قال لي صاحبي: ذهبت يوماً إلى إحدى المحاكم في حاجة، وفيها قاضٍ من زملاء دراستي، فلما انتهيت من حاجتي توجّهت إلى مكتبه للسلام عليه، ولم يكن وقتها في جلسة قضاء، فسلَّمت عليه، فردَّ السلام بصورة مقتضبة، واتجهت إليه مصافحاً فمدَّ لي يداً مسترخية، قلت في نفسي: لقد نسيك الرجل، فابتسمت له وقلت: أنا زميلك فلان بن فلان، فكأنني والله زدته بي جهلاً، ولم ينفرج ثغره ولا أسارير وجهه عن بشاشة زميلٍ وأخٍ بيني وبينه أيام وذكريات في الدراسة وطلب العلم، فخرجت من عنده وأنا أضرب كفّاً بكفٍّ وأقول: سبحان الله هكذا يتحوَّل القاضي إلى شخصٍ مقطِّب الجبين، وحينما حدَّثت بهذه القصة بعض أصدقائي قال: هذا وقار القضاة، ماذا تريد منه؟ أتريد أن يضحك لك ويتبادل معك أحاديث الفكاهة في مكتبه، إنَّ وقار القاضي يفرض عليه أن يكون بهذه الهيئة التي وصفتها، وأنْ يترك البشاشة والابتسامة خارج مكان عمله، بل إنَّ على القاضي أن يكون متوقِّراً حتى في المجالس العامة خارج عمله، أنسيت أن القضاء مسؤولية وأمانة وعدلٌ وإنصاف؟ قلت لصاحبي: هذه الصورة التي أشرت إليها يتحدَّث عنها وعن أمثالها كثير من الناس وهي صورةٌ قاتمة تدل على خَلَلٍ في معرفة معنى الوقار، فالوقار لا يتنافى أبداً مع البشاشة والابتسامة في وجوه الناس، وليس هنالك أكثر وقاراً من محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإنَّ البشاشة لم تكن تفارق وجهه الطاهر عليه الصلاة والسلام، إنَّ وقار القاضي الذي تحدَّثت عنه ووصفته، وقارٌ متكلَّف مصنوع، يدل على فهم غير صحيح لمعنى وقار القاضي ورزانته، ومن الذي قال إنَّ التوقُّرَ المتكلَّفَ دليلٌ على عدل القاضي وإنصافه؟ إن القضاء أمانة كبيرة، ومسؤولية عظيمة، ولا ترتبط الأمانة ولا المسؤولية بتجهُّم الوجه وتقطيب الجبين أبداً، ولربما كان هنالك قاضٍ مقطِّب الجبين بعيدٌ عن العدل والإنصاف، ولقد أشار عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - إلى خمس خصالٍ تدلُّ على نجاح القاضي، ولم يذكر منها صفة الوقار المتكلَّف التي أشرتُ إليها، فقال عمر: إذا كان في القاضي خمس خصالٍ فقد كمل: علم بما كان قبله، ونزاهةٌ عن الطمع، وحِلْمٌ على الخصم، واقتداء بالأئمة، ومشاورة أهل العلم والرأي. لقد كان حقك على زميلك القاضي أن يستقبلك بما يليق بأخوَّة ماضية، وعلاقة طيبة في طلب العلم، ولم يكن وقاره الذي وصفته إلاَّ وقاراً بارداً متكلَّفاً. هذا هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينصح أبا موسى الأشعري حينما ولاَّه القضاء بقوله: إنّ القضاء فريضة محكمة، وسنَّة متَّبعة، ثم يقول: وآسِ بين الناس في مجلسك، ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حَيْفك، ولا يخاف ضعيف من جورك. فما أجملها من وسطية دعا إليها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في هذا المجال. إنَّ القاضي الشهير (شُريح) يردُّ على زميلك القاضي المتجهِّم بموقفه الجميل في هذه القصة: أقبل عليه الأشعث بن قيس وهو في مجلس حكمه فقال شُريح: مرحباً وأهلاً بشيخنا وسيِّدنا، وقام إليه وأجلسه بجواره فبينما هو جالس إذ دخل رجل يتظلَّم من الأشعث ضيف القاضي شُريح، فقال شُريحٌ للأشعث: قم فاجلس مجلس الخصم وكلِّم صاحبك، قال الأشعث: بل أكلِّمه من مجلسي، قال شريح: بل تقوم إليه وتجلس معه حتى ينتهي الحكم في أمركما. فهنا نرى أنموذجاً واضحاً للقاضي المنصف، ولو كان التجهُّم لمن يدخل على القاضي وقاراً، لفعله كبار القضاة من الصحابة والتابعين. إشارة أتعشق في وجه الحبيب ملاحةً وتطمع في النجوى وأنتَ ضَنينُ