كل كلمة تصدر عن الإنسان لايمكن أن يلدها قلم أو تخطر على بال ويقولها لسان.. هكذا.. وفجأة بل لابد أن تكون خلاصة لتجارب العقل والقلب والسنين، فكل كلمة تصدر عن الإنسان هي في الواقع عالم بحد ذاته، عالم مستقل، عالم يجعل كل كلمة وكأنها لذاتها كتاب، لتقرأ ككتاب، ولتفهم ككتاب، ولتعامل ككتاب، كتاب يمكن تقسيمه إلى أبواب وفصول، وكل فصل فيه يمكن أن يكون ألف صفحة وصفحة، هذا كله لأننا جميعاً كبشر نتحدث عن شيء للبشر اسمه الكلمة، الكلمة ذاتها، بجميع صفاتها، بقوتها، بتأثيرها، بسحرها، بفائدتها، بوقتها، بأنواعها، بتعدد معانيها، باستخداماتها، بحروفها، بأشكالها، بقيمتها، بروعتها، وبعظمتها، دعونا جميعاً نتخيل هذه الحياة من غير الكلمة، ما الذي سيكون عليه حال الإنسان ؟ كيف سيكون هذا العالم لو قرّر كل من على وجه هذه الأرض من البشر أن لا يكتبوا ولا يسمعوا ولا يقرأوا ولاينطقوا أي كلمة لمدة يوم واحد أو ساعة واحدة أو دقيقة واحدة أو حتى لثانية واحدة؟ كيف سيكون هذا العالم من غير كلمة والكلمة حياة؟ كيف سيكون هذا العالم من غير كلمة والكلمة تاريخ؟ كيف سيكون هذا العالم من غير كلمة والكلمة حدث؟ كيف سيكون هذا العالم من غير كلمة والكلمة فعل؟ كيف سيكون هذا العالم من غير كلمة والكلمة عمل؟ كيف سيكون هذا العالم من غير كلمة والكلمة حركة؟ كيف سيكون هذا العالم من غير كلمة والكلمة مكان؟ كيف سيكون هذا العالم من غير كلمة والكلمة زمان؟ كيف سيكون هذا العالم من غير كلمة والكلمة شعور؟ كيف سيكون هذا العالم من غير كلمة والكلمة اتصال؟ دعونا جميعاً نتأمل كل كلمة نقرأها أو نكتبها أو نسمعها أو نقولها، دعونا نفعل ذلك بطريقة تحليلية وتفصيلية متعمقة تجعلنا ننظر إلى الكلمة على أنها الإنسان ذاته بكل صفاته وطموحاته وبيئته وعواطفه وقدراته. دعونا نفعل ذلك ونحن نسأل أنفسنا عشرات الآلاف من الأسئلة عن الكلمة، من ذلك نسأل: لماذا تغضبنا كلمة؟ لماذا تسعدنا كلمة؟ لماذا تصنعنا كلمة؟ لماذا تنهينا كلمة؟ لماذا تحيرنا كلمة؟ لماذا تختلف الكلمة التي يقولها(أ) من الناس في قيمتها وفي معناها عندما يقولها (ب) من الناس؟ ماذا لو أن المعنى والقيمة والاستخدام للكلمة لاتتغير أبداً مهما كانت العوامل والأسباب؟ وهل عند ذلك كانت حياة الإنسان ستكون أفضل أم أيسر أم أعقد؟ وهل معنى وقيمة الحياة التي يعيشها كل إنسان هما في الحقيقة معنى وقيمة الكلمة التي يستخدمها ويعنيها؟ إنها الكلمة، نعتقد أننا نقولها ونسمعها ونكتبها ونقرأها مع أنها ربما تكون هي التي تقولنا وتسمعنا وتكتبنا وتقرأنا، فمن يقرأ من؟ ومن يكتب من؟ ومن يسمع من؟ ومن يقول من؟ ومن يكون من؟ ولماذا مثلاً لا تتحرك ألسنتنا ولا يسمعنا أحد ونحن نتكلم في أحلامنا؟ إنها الكلمة، نعتقد أننا نستخدمها لتترجم لنا ما نريده مع أنها ربما تكون هي التي تستخدمنا لنترجم لها ما تريده هي وليس نحن، وإلا لماذا نعجز أحياناً كثيرة عن التعبير عن أنفسنا وعن فهم بعضنا البعض؟ إنها الكلمة، نعتقد أننا نملكها مع أنها ربما تكون هي التي تملكنا، فإن كنا نحن الذين نملكها، فلماذا إذاً القراءة والاطلاع الواسع لا يمكن لهما أن يصنعا من أحدنا شاعراً أو أديباً؟ وإن كانت الكلمة هي التي تملكنا، فما هي المعايير التي تجعلها ترتمي طواعية في أحضان قلم أحدنا أو لسانه أو عقله أو ريشته أو في بعض أو كل ذلك فيفعل بها إبداعياً ما يشاء ولا تكون كذلك معنا جميعاً؟ كل شيء عن الكلمة يقول إنها الكلمة، تدخل فينا كلمة، وتخرج منا كلمة، وتجعلنا الكلمة كلمة، فيا أيها الإنسان أنت كلمة، ويا لعظمة الكلمة عندما تكون الكلمة كلمة. إنها الكلمة، إنها الكلمة، إنها الكلمة، إنها الكلمة التي لايوجد عقل بشر يستطيع أن يدعي أنه يعلم الإجابة الكاملة على أحد الأسئلة التي لها علاقة بالكلمة، لا لأنها لغز ولا لأنها أسطورة أو معادلة رياضية صعبة ولكن لأنها أكبر من هذا كله، لأنها نعمة وراءها حكمة لم يدرك عقل الإنسان من معانيها وقيمتها حتى الآن إلا ربما قشورها، وبما أن الدراسات العلمية أثبتت أن العقل البشري يتطور عبر الزمن في نموه من حيث حجمه وقدراته، فربما سيأتي اليوم الذي يمكن أن يكون لدينا ولو إجابة واحدة ممكنة على سؤال واحد من كل هذه الأسئلة عن الكلمة. وحتى يأتي ذلك اليوم، تعالوا الآن كي نأخذ مثالاً حديثاً على روعة الكلمة وعظمة الكلمة وقوة الكلمة وقيمة الكلمة، تعالوا نقرأ سوياً ونفكر سوياً في هذه المعاني السامية لكلمات أقوى من الصخر وأغلى من الذهب قالها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في يوم البيعة: (شغلي الشاغل إحقاق الحق وإرساء العدل وخدمة المواطنين كافة بلا تفرقة ثم أتوجه إليكم طالباً منكم أن تشدوا أزري وأن تعينوني على حمل الأمانة وأن لاتبخلوا علي بالنصح والدعاء). وبعد قراءتنا وبعد تفكيرنا، دعونا جميعاً نقف احتراماً وتقديراً للقائل وللكلمات وللمعاني. ودعونا جميعاً ونحن نتحدث عن الكلمة نقول كلمة، كلمة وفاء نبعث بها إلى فقيدنا وفقيد العالم والأمة، دعونا جميعاً نقول: لن ننساك وستبقى في قلوبنا دائماً وأبداً يا فهد. وليتك تأتي إلينا لترى كيف أن رحيلك عنا قد فجر في نفوسنا براكين الأحزان.