(النجاح) مفردة لا يجهلها أحد، ولا أعرف أحدا يعرفها حقا!!، اتضحت لنا حتى أشكلت علينا، وتحولت - بعدُ - إلى محفوظات ذهنية يفسرها كل أحد حسب تركيبته الفكرية!!. (النجاح) مفردة يسعى إلى امتلاكها كل الناس، وقليل من الناس من يمتلكها. كلنا نقول: نجحنا، وكلنا نبارك ل(كلنا)، وحسبنا الله إن كنا لم ننجح بعد في فهم (النجاح)، أو فهم (نجاحنا)!. ما النجاح؟ وما أركانه؟ وما أنواعه؟ ومسميات أخرى... أسئلة أغرقتني إلى الناصية، ولما أزل أسأل ولا أبالي، لأني ما انتفعت بأن أبالي... هل (النجاح) مادة تحركها محسوساتنا؟ أم أنه روح تنبض بها إحساساتنا؟ هل النجاح وقدة يمكن أن تخبو؟ أم أنه حياة لا تعرف الفناء؟ ومن زاوية أخرى: هل نجح الفاشل الذي ملك الدنيا، بعد أن سفك دم الحقيقة والقيم؟ وهل فشل الناجح الذي صدق الحياة، فما جادت عليه بغير كفن؟ وهل ثمة فرق بين (نجاح) الدنيا، ونجاح (الآخرة)؟ في الشعور على الأقل... وهل حصول (الأول) مؤشر على حصول (الثاني)؟ وهل نحن في حاجة إلى (النجاح) إذا كان الفاشل (أديسون) صنع المصباح، والمطرود (أينشتاين) جاء بالنسبية؟ وبالقياس: هل يمكننا - لو جمعنا الفاشلين في مراحل تعليمنا - أن نصنع منهم ألف (أديسون)، وألف (أينشتاين) فنضيء بهم ألف (مصباح)، ونفعل بهم ألف (نسبية)؟!! أم أن الاثنين شذوذ يؤكد القاعدة؟ القاعدة؟! مشكلتنا أننا لا نعرف تعريفا جامعا مانعا للقاعدة. فكيف نستطيع أن نقعد ل(النجاح) سؤال خطر عليّ الآن: هل من الممكن أن (ننجح) إذا ثبتنا على (فشلنا)، وتحملنا في سبيل ذلك (الثبات) كل همزة لمزة؟! ولمَ لا يكون نجاحا؟ فلقد علمنا أساتذتنا (الناجحون) أن الثبات على المبدأ نجاح حتى وإن تمظهر فشلا!! وربح حتى وإن ظنناه خسارة!! وانتصار حتى وإن رأيناه هزيمة!!.. وهو رأي قوي... فأصحاب الأخدود ذهبوا وقوداً لنار الكفر، ولم يبق منهم أحد - كما في رواية - ومع هذه الخسارة الفادحة، والهزيمة المحزنة فإن الله لم يقل {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ }(11) سورة البروج، إلا لهم. لكن المشكلة أن الفشل (مبدأ) عند بعضنا، يصبر عليه، ويقاتل دونه... ومنطقنا يقول له: إنك من الناجحين...؛ لأن مبدأه (الفشل)، وهو قد صبر عليه!!، كما أن مبدأ أصحاب الأخدود (الإيمان)، وهم قد صبروا عليه... فقط تغير المبدأ، والصبر واحد..!!. وهذا سر فشلنا - يا سادة -: نحن لا نعرف النجاح!! نقع فيه صدفة دون أن نبحث عنه... ونبتعد عنه آلاف الأميال إذا بحثنا عنه... في التنظير ربما... النجاح ليس ورقة تجود بها مدرسة على طالب... والنجاح ليس ذاتيا، يكفيه الادعاء... والنجاح ليس شعورا تولده الظروف... والنجاح ليس وصفة يصرفها طبيب... ولا داء يحاصره دواء... ولا دواء يتطلبه داء... لا... النجاح عالم إشكالي، وتركيب معقد، يختلف من عصر إلى آخر... ومن ذات إلى أخرى... وهو لا يعني الحياة... ولا يشترط الموت... ورُبّ ناجح علقت صورته في متاحف الفاشلين... ورُبّ فاشل أشارت إليه بالأكف الأصابع الناجحة... ألم أقل لكم: إنه عالم إشكالي!!! عالم إشكالي حتى في أنفسنا... حتى في أنفس الناجحين... قيل لأحد المشهورين: أنت من أبرز الناجحين. فقال: أنا لا أحمل بطاقة نجاح واحدة حتى أكون أبرز الناجحين. وبعد أمة قيل له: عرفك الناس بالفشل الدائم؟ فانتفض انتفاضة الطير الممطور وقال: أشم في هذا السؤال رائحة الحقد والحسد... ولعل (نجاحي) سبب انتشار أعدائي.. ثم أنشد: وتنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ بربكم... كيف يمكنني أن أفهم هذا التضارب؟ كيف يمكنكم أنتم أن تفهموه؟! يقرر أنه لم ينجح أبدا، ثم يغضب إن نقلنا إليه تقريره..! إنه فشل السائل، وفشل المسؤول... وفشلي أيضاً لأنني لم أنجح في فَهْم ذلك التقاطع الرهيب... وفشلكم أنتم أيضاً إذا لم تفهموا ما أرمي إليه...!!. يقول أحد التربويين: وجدت ثلاثية النجاح: 1- الرؤية الواضحة. 2- المثابرة. 3- تجاوز الرسائل السلبية. وهذه الثلاثية ملخص آلاف الثلاثيات التي تضمنتها سير العلماء. وأما أنا فأرى النجاح - في أجمل أشكاله - تجاوزا للعقبات دون الخروج على قانون المرء والناس والحياة. ومعلوم أن لكل إنسان قانونا يضبط حياته... ونحن المسلمين لا نعرف قانونا يجمعنا أكبر من (الكتاب) و(السنة) فقد اشتملا على كل شيء... يقول تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، ويقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}... ولم يترك نبينا - عليه الصلاة والسلام - خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه... وحياتنا هذه جبلت على كدر، ونحن نريدها صفوا... مليئة بالمآسي قدر امتلائها بالأماسي... والمرء القوي لا بد أن يتجاوز عثراتها... إذن فنحن أمام منظومة نظامية كبيرة، هذه المنظومة لم تحجر واسعا، ولم تجعل علينا في الدين أو الدنيا من حرج... بل أعطتنا ضوءا أخضر ساطعا يسمح لنا بأن نتجدد كما النهر، وأن نتقدم باتجاه الآتي دون أن نخشى... بشرط واحد {رُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ }... ونحن - أيضاً - نعيش في حياة ملغمة بالعقبات... وقوتنا تفرض علينا المنازلة، ودخول الصراع... خاصة أن الحياة لا ترحم الذي يستسلم لها... من هنا يكون نجاحنا الأولي - نحن المسلمين - مرتبطا بتجاوز عثرات الحياة بطريقة يجيزها قانوننا الكبير!!... وأي تجاوز للعقبات بطريقة لا يجيزها ذلك القانون يكون فشلا حتى وان كسبه إعلام النجاح!!. الطالب الذي تجاوز صعوبة الامتحان بالغش يعد طالباً فاشلاً.. حتى وإن أعطته مدرسته شهادة بحجم السماء، مختومة بختم كأنه القمر!!.. يعد فاشلا؛ لأنه تجاوز عقبة الامتحان تجاوزا لا يقره قانوننا الكبير. وبلفظ آخر: لأنه نجح بطريقة فاشلة... وكل تجاوز قوي جاء بطريقة ضعيفة فهو نجاح فاشل!!... وكل نجاح بني على ضعف فنار الفشل أولى به... وكذلك المعلم الذي منح طلبته الفاشلين درجة الامتياز... فهو خائن حتى وإن قلده مدير المدرسة وسام (الأمانة)!. من هنا أعرف (راسبا) هو خير عندي من ألف (ناجح)... لأنه تجاوز عقبة الامتحان ب(الصبر) واستلم ورقة الإكمال ب(الرضا) و(الصبر على المصيبة) و(الرضا بالقضاء) تجاوزان يجيزهما قانوننا الكبير... لا... بل يدعو إليهما { اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ }...{ وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له }...... والصابر موعود بالجنة... لو فهمنا هذه المعادلة جيدا لأقمنا لذلك الراسب حفلا بمناسبة نجاحه.. وأقمنا لذلك الناجح مأتما بمناسبة رسوبه... أرأيتم كيف أنّا لا نعرف النجاح الصدقي؟!... هذا في جزء من أجزائه... فكيف لو قرأنا كلا لا يتجزأ...! الجهاد - مثلا - ذروة سنام الإسلام... وطريق خصبة لإعلاء كلمة الله... لكنه يأتي بالنقيض النقيض عندما يبنى على غير ما جاء به القانون الكبير. وهكذا كل مشكلة نتغلب عليها بطرائق غير مشروعة... لن نغلبها وإن غلبناها... ولن تموت وإن قتلناها... فما بال أقوام يداوون مرضاهم بالتي هي الداءُ؟ من كل ما سبق... يكون النجاح - كما أريده أن يكون - صراعاً: بين ذات وذات مثلاً أو بين ذات وقيمة أو بين ذات وبيئة أو بين ذات ونفسها أو بين ذات وشيء آخر... شرط أن ينتهي ذلك الصراع بانتصار الذات دون الإضرار بقيمة الذات، أو ذات القيمة... أبوبكر الصديق (نجح) في صراعه مع ذوات المرتدين... أحمد بن حنبل (نجح) في صراعه مع قضية خلق القرآن... الشافعي (نجح) في صراعه مع البيئة... وأيضاً: أديسون (نجح) في صراعه مع العاهة... وأينشتاين (نجح) في صراعه مع التجاهل المدرسي... كل هؤلاء - على اختلاف بينهم - نجحوا؛ لأنهم انتصروا في صراعاتهم، دون أن يهدروا قيمة الذات، أو يضروا بذات قيمة... وفي المقابل: لم ينجح (هتلر) وإن اعتمد الناجحون على كتابه الواهي (كفاحي)... ولم ينجح (نابليون) وإن ردد الخطباء شوارده العصماء... ولم ينجح (صدام) وإن صفقت له ثلاثة عقود... لأن هؤلاء انتصروا بعد أن شوهوا قيمة ذواتهم، ومزقوا ذوات قيمهم... يمكنكم أن تقيسوا هذا على كل المجالات... التعليم - مثلا - ميدان لا يخلو من مشاكل... وله مرجعية تحكمه - عندنا - هي (سياسة التعليم في المملكة)... وتجاوز مشكلات التعليم دون الخروج على سياسته - في الظاهر والباطن - هو النجاح الحقيقي. وعكس ذلك يعد فشلا كبيرا، حتى وإن تضمنه دليل النجاح التعليمي. التربية ساحة ملأى بالعقبات... ومسؤولية التربوي تفرض عليه أن يدخل مع تلك العقبات في صراع محموم... فإن ذللها دون أن يسيء إلى أساسيات تربيته فقد نجح... وإن ذللها بخروجه على أساسيات تربيته فقد فشل فشلا مبينا. إذن النجاح - في معرفتي الصغيرة - لا يتبين إلا في مواطن الصراع... ونجاحات بلا صراعات يمكن أن تخذلنا في أعقد الظروف... وللمرء مع الصراع - أي صراع - أربعة مواقف: 1- ان يواجه فينهزم. 2- ان يواجه فينتصر بطريقة غير مشروعة. 3- ان يواجه فينتصر بطريقة مشروعة. 4- أن يؤثر السلامة فيفر من المواجهة، وهو ما يسميه البعض (التفكير بالساقين). فأما الأول ففشل ناجح، وأما الثاني فنجاح فاشل، ويبقى الثالث هو النجاح الناجح، أقصد: النجاح الحقيقي الذي لا نراه إلا قليلا، والذي لا يعرفه إلا القليل من الناس... وأما الرابع فلا يصدق عليه (نجاح) ولا (فشل)؛ لأنه لم يتمخض عن صراع... إذن فإننا لن ننجح في أشياء حياتنا، حتى ننجح في فَهْم النجاح... في فَهْم النجاح: أنه صراع يصبو إلى هدف معين... صراع تغذيه مثابرة حقيقية... صراع يقبل الهزيمة كما لو كانت طريقه إلى سماوات النجاح... ألم يقل أحدهم: النجاح مجموعة فشل، كما أن الربح مركب من ألف خسارة... عظماؤنا الأوائل ملؤوا الدنيا، وشغلوا الناس... لو قرأنا حيواتهم لوجدناها صراعا... صراعا أعدت له عدته (الرؤية الواضحة، المثابرة، الصبر)... صراعا تظلله غمامة إخلاص هتانة... صراعا تجمله أزاهير التعاون، وروح الجماعة... يا سادة... إن الذي يسير إلى وجهة غير معلومة لن يجود - إذا جاد بشيء - إلا بما تجود به سحابة صيف... سيمطر أمته قطرات تحمل في أحشائها معنى الجفاف ثم يرحل.. يرحل من الأرض ومن النفوس... أما الذي يسير، ويعرف إلى أين يسير... ولديه قلب من حديد... وصبر يذيب بناره كل مصيبة... وإخلاص يقذف الأمواج، ولا تقذفه... فإنه الفاعل النجيب الذي سيخدم أمته ووطنه... وإن جاءت خدمته على شكل قطرات صغيرة... فحسب قطراته أنها لا تجف... و(أحب الأعمال إلى الله أدومها وإنْ قل) وبحسب الأستاذ سعد الكريباني فإن (قطرات الماء المتتابعة تملك القدرة على حفر أخدود مائي في الصخر الأصم). (وحتى لا أنسى) فإنني قلت لكم: إن النجاح لا يظهر إلا في مواطن الصراع... لأن ابن القيم (من أقدم منظري النجاح) كتب: (قد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم). مشهد: طلب مدير المدرسة من الأستاذ عصام أن يحاضر في الفصل (أ)، وهو الفصل الذي خصصه ذلك المدير لأبرز المتميزين في المدرسة، وطلب من زميله الاستاذ أنور أن يحاضر في الفصل (ب)، وهو الفصل الذي خصصه ذلك المدير لأبرز المخفقين في المدرسة... وبعد عام دراسي وجد مدير المدرسة أن النسبة العامة للفصل (أ) ارتفعت من 100% في العام الماضي إلى 100% في العام الحالي!! في حين ارتفعت النسبة العامة للفصل (ب) من 54% في العام الماضي إلى 65% في العام الحالي. أعد مدير المدرسة حفلا بهيجا في فناء المدرسة... كرم فيه الأستاذ عصام، وقلده وسام الإبداع؛ لأنه استطاع أن يرقى بفصله إلى النسبة الكاملة..!! (انتهى المشهد). لا تعجبوا يا سادة.. فإن سطحية التفكير هي التي قالت لذلك المدير (الناجح): إن (100%) أعلى من (65%)، وهي التي دفعته إلى ذلك التكريم - الإهانة.. والمبكي أن حياتنا مليئة بأمثال ذلك المدير... فكيف - بالله - نعلم أجيالنا النجاح؟ وكيف - بالله - نصنع للقابل الناجحين؟ ألا طوبى للغرباء... ولا نامت أعين الفاشلين. * الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض [email protected]