شركة صينية تضع حجر الأساس لبناء مجمع صناعي في مصر    أمير تبوك يطلع على المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    6 مطارات لخدمة الحجاج    "فلكية جدة": رصد هلال شهر ذي القعدة في سماء الوطن العربي بعد غروب شمس اليوم    العمليات العقلية    انخفاض أسعار الذهب بنحو واحد بالمئة    11.3 مليار ريال استهلاك.. والأطعمة تتصدر    التقوا رئيسها واستمعوا لتوجهاته المستقبلية.. رؤساء تحرير يطلعون على مسيرة التطور في مرافق "أرامكو"    خلال لقائه مع أعضاء مجلس اللوردات.. الربيعة: السعودية قدمت 134 مليار دولار مساعدات ل 172 دولة حول العالم    هجوم على الفاشر ومجزرة في أم درمان وضربات للبنية التحتية.. الجيش السوداني يُحبط خطة شاملة لميليشيا الدعم السريع    سوريا.. ملاحقة المتورطين في أحداث جرمانا    في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا.. إنتر المتراجع ضيفًا على برشلونة المتوهج    ينتظر الفائز من النصر وكواساكي.. الأهلي يزيح الهلال ويتأهل لنهائي نخبة الأبطال    وزير الخارجية يبحث العلاقات الثنائية مع نائب رئيس فلسطين    نائب أمير مكة يطلع على التقرير السنوي لمحافظة الطائف    هيكل ودليل تنظيمي محدّث لوزارة الاستثمار.. مجلس الوزراء: الموافقة على تعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء    "الشورى" يطالب "التلفزيون" بتطوير المحتوى    المرور: تجاوز المركبات أبرز أسباب الحوادث المرورية    قفزات استثنائية للرؤية السعودية (1 4)    حوار في ممرات الجامعة    هند الخطابي ورؤى الريمي.. إنجاز علمي لافت    ترامب وهارفارد والحرية الأكاديمية    الاحمدي يكتب.. الهلال سيعود ليُعانق البطولات    بيولي: نواجه فريقاً مميزاً    العلاقات السعودية الأميركية.. الفرص والتحديات    إسبانيا: الحكومة والقضاء يحققان في أسباب انقطاع الكهرباء    المملكة: أمن الشرق الأوسط يتطلب حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية    بيئة عسير تنظّم مسامرة بيئية عن النباتات المحلية    أمير الرياض يكرّم المتطوعين والمشاركين في {منقذ}    سعود بن نهار يثمن مبادرة "الطائف المبدعة"    انطلاق مبادرة "الشهر الأزرق" للتوعية بطيف التوحد بالأحساء    أمير الشرقية يستقبل السفير البريطاني    أمانة الرياض توقع استضافة "مؤتمر التخطيط"    محمد بن ناصر يزف 8705 خريجين في جامعة جازان    جيسوس: الأهلي كان الأفضل    "هيئة العناية بالحرمين": (243) بابًا للمسجد الحرام منها (5) أبواب رئيسة    مسؤولو الجامعة الإسلامية بالمالديف: المملكة قدمت نموذجاً راسخاً في دعم التعليم والدعوة    مدير عام الجوازات يستقبل أولى رحلات المستفيدين من مبادرة طريق مكة بمطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة    بدء المسح الصحي العالمي 2025    "الداخلية" تحتفي باليوم العالمي للصحة المهنية    مستشفى الملك خالد بالخرج يدشن عيادة جراحة السمنة    الاتحاد السعودي للهجن يؤكد التزامه التام بتطبيق أعلى معايير العدالة وفق اللوائح والأنظمة    فريق فعاليات المجتمع التطوعي ينظم فعالية بعنوان"المسؤولية الإجتماعية للأسرة في تعزيز الحماية الفكرية للأبناء"    إيلون ماسك يقلق الأطباء بتفوق الروبوتات    سان جيرمان يقترب من التأهل لنهائي "أبطال أوروبا" بفوز في معقل أرسنال    أسباب الشعور بالرمل في العين    اختبار للعين يكشف انفصام الشخصية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل محافظ الطائف ويطلع على عددًا من التقارير    قصف مستمر على غزة لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة الطوعية    تنوع جغرافي وفرص بيئية واعدة    المسار يسهم في نشر ثقافة المشي والتعرف على المواقع التراثية وجودة الحياة    الصوت وفلسفة المكان: من الهمسات إلى الانعكاسات    ورم المحتوى الهابط    الداخلية تعلن اكتمال الجاهزية لاستقبال الحجاج    للعام السابع.. استمرار تنفيذ مبادرة طريق مكة في 7 دول    أمير جازان يستقبل مدير فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالمنطقة    محمد بن ناصر يتسلّم التقرير الختامي لفعاليات مهرجان "شتاء جازان 2025"    أمير منطقة جازان يرعى حفل تخريج الدفعة ال20 من طلبة جامعة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. عبد الرزاق عيد (*)
هيكل العابر للشرعيات
نشر في الجزيرة يوم 10 - 08 - 2005

تؤطِّر ممارسة هيكل الإعلامية والسياسية والثقافية، حقبة متكاملة من الزمن العربي الحديث، تتخطى نصف قرن من عمر الدولة العربية الأكبر (مصر)، وهي تجربة تكثِّف كلّ الخصائص المتنوعة لتجلِّيات الخطاب القومي الذي كان تعبيراً عن (الشرعيات الثورية): وفق ما ينسب هيكل هذه التسمية الإصطلاحية إلى السمنهوري، هذه الشرعيات التي كانت قد احتلت جزءاً كبيراً من المشهد السياسي العربي منذ منتصف القرن العشرين حتى اليوم. تلك الشرعية الثورية أسست لها ثورة يوليو 1952 التي يحتفل في هذا الشهر بذكراها الثالثة والخمسين، ستشتق عنها شرعيات (ثورية) في عدد من البلدان العربية لاحقاً، وسيغدو هيكل وكأنّه الناطق الإعلامي العابر لمشاريعها (الثورية) المتنوعة والمتعددة بجلدها (الشعبوي: القوموي ولاحقاً الإسلاموي).
إنّ هيكل الذي استفاد من التعليم الحديث للمدرسة المصرية الليبرالية في الأربعينات، والذي أتاح له العمل في صحيفة إنكليزية (إجبشن غازيت)، ومعرفته باللغة الإنكليزية ضرباً من التكوين الأكاديمي الحديث، سيكسب دوره الإعلامي فعالية ايديولوجية وسياسية، أهّلته لأن يكون في الصف الأول من (أهل الحل والعقد) في نظام ثورة يوليو، سيما عندما سينبهر به ضابط شاب (عبد الناصر) قادم من الريف بإقدام وطني (ثوري) عاصف، عندها سيغدو هيكل فيلسوفاً (مستشاراً) بل وسيهيكل خطاباً سياسياً وايديولوجياً سيشكِّّّّّّّّل عنصراً تكوينياً في بنية الخطاب السياسي العربي القومي الحديث.
إنّ بنية الخطاب هذه سترتسم على شكل خطاطة مثلّثة الأصوات :الصوت الأول هو عبد الناصر الذي امتلك مفتاح سر أفئدة (الجماهير) برنة الإيقاع الذي يشدّد على أواخر الحروف، فيمنح الكلمات أمداءها بامتداد الأمداء الجماهير العربية من (المحيط الهادر إلى الخليج الثائر). ورأس المثلث الآخر صوت أحمد سعيد الذي تخصص بصناعة (صوت العرب) الهادر بالدعوة إلى (ارفع رأسك يا أخي العربي)، إذ المشروع القومي الثوري سيؤسس ل (الوحدة ما يغلبها غلاب)، في وجه الرجعية والاستعماررر ... مع التشديد على الراء الذي كان يفعمنا بالحماسة القومية والفخفخة الثورية والفخامة النضالية! ومن ثم يأتي صوت محمد حسنين هيكل ليمنح للخطاب اتساقه بعد أن تشبّع بغواية السرد وفتنته، متأثراً بالميراث الحكائي العربي من جهة، والمدرسة الغربية الإنكليزية في الصحافة القائمة على (الخبر) من جهة أخرى، هذا المزيج المتفاعل مع كيمياء (المسرح - السينما - الغناء: المجسّدة ل (القوة الناعمة) المصرية على حد تعبير هيكل لاحقاً) أتاح تركيباً مزجياً تفاعلت فيه عناصر الخطاب الناصري، مع خطاب صوت العرب لأحمد سعيد ومحمد عروق، كل ذلك تفاعل عضوياً من أجل إنتاج جاذبية سحر الخطاب الذي مارس (رخامته الثورية) تحت شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) حتى كانت معركة حزيران 1967... فكانت الفضيحة التي شخّصها مجازياً أحد الجواسيس الإسرائيليين الذي أفاق على 5 حزيران وبجانبه الراقصة سهير زكي، فتماهى عري الراقصة (زكي) مع عري الخطاب (الثوري) على حد تعبيره، وهو يعبر عن ذهوله السعيد بهزيمة الفيل العربي أمام الفأر الإسرائيلي، هذا الخطاب (الحرباوي) لم يكن فاعلاً خلال خمس عشرة سنة من عمر الشرعية الثورية إلاّ في إنتاج (ثقافة الفتنة) التي تم تصديرها إلى العالم العربي عبر السفارات المصرية التي تحوّلت إلى مراكز للمخابرات والتجسس (العربي - العربي)، فبدأت المرحلة تنتج لنا نجوماً للجلادين والقتلة كمثال: عبد الحميد السراج في سوريا المغتال الأول لنويات المجتمع المدني السوري ولتطوُّره الطبيعي السلمي التعدُّدي. هنا سيتقدم (حاوي: الكلمة - الرصاصة) لإنتاج شرعية جديدة، وهي شرعية تبادل الرصاص بالكلمات أو بالعكس، حيث نظرية الكلمة رصاصة مع الأشقاء والرصاصة كلمة مع الأعداء، ووفق شرعية هذه المعادلات (الثورية)، سيقنع هيكل العسكري المهزوم بأنهّ لم ينهزم بل هو (منتكس) في البداية، بل ومن ثم منتصر في المآل، رغم أنّ عبد الناصر كعسكري عاش هزائم 1948 فهو يعرف معنى الهزيمة وطعمها، وكان قد ذاق مرارة الهزيمة في (تثوير) اليمن بتوقيع اتفاق اذعان جدة 1965. ف (الفقيه السلطاني: الصحافي الكبير) يأبى إلاّ أن ينفث تعاويذه الشرعية، فيطلق شياطين سحره لإلغاء الواقع لصالح حلول الكلمة بديلاً عنه، فتأتيه مردة الكلام لتحوِّل شوك قتاد (الهزيمة) إلى أغصان (ناكسة)، ويتم تعديل وتقويم أغصان (النكسة) إلى سنابل (انتصار)، لقد انتصرنا لأنّ إسرائيل لم تستطع أن (تسقط الأنظمة التقدمية) في مصر وسوريا، ومنذ تلك الفترة ونحن نعيش طقوس المسيرات للاحتفال بالكلمات والشعارات التي تقنعنا أنّه ليس المهم سقوط الأوطان، بل المهم أنّ الله يحفظ لنا السلطان! مع الكابوس الحزيراني سيتأسس نظام خطاب قوموي، عماده الانتصار بالكلمات، من خلال منظومة متكاملة من الشعوذات والطلسمات التي اتخذت شكل شعارات، يصنعها كيميائي مشعبذ قادر على تحويل المعادن الخسيسة للواقع، إلى تاج مرصع بذهب الكلمات التي تهز الجبال، فراحت الجماهير تهتف لأول مرة في تاريخ البشرية تحية للقائد المهزوم وتدعوه إلى العودة عن استقالته، وذلك بفضل تعاويذ هيكل الذي كتب له خطاب التنحية، والطريف في الأمر أنّ هيكل يتباهى بهذا الدور في أحاديثه على قناة الجزيرة التي أتاحت لنا هذه الفرصة النادرة على الهواء بلقاء التيار الإسلاموي (القرضاوي) مع التيار القوماوي (هيكل)، ليكون لنا موعد مع مستقبل هزيمة جديدة مؤكدة على صهوة حصان الكلمات الجامحة في الفراغ، يحولها الاثنان إلى نصر (عربوي ? إسلاموي) مؤزر، بسطوع حقائق البداهات اليقينية الكبرى للغة العربية وسطوة سحرها البياني الشعشعاني ... سيما أنّ الاثنين، وعلى قناة الجزيرة ذاتها، يفتون ? بنجاعة عالية - في القضايا الاستراتيجية الكبرى لمسائل السلم والحرب، فهيكل بحيادية تحليلية شديدة العمق يعتبر أنّ العملية التفجيرية ضد بعثة الأمم المتحدة والصليب الأحمر في العراق، ستجرِّد الوجود الأمريكي في العراق من الشرعية !! وفق ما خلص محمد عبد المطلب الهوني في مقال له تحت عنوان: هيكل (تقاعد عن الكتابة ليحترف الثرثرة) في 24 أغسطس 2004 ? على موقع شفاف الشرق الأوسط .. تماماً كما أفتى الشيخ القرضاوي بقتل المدنيين الأجانب في العراق حتى ولو لم يكونوا عسكريين، هذا قبل تراجعه عنها بعد احتفاء عمدة لندن به، فردّ له الجميل بأن أسقط من خطبة الجمعة في أحد مساجد لندن، الدعاء على النصارى واليهود بالهلاك، فعفا عنهم مؤقتاً ? كرمى لخاطر عمدة لندن - من الدعاء عليهم بالذوبان كما يذوب الملح بالماء، لكن الشباب مع ذلك ما عادوا يأبهون لرخاوة جهادية الشيخ، وذلك بسبب أنّ أعصابهم المتوترة لم تعد تحتمل ما يقاسونه، وذلك وفق تبريراته ? ذات مرة - للذبح الحلال الذي يقوم به الزرقاوي على الشاشة ! تماما كما سفه ابن لادن في 8- 10- 2001 ما كان كتبه هيكل في السفير اللبنانية 1-10 - 2001 عن تأملاته الخارقة حول (الصرب الذين ضربوا برجي نيويورك)، وذلك عندما أعلن ابن لادن أنه وقاعدته هم المسؤولون عن غزوة نيويورك المباركة...! طبعاً ما كان من الممكن للفتوى القوموية البلاغية لهيكل القائمة على إعدام الشاهد لصالح الغائب، الواقع لصالح الكلمة القائلة: إن هزيمة حزيران ليست إلاّ مجرد نكسة، بل هي - بالأحرى - هزيمة لإسرائيل لأنّها عجزت عن إسقاط الأنظمة التقدمية ... نقول ما كان لهذه الفتوى أن تمر دون أن تستثير بداهات البلاغة المضادة الشامتة للخطاب الإسلاموي - التي لم تجف دماء ثأره لإعدام السيد قطب - فما كان من الفقيه المضاد (متولي الشعراوي) إلاّ أن يصلي صلاة الشكر ركعتين لهزيمة عبد الناصر، هزيمة الشرعية الثورية التي تمثّلت في (الشيوعية الناصرية) وفق تعبير الشيخ متولي شعراوي، أو (الفرعونية الناصرية) وفق تعبير القرضاوي، فبداهات بلاغة الخطاب (القوموي والاسلاموي) القائمة على (الأوندكسا) وهي مخاطبة الجماهير بما تعرفه على حد تعريف أرسطو، تستدعي بداهات مضادة للخطاب الإسلاموي، القائم على وضوح القاعدة الفقهية ب(وضوح ضوء النهار) وهل ضوء النهار بحاجة إلى دليل؟ هكذا منذ قيام خطاب الشرعية الثورية على أنقاض الشرعية الدستورية في الخمسينات بدأ الخطابان (القوموي والإسلاموي) في التجاور والتخاطر حتى التصالح اليوم، وذلك من خلال خطاب هيكل: في إنتاج نظام (التفكير الشعبوي)، وسيد قطب: في إنتاج نظام (التفكير التكفيري)، وراح الخطابان يتنافسان على محاباة الوعي الشعبي العفوي، عبر تقديس عفويته، سذاجته، في أحايين كثيرة جهله وتجهيله، فكان مآل ذلك تحويل الأمة إلى جماهير، إلى رعية ومن ثم إلى رعاع دهماء، وتم كلُّ ذلك على أنقاض الميراث المدني العقلاني التنويري الذي أنتجته النهضة الليبرالية المصرية بشقيها الإصلاحي الحداثي الكوني المتطلع إلى المثال الغربي من جهة، وشقه الإصلاحي الإسلامي التنويري المتطلع إلى المثال التراثي الإسلامي العقلاني من جهة ثانية، منذ منتصف القرن التاسع عشر: (الطهطاوي - الأفغاني - محمد عبده - أحمد لطفي السيد - علي عبد الرازق - طه حسين ? أحمد أمين ...الخ).
يتحدث هيكل عن تمييزات المفكر الأمريكي جوزيف ناي بين القوى الناعمة: (ثقافة - آداب - فنون)، والقوى الصلبة (العسكرية والاقتصادية والسياسية) كالفرق بين أثينا (الفلسفة والفنون) واسبارطة (القوة والحرب) أو كالفرق بين صورة فرنسا عالمياً كقوة ناعمة، وصورة أمريكا كقوة صلبة ... الخ ويرى أن دور القاهرة ونفوذها العربي يتأتّى من حضورها كقوة ناعمة، والتي يعزو نعومتها إلى السينما والمسرح - الغناء - الصحافة - دور النشر ... الخ) لكن هيكل يغفل أو يتغافل بأنّ مصر الذي مثل عابر شرعياتها: الليبرالية (الأربعينات)، والثورية الناصرية (الخمسينات والستينات)، والسلمية الساداتية (السبعينات) والانتقالية المباركية (الثمانينات حتى اليوم ...)، نقول: إنّ هيكل يغفل أو ينسى أنّ مصر كانت وما زالت تتعيش على ماضي رأسمالها من القوة الناعمة التي مثلها تاريخها المدني، الحضاري، النهضوي، التنويري، وأنّها بدأت مع نهوض نموذج شرعياته الفكرية والسياسية على أنقاض الشرعية الدستورية، حيث: (الاستمرار والاستقرار في حضن اللازمن)، تنتقل من القوة الناعمة إلى القوة الفظة، من نعومة مجتمعية مدنية مرهفة إلى فظاظة شعبوية عسكرية أمنية بوليسية مدمرة، من مركز جاذب للمثقفين التنويريين الهاربين من الاستبداد الانكشاري والباحثين عن الحرية في القاهرة الناعمة في زمن الليبرالية المصرية، إلى قاهرة اللاجئين السياسيين والعسكريين من الانقلابيين الشعبويين والعسكريين، من قاهرة المسرح التي تفتح أبواب حريتها أمام أبي خليل القباني، إلى قاهرة إتلاف ألف ليلة وليلة، واعتبار كتاب الأغاني (نهر سموم)، من إسلام المدنية الإصلاحية المستنيرة لمحمد عبده إلى إسلام أيمن الظواهري ... وهيكل الذي أطر إيديولوجياً وثقافياً وإعلامياً مرحلة القوة الفظة (الدولة البوليسية) والشرعية (الثورية الإرادوية) التي تحل الإيديولوجيا محل الواقع، والرغبات محل الموضوعيات، لا يزال يعيش بعد هذا العمر - أمدّ الله في حياته - نزاعات ما يسميه فرويد ب(نرجسية الفروق الصغيرة) التي تستهوي - انثربولوجيا عادة - مجموعات العامة التي تتباهى وتتفاخر بهوية الانتماء إلى المدينة والبلدة والإقليم، بل والحي، ففي إحدى حلقاته المتلفزة (الجزيرية ذات الصوت الواحد بلا منازع)، يوحي إيماءً وصراحة بمدى حضور نفوذ الحماية الإنكليزية على الجزيرة العربية: (الشريف حسين وعبد العزيز آل سعود) ومعوناتها المالية لهما، وذلك لصالح مديح الملك فؤاد الذي لديه دولة كبيرة وليس بحاجة إلى معونات الإنكليز، والنزعة الظفروية (العامية) المتحكمة بنمط التفكير الشعبوي، أنست صحفينا الكبير أنّ الملك فؤاد كان يحكم مصر تحت ظل الحماية الإنكليزية (المحتلة) مباشرة لمصر فلا حاجة، والأمر كذلك، لمعونات! ويتجاهل حقيقة أنّ الرجل (الملك فؤاد) كان أكثر أبناء أسرة محمد علي جشعاً وطمعاً وأنانية، وحادثة اصطدامه مع الإمام محمد عبده شهيرة، وذلك عندما اضطر الإمام ليشكو (الملك) إلى المندوب السامي (اللورد كرومر) بوصفه الوحيد الذي يستطيع أن يكف أطماعه التي امتدت للاستيلاء على ملكيات الأوقاف، والذي كفها كرومر فعلاً، فما كان من الملك وحاشيته سوى التشهير بالإمام محمد عبده واتهامه بالعمالة للإنكليز، ناسياًً وحاشيته أنّه يحكم تحت سلطة الإنكليز وحرابهم، وذلك الديدن النموذجي للحاكم المستبد الذي كلما واجه المثقف استبداده وعسفه، اتهمه بالعمالة للأجنبي، ناسياً أو متناسياً بأنه لا يملك من سفح الشرعية سوى ذرى شرعية الأجنبي الحامي لنظامه، وذلك موضوع آخر على كلِّ حال ... بل وأطرف طرائف خبرة تمتد لأكثر من نصف قرن في ممارسة الصحافة والسياسة، أنّ الصحفي الكبير لم يتجاوز فهم السياسة القديم، الذي ينظر لها بوصفها شأنا من شؤون أهل (الحل والعقد)، فبعد أن يحدِّثنا طويلاً عن الشرعية الثورية (الناصرية) ثم شرعية السلام (الساداتية) ومن ثم مرحلة الشرعية الانتقالية (مبارك) على اعتبار أنّ الضربة الجوية غير كافية لتأسيس شرعية للرئيس مبارك الذي كان قائد القوى الجوية خلال حرب 6 أكتوبر على حد تعبير كاتبنا، فإنّ الشرعية اليوم تتأسس على (العقد الاجتماعي)! لكن ما هو هذا (العقد الاجتماعي) الذي يتردد ملفوظه عشرات المرات في حديث هيكل؟ يقولها لنا و(بصراحة): إنه ليس الديموقراطية ...! إذن العقد الاجتماعي مع من؟ وبين من ومن؟ إنّه بين الجماعة: جماعة العقلاء والحكماء من أهل الحل والعقد، كيف نستنتج ذلك؟ يقول: يجتمعون في (هيئة أمناء الدستور) لإعلان وثيقة عقد اجتماعي جديد، من أجل العمل ل(جمهورية برلمانية)! كيف تكون جمهورية برلمانية بدون انتخابات وصندوق اقتراع، أي بدون ديموقراطية؟ ثم لا يلبث الصحفي الكبير أن يدخلنا في متاهة الاستطرادات التي لا تنتهي وهي تمسك بعضها برقاب بعض حتى يضيع الرأس فلا تبقى سوى أرتال الرقاب ... ليختصر - أخيراً - مشكلة مستقبل مصر بصحة (الرئيس مبارك) ومدى القدرة الزمنية الافتراضية للرؤساء على تحمُّل أعباء الرئاسة التي يرى أنّ الاختصاصيين يقدِّرونها بعشر سنوات! لقد أدمن هيكل والخطاب (الشعبوي): أي الشرعية الثورية وهي تتغول على الشرعية الدستورية، في استخدام الشعب، كجماهير، كقوى دهماء عمياء توضع برسم الإرادات (الثورية) للزعيم الملهم الخالد، لتكون طوع بنانه في خدمة (وثنية سلطته)، دون أيّة ثقة بها بوصفها كائنات لها ذواتها الحرة، ومالكة لعقلها وبدنها وإرادتها، ومبادراتها الحرة والخلاقة في امتلاك زمام ذاتها والولاية على نفسها، لوضع دساتيرها وعقدها الاجتماعي وانتخابات ممثليها، ومجلى ذلك أنّ خطاب (هيكل) العابر للشرعيات: الثورية والسلمية والانتقالية (من الانتقائية الشعبوية القوموية إلى التلفيقية الاسلاموية المعتدلة والجهادية الموحدة اليوم)، يجمع على استبعاد المجتمع والشعب عن السياسة إلاّ في حدود اختزال المجتمعات وحل الشعوب إلى جماهير دهماء يستنفرونها لتحية (القائد المهزوم) ولثنيه عن استقالته، أو حشدها في سرايا القدس (7 ملايين) للمقابر الجماعية تحت راية القائد الضرورة، ولو كانوا يحملون أيّة محبة وثقة في شعوبهم لما خافوا على أنظمتهم (الثورية) ليبنوا النموذج الأبشع للأنظمة الشمولية البوليسية المخابراتية! وعلى هذا يخلص هيكل إلى أنّ المشكلة المطروحة على مستقبل مصر ليس في تجديد بنية نظام تكشف عالمياً أنّ مشروعيته الثورية والسلمية والانتقالية إنّما هي شرعية إلغاء المجتمعات، وأنّ الاستقرار في ظل هذه الأنظمة لا يعني سوى العيش خارج الزمان، ليغدو حركة اعتماد في المكان في حضن برزخ العدم، حركة دورانية حول الذات القروسطية، الغائبة عن حركية السهم السائرة بشكل مطرد نحو الأمام كما تجلّت حركية الزمن مع ولادة المجتمع الحديث.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.