إننا ما لم نؤكد للعالم بأقوالنا وأفعالنا أننا متسامحون فيما بيننا أولا، ومتسامحون مع غيرنا ثانيا، فستبقى صورتنا كما هي عليه الآن، صورة الإرهابي الذي لايتقبل الآخر، صورة المجرم الذي لايتعامل مع المختلف عنه إلا بمنطق العنف لم يحظ المؤتمر الإسلامي الكبير، والذي عقد في العاصمة الأردنية «عمان» -قبل اسبوعين بالتغطية الإعلامية التي توازي حجم تلك الظاهرة الإسلامية، والتي كانت تظاهرة كبيرة، تستحق الاحتفاء بها، وهي كبيرة، سواء من حيث عدد المشاركين من العلماء «مائة وثمانون عالماً ومفكرا» أو من حيث عدد الدول المشاركة «أربعون دولة»، مما يعطيها -بحق- طابع الشمولية التي لاتتوفر -غالبا- في المؤتمرات ذات المهمات المماثلة. وإذا أضفنا إلى هذا الثراء والتنوع، ما نصت عليه التوصية الأخيرة التي خرج بها المؤتمر، والتي تؤكد على أهمية التسامح المذهبي، أدركنا أهمية أن يعمم كل هذا التنوع المثري، وأن يجري الاحتكام إلى إجماعة، خاصة في هذه الفترة التي يعاني فيها العالم الإسلامي من حمى الاحتراب الداخلي المتمذهب، ومن العنف الأصولي الخارجي الذي أعطى العالم صورة للمسلمين شوهاء، يصعب أن تنمحي -أو تمحى- في وقت قريب. ربما تكون الخلفيات السياسية التي تقف خلف هذا المؤتمر، هي مادعت كثير من القنوات الإعلامية إلى إهماله أو تهميشه. لكن -مع الإقرار بهذه الخلفيات، والتي ليست سلبية بالضرورة- فإن توصيات المؤتمر، وما تم طرحه من أبحاث ذات اهتمامات متباينة، مبنية على بعد نوعي في المشاركة، تفتح آفاقاً غير محدودة لمعاينة الإشكال الإسلامي الراهن، وتقترح -في الوقت نفسه- شيئاً من الحلول الأولية التي يمكن أن تقوم بتدخل «إسعافي» لهذا الجسد الإسلامي الجريح. ولعل أهم ماخرج به هذا المؤتمر المتنوع المتسامح، والذي شاركت فيه هيئات علمية معتمدة لدى عموم المسلمين، تلك التوصية التاريخية التي أكد عليها الجميع، والتي تقضي بعدم جواز تكفير أتباع المذاهب الإسلامية الثمانية، وهي: المذاهب السنية الأربعة، والمذهب الجعفري والزيدي الإباضي والظاهري. أي أن أتباع هذه المذاهب -جميعا- مسلمون، تجري عليهم أحكام الإسلام، دون تفريق. وهذه الفتوى -كما يظهر- ليست مجرد توصية عابرة في مؤتمر عابر، وإنما هي إجماع إسلامي يستند على فتاوى مرجعيات علمية معتمدة عند أتباعها ،كشيخ الأزهر، ومفتي مصر، وآيه الله العظمى السيستاني، ومفتي سلطنة عمان، ومجمع الفقه الإسلامي، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في تركيا، ومفتي الأردن، والشيخ يوسف القرضاوي. وأجمع العلماء -أيضا- على عدم جواز تكفير أصحاب العقيدة الأشعرية، ومن يمارس التصوف الحقيقي. إضافة إلى عدم جواز تكفير أية فئة أخرى من المسلمين؛ تؤمن بالله وبرسوله وبأركان الإيمان، ولا تنكر معلوماً من الدين بالضرورة. لاشك أن مثل هذه التوصيات الشجاعة من لدن مرجعيات علمية معتبرة، كفيلة بمحاصرة التكفير؛ فيما لو جرى تعميمها في الواقع الإسلامي، قد لا يكون من السهل أن تندغم الجماهير الشعبية - المأخوذة بتاريخ طويل من التشرذم المذهبي- في مثل هذه التوصيات التقدمية، لكن الاشتغال عليها من قبل الداعية الديني والثقافي والإعلامي والتعليمي، لابد أن يؤدي إلى نتائج إيجابية في تحقيق التسامح داخل الإسلامي وخارجه. في التاريخ العقدي لهذه المذاهب جميعا، نفي واضح وصريح وحاد للآخر المذهبي. والتشقيق الذي اشتغل عليه العقائدون المتمذهبون في تاريخهم الطويل، وشرعنوا فيه -بجهل- للصراع والاحتراب باسم التفسيق والتضليل والتبديع والتكفير، مازال تاريخا عقائدياً فاعلاً إلى اليوم في شعور الملايين. وقد استطاع الأصوليون -في هذا المضمار المبني على الصراع- أن يقنعوا أتباعهم السذج بأهمية الاشتغال على هكذا تفريعات عقائدية ما أنزل الله بها من سلطان. وأن يجيروا الجماهير البائسة لصالحهم، تلهث من ورائهم، تضلل وتبدع وتكفر، وهي -في كل ذلك- تعتقد أنها تتقرب إلى الله. وإشكالية العقائدي التي تجعل منه صانع «قنابل فكرية» أنه لا يكتفي بعرض رؤيته الخاصة وتصحيح مذهبه، وإنما يتبع ذلك التصحيح بتضليل الآخرين وتكفيرهم، مقدما مذهبه الخاص المتخم بدقائق عقائدية -هي بالضرورة مبتدعة- وكأنها الحق الأبلج الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن على الآخرين أن يتركوا مذاهبهم الباطلة ويتبعوا معتقده الصحيح!. ومما يزيد الأمر تأزما، أن هذه التفريعات العقائدية التي رسختها مراجع المذهب -أي مذهب- جرى رفعها إلى درجة الأصول الإيمانية، وأحيطت بهالة من القداسة التي تمنحها حصانة ضد النقد والمراجعة، بل ضد إعادتها إلى موضعها من الهامش. ولم يعد أحد يجرؤ على التساؤل حول شريعة مثل هذا التفريع، والذي قد يكون -في أحيان كثيرة- مباحث في الميتافيزيقا، وليس له ارتباط مباشر بالواقع العملي. ومع أن المراجعة النقدية الفاحصة للتراث العقدي الممتد لأكثر من ثلاثة عشر قرنا، قد أصبحت ضرورة ملحة حتى في داخل المذهب نفسه، إلا أنه يصعب على الغالبية العظمى -من المقتاتين على التنظير العقدي- السماح بهذه المراجعة، فضلا عن القيام بها ابتداء، وكل محاولة في هذا الشأن، مهما بدت هادئة ومطمئنة، ستواجه بعنف أصولي متشنج. ولعل ما واجهه الشيخ المحقق، حسن المالكي، عندما أصدر كتابه «قراءة في كتب العقائد» من اهتياج سلفي غير مبرر، كفيل بأن يبين حجم الذعر الذي يتلبس المؤدلجين والتقليديين، عندما يتم فضح مرتكزات الأدلجة ومحددات التقليد على نحو صريح، والردود التي لاحقت هذا الكتاب كانت -على كثرتها- كاشفة بنفسها عن عجز رهيب عن الرد على مفردات الإشكال المطروح، وإنما هي ردود بالعموميات وبالهجاء الشخصي، فضلا عن الموعظة الساذجة التي ليست من الرد العلمي في شيء. صحيح أن هذا الذعر قد يكون نابعا من أن النظرة إلى الفاعلية النقدية ما زالت عند السلفيين التقليديين نظرة بدائية، إذا يتصور الكثير من التقليدين أن النقد هدم والغاء، بينما هو ترميم بناء، ولكن بصورة غير مباشرة، النقد مجرد تشخيص للأمراض واقتراح سلمي للعلاج، ولكن النظرة البدائية لا تفهمه على هذا النحو الذي يجعله مفيدا للفكر موضوع النقد. بل تراه هجاء صريحا لها ولمنظومتها. ومن هنا تأتي ردة الفعل القوية الغاضبة التي تسعى لإجهاض المحاولة النقدية الفكرية، ولو بطرائق من خارج ميادين الفكر. التسامح الذي جرى التأكيد عليه في المؤتمر الأردني، لا يمكن أن تتم بمجرد أن توصي الزعامات الدينية أتباعها بضرورة التسامح مع أتباع المذاهب الأخرى وعدم تكفيرهم، وإنما لا بد أن يتم في الوقت نفسه مراجعة كتب العقائد التي تتكئ عليها الذاكرة الشعبية ومديني المجتمع. مثلا -مجرد مثال- لايمكن أن يقول المرجع الشافعي لأتباعه :لاتكفروا الجعفرية أو الإباضية، بينما في المرجعيات العقدية التي ترجع إليها الجماهير الملتفة حوله مقولات التكفير والتبديع لهذا المذهب، بل والزعم أنهم -كما عند بعض المتعصبين- أعدى من اليهود والنصارى!! إن الجماهير -في حالة عدم مراجعة البنية العقدية التي تشكل وعيها- تقع في حالة انفصام حاد. فهل تصدق هذا الطارئ الظرفي الذي ينطق الداعية المتسامح من خلاله، أم تصدق تلك المرجعيات المعتمدة في المذهب، وهي ذات التاريخ العريق؟! لا شك أن الأولوية لتلك المرجعيات، ومن هنا فالأولوية المراجعة النقدية، وتصحيح -نعم تصحيح- كل ملامح النفي والإقصاء والإرهاب الفكري في أي مرجع مذهبي، مهما بدا هذا المرجع منيعا ومحصنا ضد النقد والمراجعة؛ التطاول الأمد عليه. ولا يكفي لتفعيل هذه التوصية التاريخية المهمة أن يترك الأمر فيها للجدلية الفكرية الخالصة، تلك الجدلية التي قد تأخذ وقتا طويلا في الترسيخ لمفهوم التسامح، بينما المجتمعات الإسلامية في أمس الحاجة إلى واقع فعلي متسامح، لابد من تشريع قانوني عاجل، في جميع الأقطار الإسلامية، يتم بموجبه حظر التكفير ومقدماته، بناء على حيثيات هذه التوصية، وأن يكون المروج لتكفير أي مذهب من هذه المذاهب الإسلامية التي أفتى العلماء في هذا المؤتمر بإسلاميتها واقعا تحت طائلة القانون. وكما أن التعرض للسامية في الغرب يعتبر جريمة في نظر القوانين الغربية، فلا بد أن يكون التعرض للمسلم « الذي نص هذا المؤتمر بالإجماع على إسلامه» بالتكفير -وهو أقسى أنواع السب- جريمة، بل نحن أولى بذلك، لأن هذا التكفير المذهبي الذي نعاني منه، إنما هو تراشق بالتكفير بين أبناء الواحد، و-أحيانا- في الوطن الواحد. وليس المراد بسن قانون «عدم التكفير» الحجر على التكفير في شؤون المذاهب الإسلامية، وممارسة النقد والمراجعة، حتى من قبل غير المنتسبين إليها، وإنما المراد أن تكون هذه المراجعات والتصويبات التي يطرحها كل مذهب في تصوره لغيره من المذاهب لاتصل إلى درجة التضليل والتكفير، كما هو -للأسف- واقع الحال في بعض محاضننا التعليمية، الرسمية وغير الرسمية. يمكن لي أن أناقش من أختلف معهم من أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى، وأحدد اعتراضاتي الفكرية تحت مصطلح « الخطأ» دون أن أكفر بناء على ما اتصوره خطأ عن الآخر، التكفير ليس مجرد رأي في الآخر يمكن السكوت عليه، بل هو حكم شرعي، يجر وراءه أحكاماً كثيرة، ويقيم حواجز نفسية يصعب تجاوزها، خاصة لدى الجماهيري الغوغاني الذي جرت أدلجته -علم أم لم يعلم- بمفاهيم الولاء والبراء. ان هذه التوصية -على أهميتها القصوى- لم تأت بجديد على الإسلام المعياري في صورته الأولى، فليس الأصل في الإسلام أن يكون الإنسان المسلم على شيء من هذه المذاهب التي تفرق ولا تجمع، وإنما الأصل أن يكون مسلماً فحسب. التمذهب جرى لاحقا، ومن المؤسف أنه أسس للفرقة الإسلامية والاحتراب الإسلامي، والأمة الإسلامية مازالت في طور تشكلها، تبحث لها عن موضع قدم في البناء الأممي الحضاري. ولقد دعم هذا التفرق والتعصب -إن لم يكن صنعه منذ البداية- الاغتصاب الأموي للأمة، والذي استفاد أكبر فائدة من هذه الفرقة التي جعلت الأمة تئد مبادئها الحضارية في وقت مبكر، مبكر جدا، وما زال الكثير من السذج يعيشون على ذلك التراث الذي صنعه أعداء الأمة، معتقدين أنهم يحمون حمى الأمة.! وإذا كانت هذه التوصية التي جرت مقاربتها على نحو عابر، تمس علاقة الإسلامي مع الإسلامي، فإن إحدى التوصيات قد أكدت علي أهمية أن يساهم المسلمون في دعم المبادئ المعامة الإنسانية المشتركة ، مثل: حقوق الإنسان، والعدالة، والقيم والأخلاق، ومحاربة الجهل، ومحاربة العنصرية ...إلخ، ولا شك أن المسلمين في واقعهم الحالي ليس لهم دور يذكر في تأييد هذه المبادئ العامة والدفاع عنها، وهذا يعطي إيحاء بأن المسلم لا يبالي بمثل هذه المبادئ الإنسانية، خاصة في هذا الظرف الذي يجد فيه المسلم نفسه متهما بالإرهاب، قبل غيره من بني الإنسان. التسامح ليس كلمة تقال، وإنما هي أقوال وفعال، تدخل في جدلية مع الواقع، لتثمر واقعاً مغايرًا، إننا ما لم نؤكد للعالم بأقوالنا وأفعالنا أننا متسامحون فيما بيننا أولا، ومتسامحون مع غيرنا ثانيا، فستبقى صورتنا كما هي عليه الآن، صورة الإرهابي الذي لايتقبل الآخر، صورة المجرم الذي لايتعامل مع المختلف عنه إلا بمنطق العنف. إن السكوت على حالة الإقصاء المتبادل فيما بيننا، وفي تعاملنا مع الآخر، جريمة بحق ديننا، قبل أن تكون جريمة بحق أنفسنا، ومن هنا، فعلينا العمل -فكريا وعمليا «قانونيا»- على تفعيل التسامح في مؤسسات المدني والديني، والتصدي يحزم لكل من يريد بث روح الفرقة والتنازع بين أفراد الأمة الواحدة. ومما هو معلوم أن كثيرا من توصيات المؤتمرات تموت بمجرد انفضاض سامر المؤتمرين، ولا يبقى منها إلا ذكريات اللقاءات العابرة بين المشتركين في دهاليز المؤتمر وأورقته. لكن ، عندما تكون التوصية -كما هي الحال في هذا المؤتمر- متجاوبة مع ظرف تاريخي، فإن إمكانية تفعيلها تكون أكبر، وترسيخها في قيم الجماهيري أيسر، والعالم الإسلامي اليوم أحوج ما يكون إلى التسامح والتصالح مع نفسه ومع الآخر، وبهذا؛ فلا شيء يقلقه اليوم كعدم التسامح الذي تروج له الأصوليات على امتداد العالم الإسلامي. وبديهي أن التسامح مع أعداء التسامح، إنما هو دعم مباشر لموقف التعصب والإرهاب، وصرامة القانون في التصدي لمن ينشر إيديولوجيا التكفير والإرهاب لا تعني حدية القانون، بل هي قمة التسامح مع المجتمع، لأن فيها حفظ الحقوق الإنسانية لأبناء المجتمع كافة، هناك الكثير من يخترق مؤسساتنا التعليمية والدعوية، ويوزع -تحت دعاوى البحث العقدي- تهم التكفير على هذا الفصيل المذهبي أو ذاك. هؤلاء لابد أن يعلموا أن التهم التكفيرية -ولو لغير المعين- تهم سيحاسبون عليها؛ إذ إن مجرد تكفير المذهب إنما هو -في واقع الأمر- تكفير صريح لأتباعه. فمتى يسكت هؤلاء الذي طالما أكلت ألسنتهم أعراض المسلمين؟!