريق إلى الشفاء تلك المكابدة اليومية المرهقة إلا ان روح الانسان الايجابية تنمو في شخصية القاص مشري لتؤكد للقارئ ان الانسان وان كان يسير إلىالنهايات يظل وفياً لحياته,, محباً من حوله يسقط المقولة تلو الاخرى تلك التي تدور حول أنا ومن بعدي الطوفان ,, وإن مت عطشان فلا نزل القطر ليخلف المشري في عالمنا الصدق، والنبل، والموضوعية,, تلك التي تضوع من اعطاف مجموعاته القصصية، والروائية، ومعالجاته المقالية كما تضوع رائحة الجاردينيا، او الكادي وورود الجبال الجنوبية الشاهقة,. كما يستبدل القاص المشري الكثير من انثيالات الذات المعروفة بما سواها من غرائبي يقرب المرء إلى عالمه الحقيقي ذلك الذي يرفض ان تكون مداومة الاهتمام هي جزء من الواقع بل ان الامر القابل ان يترك للنفس فرصة ان نتأمل شقاءها,, مثلما يفعل بطل قصة الجاردينيا فلحظة ان حاصرتها انابيب الجراحة المرعبة لكنه مازال يقاوم رغبة في الصفاء,, وينتظر فيض الهدوء وقطرة ماء بارد,, ومعرفة اي عالم يحتويه لكنه لا ينسى وجوه تلك الاحبة منها وجها سعد وأحمد ,. في قصة جاردينيا تماد عفوي في سرد الواقع، والتقاط معبر لتفاصيل عناء الجراحة، واستبدال عضو بآخر بديل,, كل هذا يجعل من النص تقريرا لا يقبل الاختزال او الاقتضاب,, وقت يعلمنا كيف نعيش حالات الغياب,, وحدث مفجع تسوقه الاقدار وتبني من انثيالاته تفاصيل سرد يدخل في عالم الخاص الذي يعلم، والعام الذي يدخل في حكاية مرض البطل إلى اعماق خصوصية مكابدتنا,, لتتحول هذه المتلازمات إلى مواجهة حقيقية تدور في متاهة واحدة هي الفشل للبحث عن باب النجاح,, او النجاة من دوامة هذا الفشل الذي اسقطته حالة الفشل الكلوي لأن يكون رهان على ما لدى المريض من قوة وصلابة واستعداد لأن يجعل من هذا الفشل واجهة ادانة طويلة للواقع الذي يمتد من حدود سريره الى العالم بأسره,, فشلا لا يأتلف مع ما سواه,, كل فشل له طبيعته الخاصة، وأمراضه المزمنة فشل يصفه البطل بأنه فشل والسلام لكنه خطير ان وقع في صورة نقد الواقع فلا تكفي قصة كهذه ان تصف الفشل العام ,, ولك ان تتبع جزءاً من ذلك في الصفحات 103، 104، 105 ن المجموعة. ولم يكف الراوي عن سرد تفاصيل ايامه الاليمة تلك تفاعلت لحظاتها منذ الافاقة الاولى بعد الجراحة وتأمل حياة من حوله,, تأملا يفضي إلى المعرفة، والكشف الحقيقي عن مدى وئام الانسان مع ما حوله من انجازات تبعث على الحيرة، والتأمل بل الدهشة,, ليصل القاص مشري إلى لحظة تنويره الاخيرة تلك التي تشير إلى الازهار، والاواني النائية بما فيها من فيض حياة تودع البقاء,, تلك هي قصة الجاردينيا عطر في آنية، وألم لا يعرف طريقه الى قلب رجل يتداوى بالحب والكتابة,, وعطر الكلمات. * وصف الذات يغني عن الواقع: في قصة ليل ابيض المجموعة ص132 يقف المشري على اعتاب عناء جديد ولدته قصة الجاردينيا فيه ذيول لآلام، وحشرجة ظل حبيسة لذات العناء اليوم فلم يقو المشري على استمالتها للخروج إلا لحظة ان شعر بأن هناك من يحرك اغصان الفجر بنسائم مقطوعة شجية تقض مضاجع الالم,, وتخلف في الفضاء النغمتين 19، 20 من سمفونية موزارت,, شهقة توقظ في القارئ رغبة التواصل مع تفاصيل سرد المشري الذي لا يترك شاردة او واردة إلا ويقولها,, محافظا بذلك على دفء العلاقة,, وواصلا الالم بما سواه من مكابدات. ليل أبيض قصة لا تخرج عن وصف عناء الذات لتغني المتأمل من اقتفاء حساسية الواقع فلا فرق بين رجل يئن من وطأة الالم,, وآخر يغرق في نهر احلامه المدججة بالتعب لتقوم هنا جدلية البحث عن مخرج ينهي قصة الالم او الحلم,, تلك هي لحظة التنوير التي تعجز ان تصدق في كل قصة يفرغ منها القاص المشري لكنه يترك النهاية مشرعة,, بل مليئة بأواني الازهار، والفل، والكادي، والياسمين، والجاردينيا,, والاصوات الفيروزية، والمقطوعات الموزارتية، وتقاسيم عود مشري ,, ودندنة مارلين التفاحة المقشرة في المجموعة ص 136 . * تقرير يأبن الجاردينيا وورد أخرى: يا للعذاب,, ها هي رحلة أخرى,, اضخب دويا، وأقوى عناء,,, هي لحظة ان يفيق الرجل بلا اطراف,, ان تقضم الواحدة تلوى الاخرى كما يقضم جائع تفاحة الفاقة بنهم,, ها هي قصة التأبين توشك على ترك تفاصيلها في جسد مريض لا يريد ان يفارق من جسده اي عضو,, وحده أبو زيد هو الذي ينضبط امام خسائر جسده,, وفداحة ألمه الذي تطبق عليه الانسان بكزيزي يحسده عليه من في الجوار,, ليحظى المشري السارد، والملقى في سرير جانبي بضوع من تفاصيل صمت أبو زيد الآسر,في الانطباق الاخير لملف التقارير الحابلة بوصف العناء، والمكابدة ينهي القاص المشري مشروع بناء مجموعته القصصية الجاردينيا بوصف مكابدة تميت في القلب شعلة الامل,, هم يصدم,, ويصم فحيحه المؤذي اذن، وضمائر البشر الاحياء بوعيهم، وانسانيتهم. التقرير معاضدة بين امراض كثيرة نابعة من اجساد وقلوب موزعة بشكل مأساوي على رؤوس هؤلاء المرضى الذين يكابدون لفرط عنائهم,, وليأسهم من شقاء ما حولهم,, تقرير يفتش عن امل غريب لا وجود له في تزاحم هذه الاورام التي تنمو في نفوس البعض القصة ص188 ,, وصفحات اخرى تلونها غمامة الفزع من عقول لايفزعها انين المرضى، وآهات المتعبين. إيماءة : * جاردينيا تتثاءب في النافذة. * عبدالعزيز مشري .