هل هناك معايير منهجية لإصدار حكم بتخطئة سلوك أو فكر ما، أو تصويبه؟ يقينا: نعم، ثمت معايير منضبطة، نلتمس منها ما يلي: أولاً: المعيار الشرعي ويتلخص في ثلاثة أصول: 1- الكتاب الكريم: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}. فإنه محكم قطعي الثبوت بإجماع المسلمين قاطبة، أما دلالته فبحسب الحال. - فمنه قطعي الدلالة لا تجوز مخالفته، وهو كثير، وفيه أبواب الإيمان وأصول الدين، وضوابط الشريعة التي تحكم بناءها. - ومنه ظني الدلالة، وهذا يرجح فيه بحسب اختلاف العلماء، وأقاويل أئمة اللغة وأهل التفسير. وقد يلحق قوم نصًّا بالقطعي، وآخرون بالظني، وهذا قليل، ويُجرى فيه الاجتهاد والترجيح. 2- السُّنّة النبوية: فما ثبت وصحَّ من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وظهرت دلالته، ولم يوجد ما يعارضه، لم يسع أحداً مخالفته. وقد يوجد في السُّنّة أيضاً ما يقطع الدارسون المحققون بأنه قطعي ثابت (متواتر)، ويخفى على غيرهم ممن ليس من أهل الاختصاص، وهذا يمكن لنا تسميته (القطعي النسبي)؛ لأنه ثابت يقيناً عند من درس الأسانيد ومحصها، وتتبع الطرق والروايات وجمعها، وليس كذلك عند غيرهم من علماء الفقه والأصول، فضلاً عن سواهم، وأهل الحديث يختلفون في الأحكام والنظر. وهذا يختلف حكمه عند من يقطع به - فيلزمه اعتقاداً وعملاً - عن حكمه عند من لا يقطع به، أو لا يقول به أصلاً، أو لا يعلم به. 3- إجماع العلماء: والمقصود الإجماع القطعي الثابت، مع أن الاستقراء يفيد أن ما عليه جمهور أهل العلم هو غالباً أقرب إلى الصواب، لكن لا يقال إنه صواب مقطوع. ثانياً: المعيار المصلحي والشرع جاء بالمصلحة، فما يحقق المصالح، ويدفع المفاسد فهو صواب، وما يجر المفاسد ويفوت المصالح فهو خطأ، وما كانت مصلحته أرجح فهو مطلوب، وما كانت مفسدته أرجح فهو مطَّرح. وحين يقرر العلماء أن العمل الصالح هو ما كان خالصاً صواباً، كما قال الفضيل بن عياض في تفسير {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}وقرره كافة أهل العلم؛ فإن الخالص هو ما حسنت فيه النية، والصواب هو ما كان على وفق سُنّة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن كان في العبادات وقضايا التشريع، أو ما كان يحقق المصلحة العامة إن كان في مسائل الحياة المترددة، أو في دائرة المسكوت عنه، ولهذا بحث خاص. وقد وضع الأصوليون قواعد ضابطة لهذا الباب، مثل قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وقاعدة تقديم أعلى المصلحتين، ودفع أعلى المفسدتين، وقاعدة دفع المفسدة مُقَدَّم على جلب المصلحة، والمقصود: عند التساوي والتردد. وإلا فإن المصلحة الراجحة تطلب ولو كان في طيها مفسدة دونها، والمفسدة الراجحة تدفع ولو ترتب على دفعها فوات مصلحة أقل، وهذا من الميزان العدل. لكن كيف نعرف المصلحة؟ تعرف - فيما لا نص فيه - بالعقل والنظر والفهم والاستنباط وقوة الإدراك. فمن كان أوسع عقلاً، وأعظم تجربة، وأكثر اطلاعاً واستيعاباً لمقاصد الشريعة، فهو أقدر على معرفة الصواب الذي يتعلق بالمصالح. وأمور المصالح في غاية الأهمية والجدارة بالدرس والمناقشة؛ لأننا نجد في حياة الناس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدعوية إشكالات وتناقضات واختلافات واسعة، وكل طرف يستدل بدليل، وقد لا يكون الدليل مستقلاً بهذه المسألة إلا مع مراعاة جانب المصلحة، وقد يبالغ المستدل في الاتكاء على نص ملتبس بما يوقع الحيرة والشك، مع أن مدار الأمر حقاً على رعاية المآلات والمصالح، واستحضار جانب المقاصد الكبرى للشريعة، وهو الفقه الأكبر الذي لا يحسنه إلا الجهابذة {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}. وليس المراد بالمصلحة مصلحة الفرد أو الحزب أو الطائفة أو الجماعة، وإنما مصلحة المجموع: الأمة أو البلد أو الشعب بأكمله، إلا إن كانت القضية خاصة فينظر فيها لمصلحة الفرد أو الطائفة بحسب التعلق. والمحُتَكم هنا إلى {الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} من أهل العلم الديني والدنيوي، ومن حكماء الأمة وعقلائها وذوي الرأي فيها. قال الإمام العز بن عبدالسلام في قواعد الأحكام: (وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك جلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد، راجحها ومرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، إلا ما تعبد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تَعرِفُ حسن الأعمال وقبحها) ا.ه. وكلما كان الاجتهاد أوسع بحيث تديره مجموعة من أهل العلم والفضل والدراية، كان أفضل من الاجتهاد الفردي، وأخلق بالصواب، وأبعد من الشطط، خاصة في هذا العصر الذي تشابكت فيه المصالح، وتداخلت الاختصاصات، واتسعت دائرة المعارف والعلوم، وسهل الاتصال بين فئات الناس. فالحاجة ماسة إلى مجامع علمية شرعية للبحث والفتوى والنظر، يتنادى إليها علماء الإسلام من كل بلد، وإذا أمكن أن تكون تلك المجامع العلمية التي تدرس وتحرر بمعزل عن المؤثرات السياسية، كان ذلك أدعى إلى حيادها، وقدرتها على النظر المتوازن، ولكن هذا مما عمت به البلوى في بلاد الإسلام خاصة، فيراعى الموضوع المدروس وطبيعته وصلته بالمصالح السلطانية وغيرها. ثالثاً: المعيار الذاتي إذ ان الفرد قادر في العديد من الحالات على إدراك الخطأ والصواب، والمرضي والمذموم، بواسطة مؤشر في قلبه يؤكد له أنه يفعل خطأ، أو يطمئنه أنه مصيب. وهذا ما نجده في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (استفت قلبك، واستفت نفسك - ثلاث مرات - البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك). رواه أحمد والدارمي عن وابصة بن معبد. إنسان يسأل عن نظرة أطلقها؟ قلبه يفتيه؛ لأنه يشهد أثر هذه النظرة عليه مرضاً وشهوة وحرماناً، أو يشهد أثرها صرفاً للبصر، أو يشهد أثرها إعراضاً وعدم مبالاة. وهذا يقع غالباً في المسائل الشخصية التي يتدين الإنسان فيها بينه وبين ربه في مسائل البر والإثم، وقد يقع الحرج أو الوسوسة فيكون ما في القلب دليلاً يفتي فيه الإنسان نفسه، لكن لا يفتي غيره، وهي مسألة لطيفة. هذه بعض معايير معرفة الخطأ والصواب، وصدق الله إذ يقول: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ويقول سبحانه: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}. فالنفس الصافية كالزجاج تنعكس عليها الحقائق.