ظاهرة التعصّب ظاهرة قديمة حديثة، فالتاريخ يخبرنا بمئات القصص والوقائع التي كان التعصّب المحرِّك الرئيسي وراءها وهي حديثة لأنها ما زالت موجودة وتتجدّد باستمرار في عصرنا الحالي... وأياً كان نوع التعصّب فقد أدى إلى كوارث بشرية ومآسٍ وحروب وحشية أريقت فيها الدماء ولا تزال... ويقف وراء التعصّب أسباب عديدة، فهو أولاً وقبل كل شيء نزعة ذاتية أنانية (نرجسية) كامنة في كل كائن بشري ولكنها تطفو على السطح وتبرز إلى الواقع، حيث يتهيأ الجو الملائم لها حين تواجه الذات (الأنا) بالآخر وتتصوَّر أنه تتوقف على هذا الصراع مسألة الوجود من عدمه(1)، فالمسألة إذاً هي تصور - لا إيمان راسخ - بأن الآخرين هم الجحيم كما يقول سارتر، أو حين يتصوّر الفرد بأن الآخرين هم الصخرة وهو (سيزيف)، وإذا كنا نقر بأن الحياة هي صراع والصراع يكون من أجل البقاء، والبقاء للأقوى فهذا لا يعني بالضرورة أن هذا الصراع يستوجب إلغاء الآخر، وإعلان سيادة (الأنا) عملاً بمبدأ من ليس معي فهو ضدي، بل ينبغي أن يكون الصراع من أجل إبراز الخير للإنسانية، والبقاء سيكون للذي يناضل من أجل سيادة قيم الحرية والمساواة والإخاء والخير والسعادة لصالح الآخرين دون تمييز لدين أو مذهب أو عرق أو بلد... والتعصّب إذاً هو تقديس (الأنا) وإلغاء الآخر فكل ما تقوله (الأنا) يدخل في حكم الصحيح المطلق، وكل ما يقوله الآخر يدخل في حكم الخطأ، ويقود إلى موت لغة التواصل والحوار، وحين يموت منطق الحوار تنطق الحراب، إن جميع أنواع التعصّب ومظاهره خطيرة وتؤذي الضمير الإنساني بالانغلاق والانكفاء نحو الداخل، وارتداد على الذات والتقوقع بالانغلاق في زاوية ضيِّقة ورؤية قاصرة للكون، والبشرية في سعيها لتحقيق المجتمع الإنساني المثالي بحاجة دائمة إلى الانفتاح واستشراف الآفاق البعيدة وتمزيق الشرانق التي ترسم الدوائر الضيِّقة والتعصّب المذموم هو الذي ينصر الآخر بالحق والباطل على نحو ما قاله العرب في الجاهلية (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) قبل أن يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم مفهوم الجملة ويعطيها تفسيراً جديداً يتفق مع قيم الإسلام(2). ومن التعصّب أن تضفي على من تحب من الصفات ما يشبه القداسة أو العصمة، فكل ما يقوله حق، وكل ما يفعله فهو جميل، وكل ما يصدر عنه فهو صواب، وكل تاريخه أمجاد، وكل رجاله ملائكة سواء كنت تتكلّم عن مؤسسة أو ناد أو خلافه. ومن مظاهر التعصّب أيضاً ألا تذكر إلا المزايا والحسنات ولا تذكر للآخرين إلا العيوب والسيئات، وتعظيم مَن تحب مهما يكن فيهم من تقصير أو قصور، وتحقر الآخرين مهما يكن فيهم من رأي سديد أو سمو في العلم والعمل، وديننا يوجب على المسلم أن يكون عادلاً مع من يحب ومن يكره، يقوم لله شهيداً بالقسط ولو على نفسه ولا يخرجه غضبه عن الحق ولا يدخله رضاه بالباطل ولا تمنعه الخصومة من الشهادة لخصمه بما فيه من خير، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}النساء (135)، وقال سبحانه: {... وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} المائدة (8). ومن الأخلاقيات التي نراها لازمة للدلالة على التحرُّر من أسر التعصّب حقاً، أن ينظر إلى القول لا إلى قائله، وأن تكون لدينا شجاعة لنقد الذات والاعتراف بالخطأ والترحيب بالنقد من الآخرين، وطلب النصح والتقويم، والاستفادة مما عند الآخرين من علم وحكمة والثناء على المخالف فيما أحسن فيه والدفاع عنه إذا اتهم بالباطل. والتعصّب كلمة سلبية أينما جاء موقعها، وقد حصلت على شرف المشاركة في ندوة الرياضية عن دور الإعلام ومسؤوليته تجاه تحضير المنتخب لمونديال ألمانيا 2006م ونادى أحد المشاركين بضرورة التعصّب لأنه في رأيه الجاذب للجماهير، واستحسن مسؤول سابق لأحد الأندية وجود التعصّب قائلاً: جميل أن أتعصّب للنادي الفلاني، ولعله يقصد الولاء وبينهما فرق كبير، وأنا أقول ليس تعصّباً أن تحب النادي أو تعشقه أو حتى تهيم به، كما أنه ليس تعصّباً أن تكتب عن النادي المفضَّل مبرزاً إيجابياته شريطة عدم إغفال سلبياته وتناولها بالطرح الجميل والنقد البنَّاء الذي يساعد على تلافي هذه السلبيات أو يلفت النظر إليها لكن التعصّب في صحافتنا الرياضية أن تبرز إيجابيات لاعب أو ناد على حساب لاعب أو ناد آخر، بل تصل إلى إغفال الآخر وتشويه منجزه أو سمعته لمجرد الميول، أما أن يرى أحدهم إذكاء التعصّب معتقداً أنه يجلب الجماهير ويعيدها إلى المدرجات فهذه إشكالية يجب الوقوف عندها ولعله كان رأياً أحادياً لم يُلتفت إليه، وعزوف الجماهير مرده وفي رأيي الشخصي لأسباب كثيرة اقتصادية واجتماعية وديموغرافية وتتمثَّل من وجهة نظري في التالي: 1- قلة الكثافة السكانية عموماً. 2- كثرة الأندية مقابل هذا العدد القليل من السكان. 3- الرفاهية التي يعيشها هذا المجتمع، فلن يترك الشاب سيارته الفارهة وجدوله اليومي ليذهب إلى المدرج لساعتين أو ثلاث وهو يستطيع متابعتها خلال الشاشة وعلى أريكة منزلية فاخرة مخدوماً محشوماً. 4- كذلك مجتمعنا المحافظ بطبعه أفرز شريحة كبيرة جداً محافظة فهي إن لم تكن تحرِّم الرياضة فهي على الأقل تعيبها أو لا تحضر المباريات أو تشجّع تلك الرياضة. 5- شريحة لا يستهان بها من جماهير الأندية في المدن غير الرئيسية والتي ليس بها فريق ممتاز مثلاً ويعوقها صعوبة الانتقال الدائم إلى تلك الملاعب. 6- النقل التلفزيوني الفضائي ولو اقتصر على الأرض لزاد الإقبال قليلاً. 7- غياب نجوم الشباك البارزين الذين يستحقون تكبد العناء والحضور. 8- أسلوب حياة النجم الحالي ومعاملته لجماهيره وعدم قدرة هؤلاء اللاعبين (النجوم) على ترسيخ هذا الحب واستثماره لصالحهم وصالح النادي واللعبة. 9- النظرة المجتمعية السلبية للأندية والمترسخة منذ زمن لدى العامة وبعض المتزمتين، وتقصير مسؤولي الأندية في السعي لمحو هذه النظرة بتطوير أسلوب عمل الأندية وتنويع نشاطاتها بما يحوّل - مع الزمن - تلك النظرة إلى إيجابية أكثر. 10 - تنوّع الملهيات وأشكال الرفاهية على عكس الزمن الماضي، حيث لم يكن هناك غير المباريات التي تنتظرها الجماهير على أحر من الجمر ودونه (نرفد العيّر) بتشديد الياء. 11- اقتصار البطولات والتنافس في عشر السنوات الأخيرة على ناديين وأحياناً ثلاثة أخمد جماهير الأندية الأخرى وأطفأ جذوة حماسها لحضور المباريات والتشجيع والمساندة. 12- تغيّر مستوى وثقافة وأسلوب عمل الكثير من رؤساء الأندية وجنوحه إلى الفردية وتبجيل الفرد بعد أن كانت الآراء شبه جماعية وللآخرين رأيهم دون تفرّد واضح كما هو حاصل الآن في كثير من الأندية. ولي عودة أخرى للكتابة عن دور الإعلام الرياضي عموماً وهي نقطة مهمة أثارها الكاتب صالح الطريقي، وكذلك عن دور الإدارة وهي نقطة أخرى هامة أثارها سمو الأمير نواف بن محمد. والله من وراء القصد. *** (1) آفة التعصّب سمير حوراني (2) أخلاقيات التحرّر من التعصّب د. يوسف القرضاوي