أحب أن أحتفل هنا بهذا القلم النقدي القادم بقوة، قلم الأستاذ حامد بن عقيل، وأعترف أنني قبل أن يصلني الكتاب كنت واقعة تحت تأثير المقولة المعروفة بأن الناقد شاعر سيئ، مع قلبها وافتراض أن الشاعر ناقد سيئ، هذا مع كوني عرضة للاتهامين معا كما الزميل حامد! حتى وصلني، فقرأت فيه ما يثلج الصدر: قلم نقدي متكئ على حاسة نقدية قوية، تنساق مع النص، وتتفاعل معه دونما إخلال بالعلاقة المتوازنة بين القارئ والنص، القائمة على احترام استقلال كل منهما، وقد اشتغلت القراءة على نظريات نقدية حديثة بالنسبة للمشرق العربي، إذا أخذنا بالاعتبار تقدم النقد النظري في المغرب العربي وسبقه لكل جديد.. صنف الناقد قراءته في حدود النقد التأويلي، ثم عرض لمبادئ نظريات القراءة، وبالتحديد نظرية (ستانلي فش) حول أسلوبية التأثير.. وبغض النظر عن بعض ملاحظ على العرض التقديمي المجزوء والمرتبك في بعض مواضعه - مع العلم أن نسختي هي الأقدم، بمعنى احتمال تصويب العرض في النسخة الأخرى - أجد الكاتب يبرع كثيراً حين ينطلق على سجيته في تحليل دلالي دقيق وجميل ومفتوح باتجاه الأجمل. ومن أجمل ما لاحظت - وهو يشير في الوقت نفسه إلى قوة الحاسة النقدية عند الكاتب - أن التطبيق يسفر عن فهم دقيق للنظرية المشتغل عليها: وهي في الإطار نظرية ستانلي فش، القائمة على عاملي: اللغة والزمن الكتابي والقرائي، وبطريقة تكشف عن استيعاب عميق للنظرية، ويكشف هذا عن أن التطبيق أفصح عن قدرات الناقد من العرض النظري.. وهذا ما يجعلني أهيب بالأستاذ حامد بأن يفسح المجال أمام قلمه للكتابة مباشرة حول- مع- داخل- بين النصوص، دون الانشغال كثيراً بالتنظير.. ولا أعني بالطبع إفلات المنهج، إنما إمساك العصا من المنتصف، التخفيف من العروض النظرية الجافة.. والتركيز على أعمال المنهج في التطبيق. وما حدث في فقه الفوضى أن العرض النظري لم يكن بمستوى التطبيق المدهش من وجهة نظري، فقد انشغل الناقد بعرض نظري أقحم فيه أكثر من نظرية لا تخدم التطبيق، مما أخل بالعرض، وكان يمكنه الاقتصار على النظريتين المشتغل ضمنهما: أعني نظريتي فش، وايكو.. وعدم تركهما مانعتين وسط مصطلح عمومي يجمع مناهج القراءة كلها تحت ملفوظ مختزل (نظريات القراءة) أو (مناهج القراءة)، يحجب حقيقة تنوع مناهج القراءة العريقة في النقد الغربي: السيميائي والبنيوي والتفكيكي والأسلوبي.. إلخ، والتي تداخلت مع مختلف مناهج النقد منذ استقلالها بالمصطلح قبل أكثر من ثلاثين عاما، واستقلت فروعا كبيرة منها بمنظورات مختلفة.. كما عند ايكو مثلا.. انطلاق قلم حامد بن عقيل في الجانب التطبيقي من كتابه جعلني أحلم بنشاط نقدي موازٍ لما قام عليه (فقه الفوضى)، ينزل إلى الساحة، ويخرج من نطاق العمل النظري المقيد للنقد، لاسيما وأن كثيرا من نقادنا الشباب مازالوا مقيدين أقلامهم بحمى التنظير.. والحوم حول حمى المصطلحات دون الوقوع في استعمالها.. مما ينتج كثيراً من صور النقد الأعرج، المحتمي بفخامة اللغة دون الخوض في معامع النصوص.. وجدت نفسي بعد قراءة الكتاب، وقد تحطمت كل توقعاتي المسبقة، ووقعت فيما يسميه التأويليون تصادم الآفاق (مع استبدال مصطلح الانصهار)، ذلك أن واقع القراءة ألغى التوقع المسبق في اصطدام غاضب، غيرة للناقد المظلوم داخل كثير من الأدباء النقاد، وكثير منهم كان له بصماته في تاريخ النقد قديمه وحديثه.. من وقفاتي على الكتاب ما يتعلق بلغته، اللغة في (فقه الفوضى) لغة نقدية متوازنة، تحترم الجانب التواصلي، كما لا تصادر الجانب الجمالي حين تصف لغة النص وجمالياته.. لغة تشير بقدر ما ترمز (عرضت للغة النص النقدي في مقال يتيم نشر منقوصاً في جريدة اليوم عدد يوم الخميس 12 ربيع الآخر الماضي). بقي أن أشيد بنص الرواية التي كانت الدافع الأصل لقراءة بهذا الجمال، وهي رواية - بالنظر لما أثير حولها - ظلمت كثيرا وهضم حقها من التقدير، رواية تقوم على التكثيف والاختزال لبنية فكرية معقدة، تتضمن داخلها تراكبات من البنى: المجتمع، الوطن، الأمة، العالم، وهي مفتوحة باتجاه أكبر قدر من القراءات كما كل عمل أدبي جميل. حقيقة: كنت أتوقع أن تكون القراءة موظفة باعتساف التنظير لصالح الرواية، بالنظر إلى حجم الرواية الصغير، وهو أمر يدخل تحت ما أسميته في حوار آخر فتنة النظرية، لكني وجدت الرواية مكتوبة باحتراف، والدلالات الجميلة التي أبحرنا معها في القراءة المقدمة هنا مقصودة من قبل الروائية الجميلة ليلى، ومنشورة في كل زاوية من زوايا روايتها، بل لقد وجدتني وأنا أتجاوز عالم فقه الفوضى لأكتشف عوالم أخرى في فضاء النص الصغير، ولم يكن صغره إلا علامة على مهارة التكثيف والاختزال على مستوى السرد الكلي، لا اللغة وحدها. ويقودنا هذا الحديث لنقطة منهجية مهمة في فقه الفوضى: لكون الناقد اعتمد منهج (ايكو)، وهو منهج يعنى بفكرة القصدية: قصدية الكاتب، قصدية القارئ، وحتى قصدية النص المتضمنة في عمل لغته باستقلال عن نوايا كاتبه.. وفي هذا الإطار استخدم الناقد شواهد من كلام المؤلفة، في انسجام مع سيميائية ايكو التي يتوخى فيها احترام حياة الكاتب في نصه.. هذا مع ملاحظة وجود بعض الشواهد زائدة ومقحمة على موقعها التي وظفت فيه. وهنا أعود لأؤكد أن الرواية بمقصدية كاتبتها المعروضة عبر لغتها وتقنياتها السردية تدعم القراءة، والدلالات التي خرجت بها.. مما يؤكد انسجام بنية القراءة، وهو شرط أساس مهم للحكم على نجاح أي عمل نقدي، أعني ما يشير إليه النقاد تحت مصطلح (التآلف).. وهو مصطلح اعتنى به على الخصوص نقاد مناهج القراءة، الذين عدوا بناء التآلف هدفا أخيرا لأي قراءة تنشد الرضا والاكتمال.. وهنا أشير لرأي أحد قراء الرواية معلقاً على اختيار الناقد لنظرية (التأويل) في قراءة الرواية، يقول فيه:( وذلك لإيماني التام بأن الفردوس اليباب لا تحتاج إلى تأويل، لقد كفتنا الكاتبة مؤونة التأويلات بلغة السرد الواضحة والمباشرة وتسمية الأشياء باسمها الصحيح وتحديد اتجاهات العمل!). وأقول: إن القراءة في فقه الفوضى لم تكن قائمة على اللغة وحدها، وقد يكون مصطلح (التأويل) في ارتباطه باللغة في تراثنا الأصولي هو من يوحي بهذا الظن.. بينما مرجعيته النظرية الحديثة تتجاوز المنطقة اللغوية بكثير في فقه الفوضى نجد التأويل يطال السرد من منظور الدلالة بوصفه بنية دلالية كبرى، تتشظى بالتفكيك إلى بنى أخرى صالحة للاستقلال، ومعضدة للدلالة الكلية الأصل، والدلالة في فقه الفوضى لم تكن تأتي من اللغة وحدها لقد وجدتها تأتي من الحدث، ومن الشخصية، ومن اللغة، ومن أبسط تقنيات السرد كما أجلها.. وهنا أعيد التأكيد على جودة الحس النقدي لدى الناقد، واستيعابه للمنهج الذي يعمل ضمن مقولاته، بغض النظر - مجددا - عن ارتباك العرض النظري لهذه المقولات.. وهنا أشير إلى ما سبق وأثير حول لغة الرواية وكونها موغلة في الشعرية، والنقد السردي يعد هذا عيبا من عيوب السرد ما لم يوظف بإتقان، وهي حفرة وقع فيها الكثير من روائيينا العرب، وما وجدته في فردوس ليلى كان لغة متوازنة، توظف الشعرية لغرض التكثيف السردي، شعرية تخدم الحبكة الروائية القائمة على الإشارة للكثير في جسم حدث واحد أبطاله ثلاث شخصيات.. هذا مع كون الناقد في فقه الفوضى اعتمد هذا المعيار غير الدقيق، حين وصف لغة ليلى بالشعرية وعزا ثراء النص لهذا العامل كثيرا، دون أن يفرق بين شعرية السرد بتقنياته وأدواته، وشعرية اللغة السردية بوصفها إحدى هذه الأدوات، مع كونهما منطقتين مختلفتين من العمل السردي.. شعرية السرد - كما تمثلت لي في (الفردوس اليباب) - تقنية سردية تقوم على تكثيف العرض وتوظيف الحبكة بعناصرها، ومنها اللغة، في هذا التكثيف الذي هو من سمات الشعر، أما شعرية اللغة فهي هي، أعني أنني لا أجد حاجة لشغل المساحة بشرحها هنا. وفيما يخص الجانب النظري في فقه الفوضى، لاحظت عناية الناقد بألا يزعج القارئ بالمصطلحات، لكنني حبذت أن يختصر من عدد النظريات التي عرضها من الأساس، بدلا من أن يضعها مجملة ثم يختزلها في اختصار مربك.. ذلك أن العناية بالقارئ لا تكون على حساب المنهج.. وهنا أشير إلى بعض ملاحظات حول المصطلح النقدي في الكتاب، وبعض المصطلحات المطبقة.. أحب أن أعرض لها هنا باختصار: - مصطلح (الإيحاء)، وجدت الكاتب يستخدمه بطريقة لا تخرجه من نطاق مصطلح (الشعرية) ونعلم جميعا أن الشعرية ترتكز على الإيحاء مع التكثيف.. فماذا لو تم استعمال مصطلح (الشعرية) مكان الايحاء وتصريفاته.. وذلك سيخفف من عدد المصطلحات المستعملة لصالح القارئ طبعاً.. - في مناقشة عنوان الرواية وجدت الكاتب يستعمل مصطلحي: (الإطلاق) و(التقييد) في شرح وظيفة الصفة من منظور نحوي تقليدي، وأعجبني جدا التفاتته الذكية لوظيفة الصفة في نزع الدلالة بدلا من تقييدها، مما يسهم في فتح المعنى بدلا من إغلاقه، وهنا وجدته يشرح التقييد والإطلاق بفتح الدلالة وإغلاقها، كما تتداول في النقد الحديث.. ثم يعود لاستعمال التقييد والإطلاق في تطبيقه هو، حين قرأ دلالة العنوان.. ومجدداً: ماذا لو تم الاكتفاء بمصطلح التقييد والإطلاق حين تم عرضه في النحو القديم وحده، ومن ثم يتم تبديله باتفاق مع القارئ بمرادفه في النقد الحديث: فتح الدلالة وإغلاقها.. وهما مصطلحان سيستدعيان في ذهن القارئ مصطلحي النص المفتوح والنص المغلق مما يجعلهما مألوفين وسائغين لديه، وهو أمر يخدم القراءة انسجاماً وسهولة. - تمنيت لو توقف الكاتب عند مصطلح (الدلالة) في الجزء النظري وتطرق إلى أن الدلالة موظفة في الكتاب بحيث تشمل كل جوانب السرد وتقنياته وليس اللغة وحدها.. لأن ما هو موجود هو عمل عميق على الدلالة، لا يعبر عنه العرض النظري المختزل.. - بالنسبة لنظرية ستانلي فش: أجدها مركزية في الكتاب، وتطبيقها جميل، لكن الكاتب لايشير إليها مستقلة، بل يدمجها ضمن النقد التأويلي ونظريات القراءة.. مع أنها تخدم النص النقدي وحاضرة فيه بقوة.. وأحب أن ألفت النظر هنا لجانب مهم: وهو أن ستانلي فش وجهت لنظريته مآخذ من أهمها أنها تركز على اللغة، مما يجعلها لسانية محضة.. كما قال عنها أيزر.. بينما أجدها موظفة في الكتاب بحيث تشمل مستويات السرد كافة، حيث قابل الكاتب التقنيات السردية بعضها ببعض، وتتبع اشتباكاتها، وهذا توسيع للنظرية وإضافة تحسب للكاتب، مع كونه أهمل الحديث عنها والتوسع فيها. ولعل هذا من الجوانب التي اشتغلت في لا وعي الناقد، خارجة من تراكمات قراءاته في النظرية النقدية، وكثيراً ما يحدث هذا، ولذلك لم يتوقف عنده، لكن هذا لايمنعنا من الإشارة إلى تقنية نقدية حاضرة بوضوح في نص نقدي، ولو كان حضورا لا واعياً، على سبيل التأويل. على سبيل المثال لا الحصر نشير إلى تأويل الناقد لشخصية صبا قبل حدث الخطبة وبعدها.. وتتبعه لانحناء مسار الشخصية بعد الحدث، ويستدعي العمل التأويلي على هذه الجزئية مقولة فش حول تغير وقع مفردة ما حين تشتبك بالمفردة التالية.. وتغير عملها ضمن منظومة النص، وهذا هو المرتكز الزمني لنظرية فش. - مجددا مع فش: ذكر الكاتب مصطلح (إرجاء) الدلالة عند شرح النظرية، وهو مصطلح لا يرد عند فش - حسب علمي - كما أنه مصطلح عَلَم على تفكيكية جاك دريدا، فلا ينبغي إيراده هكذا مدغما دون تفصيل وإشارة ولو في الهامش لدريدا.. أيضاً هذا المصطلح لا يخدم مقولات فش.. فبحسب فش: المعنى هو أثر على القارئ، وهذا الأثر يتطور: تعديلا، نقضا، دعما.. بمضي القارئ في زمن القراءة، وزمن القراءة هو تراكم مفردات النص وتتاليها على الصفحة البيضاء - كما يعبر فش - وهو مساوٍ لترتيب مرورها على عين القارئ، بحيث تؤثر كل مفردة في وقع المفردة السابقة لها، وتتأثر بها أيضا.. وهكذا لا نجد الإرجاء هنا إلا بمعنى سطحي: وهو كون المعنى لا يكتمل إلا بنهاية الجملة.. وهذه محصلة بديهية لم يقف عندها فش بحسب علمي أيضا.. وعلى هذا المنوال... لاينصف العرض النظري المرتبك في فقه الفوضى التطبيق المدهش والمبتكر والمفتوح باتجاه الأجمل.. باختصار، يعد الكتاب إضافة نقدية مبهجة من جهات: - كونه يحمل عملا نقديا مشرفا لكاتبه وللساحة النقدية الوطنية - كونه يشتغل في مجال الإبداع المحلي المفتقر للنقد والتوجيه وتقديمه للعالم. - كونه يتفاعل مع النص في حب وتواضع بإخلاص بدلا من أن يستعمله في استعراض لغوي فارغ. في النهاية أشكر الأستاذ حامد بن عقيل أن أتاح لي فرصة الاطلاع على كتابه بإهدائي نسخة من الكتاب، وهو تقدير ينضم إلى ما له من أياد عندي في تشجيع قلمي ودعمه.