كان عهد المغفور له بإذن الله خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز عهد تطور ونماء، شهدت فيه المملكة العربية السعودية بعداً حضارياً يجسده الواقع الملموس التاريخ المدروس. وقد عرف خادم الحرمين الشريفين- رحمه الله- الحضارة بقوله: (الحضارة ليست في بناء المباني والشوارع الفسيحة، وإنما هي أهم من ذلك: المواطن الصالح المتسلح بالعلم والوعي، هذه هي الحضارة الحقيقية التي يصنعها المسلم)، وكما نرى لم يلغ التعريف مظاهر الحياة المادي بقدر ما مزج الرقي العلمي والسمو الخلقي والوعي بالمسؤولية وإيجاد المواطن الصالح المتصف بأخلاق الإسلام بعداً حضارياً ومدنياً مهماً يستند إلى أسس أخلاقية وعقدية صحيحة. ما من نشاط فكري أصيل يحدوه الأمل المنشود ويرتبط بالعمل غير المحدود، إلا كان له ظهور مادي محسوس يتطابق في ظهوره وانتشاره مع أسسه الفكرية ومتطلباته العقلية، ويستجيب لتطلعات الأمم الحية، وحاجة العصر النهضوية، وتبدو المهمة عسيرة للغاية، حينما نحاول استقصاء مجالات البعد الحضاري في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- فذلك وعاؤه الموسوعات الكبرى وسجلات الوثائق الكمبيوترية، وفيما يلي بيان موجز لأهم مجالات البعد الحضاري لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله-. البعد السياسي إن وجود المناخ الصالح للبناء والاستقرار وصف صادق وبرهان قاطع تتميز به المجتمعات المتحضرة التي تنعم بالهدوء وتماسك النسيج الاجتماعي ومراعاة الحقوق وصيانة الحرمات واحترام كرامة الإنسان بخلاف المجتمعات المتخلفة التي تتصف بالفوضى وانفراط العقد الاجتماعي وتغلغل الروح العدوانية والتوثب على الحقوق وامتهان كرامة الإنسان، ومن حق الأمة السعودية أن تفخر بنظامها السياسي الذي جعل من السياسة في العصر الحديث رسالة أخلاقية ووظيفة دعوية، تتنكب ضروب التطبيقات السيئة للمفاهيم السياسية الموغلة في المصالح المادية، والمؤسسة على الفكر المادي غير المستقر إلى قاعدة أخلاقية، ويعود الفضل- بعد الله- إلى اعتماد النظام السياسي في المملكة على عقيدة التوحيد، يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله-: (هذه البلاد قاعدتها وأساسها وتكوينها كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، إننا سوف نتمسك بهذه الكلمة، وهذا المبدأ الإسلامي الحنيف ، أسأل الله أن يجعلنا دائما مصلحين الناس مفيدين) لقد أحكمت هذه الكلمة النورانية أطر القواعد السياسية وعلاقة الحاكم بالمحكوم في جو عائلي متناغم تمتزج فيه البساطة مع الدقة، والحزم مع المحبة والوئام منذ تأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك عبدالعزيز - رحمه الله- ولم يزل أبناؤه البررة على طريقه سائرين وبنهجه ملتزمين، وفق نظام سياسي منضبط دقيق، لا يمكن لأي جهة أن تحدث فيه تغييراً أو تبديلاً، ولما تسلم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- مهام الحكم ومسؤوليته، رسخ تلك المبادئ، وأصل مضامينها ووسع مفاهيمها بعبقريته المعهودة وحكمته المشهورة، فبدأ مجدداً ومصلحاً في آن واحد. ويأتي في طليعة تجديده وإصلاحاته الباهرة، أنظمة الحكم الثلاثة التي أحدثت دفعة قوية للنشاط الحضاري، وذلك بإشراك ذوي الكفاءات في بناء الأمة، حيث هيأت تلك الأنظمة أهل الحل والعقد للقيام بواجب المسؤولية وتحمل بناء الوطن سواء من خلال مجلس الوزراء أو مجلس الشورى أو مجالس المناطق، وترك خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز-رحمه الله- الباب مفتوحاً للإصلاح الدائم المستمر وفق ما تقتضيه المصلحة، وعلى سبيل المثال أمر بزيادة أعضاء مجلس الشورى مرتين، إذ كان أصل عدده ستين عضواً ثم زيد إلى تسعين ثم إلى مائة وعشرين عضواً ثم إلى مائة وخمسين عضواً، ويعود ذلك إلى عبقرية الفهد واستعداده لمواكبة الأحداث وسد الثغرات، وبهذا ارتقى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- صعداً بتصيير السياسة لخدمة التنمية، حين استطاع تفعيل المشاركة السياسية لتصبح وسيلة للبناء فلا (يمكن تفسير التطور المطرد في كافة المجالات خلال ربع القرن الذي كان فيه الملك فهد في حوزة صناعة القرار وسدته منذ أن كان ولياً للعهد إلى أن أصبح عاهلاً للمملكة العربية السعودية خارج حقيقة تاريخية الملك فهد كأحد رجالات التاريخ العظام، لو لم يكن فهد مواكباً لحركة التاريخ ومستلهماً غاية حركتها لما حدثت هذه الطفرة الكمية والنوعية نحو مجتمع الرفاه والسلام الاجتماعي الذي ساد المملكة في عهده، لقد أسس الملك فهد- رحمه الله- للمملكة العربية السعودية الحرية العصرية بقيم وآليات المجتمعات المعاصرة، دون ما مساومة على ثوابت الدين والثقافة والأصالة التاريخية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله-: (لن نجامل أحداً على حساب عقيدتنا وشريعتنا، ولن نسمح لأي وافد إلى هذا البلد بأي ممارسات تتنافى مع أحكامنا الدينية وأخلاقنا الإسلامية أو عاداتنا العربية الموروثة، فإن كرم الضيافة الذي فطرنا عليه لا يعني التهاون في هذه الأمور). وهذا خلاف ما تقوم عليه القوانين الوضعية التي لا تعطي وزناً لإصلاح الأخلاق، وردع الظالمين والمجرمين بما يقطع دابر جرائمهم، كما كفلت الشريعة الإسلامية ذلك فقد (أبرزت التجارب الحديثة أحسن الأنظمة الجنائية)، وتبين أن هذا النظام المنشود هو الشريعة الإسلامية، وكانت التجارب التي امتحنت فيها عقوبات الشريعة الإسلامية: كلية وجزئية، فأما التجربة الكلية فقد بدئ فيها في مملكة الحجاز حيث طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً، ونجحت نجاحاً منقطع النظير في القضاء على الإجرام وحفظ الأمن والنظام، تلك هي التجربة الكلية، وكفى بها دليلاً على أن النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية يؤدي عملياً إلى قطع دابر الجريمة، وأنه النظام الذي يبحث عنه ويتمناه اتحاد القوانين الدولي) ونظراً لهذا التحكيم فإن المملكة العربية السعودية نالت حظاً وافراً من المصداقية وسلامة البيئة الاجتماعية وسرت هذه الروح الأخلاقية في السياسة الخارجية للدولة السعودية التي قامت على الأسس التالية: أ- عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى: لا تسعى المملكة العربية السعودية إلى الهيمنة وبسط النفوذ وحب الاستعلاء والعلو في الأرض مع حرصها على بناء قوتها الذاتية للدفاع عن نفسها، يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله-: )ما أود أن أؤكده هو أن حبنا اللامتناهي للأمن والسلام والاستقرار فإنه لابد من بناء قوة دفاعية تذود عن أوطاننا وبلادنا، ويكون باستطاعتنا الدفاع عن منجزاتنا ومكتسباتنا، والوقوف في وجه كل معتد وحاقد بضمان أمن واستقرار دولنا ومنطقتنا، وهذه هي مسؤوليتنا في المقام الأول)، هذه السياسة الواضحة جنبت المملكة العربية السعودية الوقوع في إشكالات السياسة المعقدة المبنية على إقامة المحاور وتسويق الأفكار، والدخول في صراع مع الدول الأخرى، كما أنها لا تسمح لنفسها بتاتاً بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، وبالمقابل لا تسمح لأي جهة بالوصاية عليها أو فرض آرائها أو التدخل في شؤونها مهما كان حجم تلك الدولة أو ضخامة تلك القوة، يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله: (إن المملكة العربية السعودية ليس لها إلا كلمة واحدة سواء في الداخل أو في الخارج فمعروف أنها تسير في خط مستقيم سواء في الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، وهذا هو المستوى الذي أعتقد أنه يجب ان تكون عليه الدولة التي تحترم نفسها، لا نريد في الواقع أن نتدخل في شؤون أحد، ولا نسمح لأحد أن يتدخل في شؤوننا، وليس لدينا روح عدوانية لأحد، لكننا نريد أن نحمي أنفسنا)، فهذه هي السياسة الثابتة حافظت على مصداقيتها ومكانتها لكونها مأمونة العواقب، موثوقة التعامل معها، ترضى حكومتها، ويطمئن لحيادها، ووساطتها، وهذا فتح المجال للدبلوماسية السعودية أن تتحرك بحرية دون توجس لحركتها أو تخوف من جهودها. ب- إصلاح ذات البين: لا نحتاج إلى التأكيد بأن الدبلوماسية السعودية إحدى صانعي السلام في التاريخ، حيث تخصصت أجندتها في ممارسة هذا الدور من أعلى درجات هرمها السياسي، وقد قاد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله- المساعي الحميدة بين الأشقاء والأصدقاء، ومد رواق المصالحة بين الجميع، ولم يعد هناك مشكلة بين المملكة وغيرها من الدول، فجميع الخلافات الحدودية سويت بالكامل بين الدول المجاورة، وأنهى معاناة الشعب اللبناني بنجاح، وبذل جهداً مضاعفاً لحل الخلافات المغربية الجزائرية، وحاول جاهداً الإصلاح بين الفرقاء الأفغان، وجمعهم أكثر من مرة حول مائدة مستديرة، وتدخل بكفاءة لحل الأزمة الليبية، ورفع شعار الوحدة بين العرب والمسلمين، يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله- :(إننا نحاول من داخلنا أن نتعاون مع أشقائنا العرب من خلال جامعة الدول العربية على جمع الكلمة ورأب الصدع، إذ إننا نؤمن بأن في وحدة الصف قوة رادعة وفي تفككه ضعفا وهوانا نأمل مخلصين أن تزول الخلافات الهامشية بين الدول العربية) ولم يبخل بخبرة تصل إلى خمسين عاماً في الحياة السياسية لتحقيق هذا الهدف الكريم. ج- مد يد العون والمساعدة: من ثوابت السياسة السعودية تخصيص جزء من دخلها الوطني، للمساعدات الخارجية، وقدر بأكثرمن 5% من الدخل السنوي، وعلى وجه خاص مساعدة الشعوب والدول العربية والإسلامية، ولا يكاد يسمع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- بكارثة بيئية أو أزمة إنسانية إلا ويهب لمساعدتها دون أي شروط مسبقة، كما لم تتخلف المملكة العربية السعودية في دفع حصتها قط في سائر المنظمات والمراكز والمؤسسات الدولية، وتحتضن على أراضيها عددا من منظمات عربية وإسلامية، وتنفق عليها، بسخاء، وتأتي المملكة ضمن أكبر دول العالم من حيث ما تقدمه من مساعدات، وقد بلغت مساعداتها 245 مليار ريال في مدة عقدين من الزمان، واستفاد من هذه المساعدات ما يقارب سبعين دولة من دول العالم، وقدم الصندوق السعودي للتنمية من 1975-1996م قروضاً لتمويل 305 مشروعات شملت 63 دولة، كانت قيمتها أكثر من 21 ملياراً، ومن بنوك وصناديق التمويل الدولي بلغ إجمالي ما قدمته السعودية أكثر من 19.8 مليار دولار، وكان تبرع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- الشخصي حوالي (369.25) مليون ريال للبوسنة والهرسك، وقدم لشعب الصومال 189 مليون ريال، كما يتم شحن الأضاحي والهدي إلى 27 دولة، كما أمر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- عام 2001م بصرف 7.362 ملايين ريال لعدد من الجمعيات والمراكز الإسلامية، وفي عام 1985م قدمت المملكة ما قيمته 618 مليون ريال لسبع دول إفريقية تأثرت بكوارث طبيعية، وكان نصيب دول آسيا 985 مليون ريال، ولقد كونت المملكة عدة هيئات ومؤسسات إنسانية لدعم العمل الإنساني، منها هيئة الإغاثة التي تقدم مساعداتها من خلال مكاتبها المنتشرة في أكثر من تسعين دولة. إن موقف المملكة هذا أكبر وأعظم من أن يزايد عليه أحد، ويمثل برهاناً لإلجام أفواه المرتابين الذين أضناهم الحسد، وأعماهم الحقد عن الإنصاف وشهادة الحق لأهله، إن المملكة إذ تقدم هذه المساعدات تؤثر الابتعاد عن الأضواء، ولا تسعى لتسجيل نصر دعائي، والعمل دون ضجيج، فقد نذر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- نفسه لخدمة قضايا الإسلام والمسلمين والدعوة إلى التضامن الإسلامي ولم شمل المسلمين وتوحيد صفوفهم ونصرتهم أينما كانوا فجاء دعمه- حفظه الله- لمنظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي وغيرها من المؤسسات الإسلامية ترجمة حقيقية لدعم العمل الإسلامي في مواجهة التحديات لخدمة الأمة الإسلامية، منطلقاً في ذلك من أن المملكة العربية السعودية هي قلب العالم الإسلامي ومهوى أفئدة المسلمين. البعد الاقتصادي لا يعجز المراقب عن التقاط الصور الحية والمشاهد الواقعية، وتسجيل ملاحظاته الموثقة عن متانة البعد الاقتصادي في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله- إذ إن الأحداث تنطق بالنهضة وتزخر بالتقدم، فليس خافياً على أحد تربع المملكة على عرش المخزون العالمي للبترول، وقد حباها الله بثروات معدنية هائلة ومقدرات اقتصادية متنوعة، فهي أولى الدول في العالم تصديراً للنفط، ويصيخ العالم سمعه إذا تكلمت في هذا الشأن، المهم في هذا السياق بيان ثمرة تعامل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- مع هذه الثروة، إذ سخرها بذكاء في تنمية ومصلحة بلده، ولم يبخل على أحد من العرب والمسلمين، فقد تعامل بمنطق المسؤولية وحصافة القائد، والتدبير الحكيم والتوجيه السليم متوجهاً إلى سائر وجوه التنمية وأنشطة الحياة، وتبلور ذلك كله في خطط تنموية مبرمجة ومحددة يأخذ بعضها بحجز بعض في تكامل، واستطاع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله- أن يسخر الثروة النفطية في تغذية خطط التنمية دون انقطاع رغم تقلبات سوق النقط البترولية، وتجنب الكوارث والمفاجآت الخطيرة التي هزت السوق البترولية بطرق علمية ذات سمات أخلاقية ارتقت إلى مراعاة مصالح المنتجين والمستهلكين على وجه سواء، وعدم استغلال بعض الظروف للابتزاز ورفع أسعار النفط دون إدراك للعواقب الوخيمة، مما جعله يسعى لتحقيق معادلة تجمع بين أقل الخسائر وأفضل الأرباح، وتجلت عبقريته الاقتصادية بوضوح في امتصاص وقع الأزمات السياسية ذات التأثير الاقتصادي المدمر، مثل معركة تحرير الكويت، وقد تعامل بواقعية وصبر وتخطيط حتى أخرج الاقتصاد السعودي من تلك الأزمة، وسرعان ما بدأ يستعيد عافيته وقوته. وقد كان لهذه السياسة الحكيمة الأثر البين في ارتقاء الشعب السعودي وانتسابه إلى منظومة الشعوب الغنية، ولم يكن لهذا الثراء ردود فعل سلبية، بل صاحب ذلك توسع في المؤسسات الخيرية وامتداد في البرامج الدعوية والإصلاحية، وقد ارتفع دخل الفرد والأمة، وغدا صولجان المال يتجسد في مؤسسات ومصانع ومشاريع إنتاجية عالية الأداء مصطبغاً بالإسلام، وسطاً بين جشع الرأسمالية وتسلط الاشتراكية، وغدت المملكة قبلة تقصدها العمالة الوافدة من كل حدب وصوب، وبات العمل متاحاً لكل متأهل قادر، والملكية الفردية مضمونة، والدولة لا تتدخل إلا في نطاق ضيق، مثل: جباية الزكاة، ومراعاة حقوق العمال، وصيانة الإنتاج، ومراقبته، وفق المقاييس المطلوبة، ومراقبة الأسواق، وتنظيم حركة العملة بما يضمن الخدمة العامة، وبرهن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- على ألمعية المذهب الاقتصادي الإسلامي وأرجحيته. كما قال المفكر الاقتصادي الفرنسي جاك أو ستري: ( إن طريق الإنماء الاقتصادي ليس محصوراً في المذهبين المعروفين الرأسمالي والاشتراكي، بل هناك مذهب اقتصادي ثالث راجح هو المذهب الاقتصادي الإسلامي). وقد تمخض هذا العهد عن عدة إنجازات عملاقة، منها إنشاء 8 مدن صناعية وإنشاء 3318 مصنعاً، وبلغت الصادرات الصناعية 20 ملياراً سنوياً لتصل إلى 118 بلداً، وتدل آخر الإحصائيات على احتلال الاقتصاد السعودي المرتبة الأولى على سائر اقتصاديات العالم العربي، فقد بلغ حجم مقدراته 155.4 مليار دولار، ومن الإنجازات المباركة لعهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله- ارتفاع مستوى المعيشة من 3750 ريال عام 1389- إلى 124.3 ألف ريال في 1419، وتضاعف الناتج المحلي غير النفطي أكثر من خمس مرات بمعدل سنوي 5.6%، ارتفع حجم الاستثمار السنوي للقطاع الخاص من (1) بليون ريال في عام 1390 - 1391 إلى ما يقارب (64.2) بليون ريال في عام 1419-1420ه، وقد بلغت جملة القروض المنصرفة للمشاريع الاقتصادية في عام 1394-1995 (35) مليون ارتفعت إلى نحو (26.77) بليون ريال حتى عام 1419- 1420ه. وحرص خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- على إقامة المشاريع الاستثمارية المنتجة، وعلى سبيل المثال بلغ حجم الاستثمار في قطاع الكهرباء للعقدين القادمين 340 مليار ريال. ولم يزل الإصلاح الاقتصادي يأخذ مداه ويعمل بأقصى قواه، ومن ذلك إنشاء المجلس الاقتصادي الأعلى، والمجلس الأعلى لشؤون البترول والمعادن، كما تم السماح لغير السعوديين بامتلاك العقارات، وتم إنشاء شركة للخدمات في مدن الجبيلوينبع الصناعية، وأقرت هيكلة قطاع الكهرباء بتأسيس الشركة السعودية للكهرباء، من خلال دمج الشركات القائمة والمشاريع التابعة للمؤسسة العامة للكهرباء، وفي مجال النقل والاتصالات تم إعادة هيكلة قطاع الاتصالات من خلال إنشاء شركة مساهمة، ويجري استكمال الجوانب التنظيمية للقطاع بإصدار النظام الخاص بذلك وإنشاء الهيئة التنظيمية للاتصالات، كما أنشئت الشركة الوطنية للخدمات الجوية (ناس: NAC) وتم إسناد جميع أرصفة الموانئ وصيانتها وتوفير معداتها إلى القطاع الخاص، وتعد تلك الخطوات بمثابة دفعة قوية لتهيئة المناخج الاستثماري الملائم والتعامل بمرونة وكفاءة مع المتغيرات والمستجدات على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية ومن بشائر تلك الإصلاحات استثمار الغاز السعودي في ثلاثة مشاريع رئيسة تصل استثماراتها إلى 62 بليون دولار، كما وجه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- بصرف 40 ملياراً لتوسعة الموانئ. البعد الثقافي من يتمعن سيرة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- حفظه الله- يكاد يقف حائراً من هول ما يراه من إنجاز وما يلمسه من عطاء يفوق الوصف، حتى يخيل إليه أن هذا التاريخ المجيد ممتد في مسارب التاريخ عمقاً، إذ يصح أن نقول: إنه سبق الزمن ولم يكن يسابقه، وتجاوز المدى المقدر في تاريخ النهضات بأوسع الخطى، وخير شاهد على ذلك ما بذله- رحمه الله- من جهد متفان وعطاء متواصل وأداء متقن في سبيل نهضة بلده التعليمية والثقافية، فمنذ أن كان أول وزير للمعارف، وهو يدرك بخبرة وكفاءة مهمته وما ينتظره من عمل وما عليه من واجبات، إذ يقول عن مهمة وزير المعارف: (مهمة وزير المعارف في كل دولة مهمة شاقة لأنه مسؤول عن حركة الفكر والعمل على السواء فهو مسؤول عن الثقافة العامة، وعن الثقافة العليا وعن العلم والتعليم، ذو درجات تبدأ من التعليم الأولي، ولا تنتهي عند الشهادة الجامعية أو إجازة الدكتوراه أو (الايجريجاسيون) إن وزير المعارف الحق المسؤول عن التعليم الأهلي أيضاً وعن كل صفوفه بلا استثناء). وهذا الإدراك الجيد لمهمة إدارة وزارة المعارف والاشراف على سياستها أهله في وقت مبكر لتحقيق أهدافه الخيرة، وسبر بخبرة وكفاءة حاجة بلده إلى التعليم وهو القائل: (إن التعليم سيدخل كل بيت وإن كل فرد في المملكة سيستضيء بنور العلم)، فمن واقع المسؤولية وضع أولى لبنات البناء وأسس قواعد الانطلاقة التعليمية الكبرى لكونه -رحمه الله- يؤمن بالخيار العلمي لترقية بلاده ورفاهيتها حيث يقول: (أمة بلا علم لا تستطيع أن تعيش بين الأمم) وانطلاقا من هذا الاصرار العلمي بسط العلم رواقه على ربوع المملكة في تكامل بين سائر العلوم دون اقصاء أو تهميش أو اهمال لبعضها أو المبالغة والافراط في جانب على حساب الجوانب الأخرى، وتحت ظل قيادته -رحمه الله- وصلت الحضارة السعودية الى نقلة حضارية وثابة، مما جعل أبناء المملكة ينافسون أقرانهم في الدول المتقدمة، ويتفوقون عليهم أحيانا كثيرة، يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله-:(والقفزة التعليمية التي وجدت في المملكة العربية السعودية لا أعتقد أنها وجدت في اي بلد آخر ولهذا أسبابه: - السبب الأول: أن الدولة لم تبخل بشيء لدفع عجلة التعليم إلى الأمام. - السبب الثاني: أن المواطن السعودي ساهم مساهمة كبيرة، فمنهم من ساهم بخدمة العلم، ومنهم من اندفع إلى أن تكون حصيلته العلمية حصيلة جيدة وثابر على الدراسة حتى أوصل وطنه إلى ما وصل إليه). واحتفظت مناهج التعليم بخصوصيتها وشخصيتها بعيدا عن لوثات الدراسات الانسانية التي امتزجت بالالحاد والانحلال، وبرئت من فكر الاثارة والارهاب والتحريض ضد الانسانية وانطلاقا من حرص خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- على مكتسبات الوحدة التي أرساها المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- مما أزال أي التباس في الرؤية أو غبش في المفاهيم، فاستراتيجية التعليم في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- واضحة مبنية على أساس الكتاب والسُنّة، وفي أيد أمينة طالما أسمعت كلماته النيرة آذان رجال التربية والتعليم قوله:(إن كل ما تتولون هو مسؤولية وأمانة عظمى، فالله الله في حفظ هذه الأمانة ورعايتها). فلا يوجد في المملكة العربية السعودية أية مظاهر للصراع الثقافي أو التفرقة بين صنوف التعليم، فمن المشاهد المألوفة في أروقة الجامعات والأقسام العلمية في المملكة رؤية أفواج من الأساتذة والطلبة المتمسكين بدينهم وعقيدتهم، مثلهم كمثل اخوانهم في الجامعات والمعاهد الشرعية والكل يتقاسم المراتب والسلم الوظيفي دون فروق تذكر، ويكن بعضهم لبعض كل تقدير واحترام، وإن بدت ظاهرة فكرية منحرفة فسرعان ما تتقوقع معزولة ومنزوية إلى غير رجعة لا تجد لها صدى في أوساط المثقفين في المملكة. البعد الاجتماعي إن النظر في البيئة الاجتماعية يعد مرآة عاكسة، لمعرفة الجانب الحضاري في المجالات كلها، وهذا ما يبدو جليا في المجتمع السعودي في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- الذي جعل الرقي بالمواطن السعودي همه الأكبر وهاجسه الأعظم، وهذا ما نلحظه من تعريفه للحضارة بقوله: (الحضارة ليست ببناء المباني والشوارع الفسيحة وإنما أهم من ذلك: المواطن المتسلح بالعلم والوعي، هذه هي الحضارة التي يصنعها الإنسان المسلم). فحري لهذه الرؤية المستقيمة أن تصل إلى مداها وتحقق نجاحها في البناء المادي والمعنوي الذي يحفل بالرقي الأخلاقي، خلافا لما تعيشه المجتمعات البعيدة عن الإسلام من سيطرة المادة على مناخ حياتها، وقد كان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- واقعيا حين بشر مواطنيه بتلك النهضة الوافية وتحقيق تطلعاتهم على المدى البعيد والقريب بقوله:(الذي يهمنا بالدرجة الأولى هو كيف نجعل المواطن والمواطنة السعودية سعداء في هذا البلد ومن الطبيعي أننا لا نستطيع أن نقول إننا سوف نسد الحاجة كلها أو ندّعي أننا أدينا الواجب مثلما نريد، لكن نستطيع أن نقول إننا نسير في الاتجاه الصحيح السليم في هذا الخط المستقيم). فكان ارتفاع مستوى الرفاه الاجتماعي نتيجة حتمية لهذا الاهتمام متصلا بسائر الخدمات، من معيشة وسكن وصحة وبمعدلات قياسية لم تعهد من قبل، وفق آلية قائمة تتمثل في وزارات تعنى براحة المواطن، مثل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ووزارة الصحة، ووزارة الاسكان، وغيرها من الوزارات والإدارات المساندة، والتي تصب في خدمة المجتمع السعودي من مختلف فئاته وطبقاته على حد قول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله-:(إن من أهدافنا المهمة أن تتوافر لجميع المواطنين في القرى المناطق البعيدة نفس المرافق والخدمات الموجودة في المدن الرئيسية). وكان من مقاصد اصدار أنظمة الحكم والشورى والمناطق، اشراك ذوي الكفاءة والخبرة، من مختلف مناطق المملكة للتعبير عن حاجة أبناء منطقتهم بطريقة علمية حضارية منظمة، ترتقي بمستوى الشعب السعودي، وتلتمس خدمته وترفع شكاياه، من غير مزايدة أو تسجيل مكاسب شخصية وحزبية، والدولة السعودية قد وظفت خدماتها وبذلت جهودها لخدمة الشعب، ولدى أمراء المناطق والوزراء وسائر المسؤولين أوامر مشددة من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- بلزوم سياسة الباب المفتوح، والاعتناء الفائق بالاستجابة الفورية لخدمة المواطن، ولكل وزارة وإدارة في الدولة أهدافها المحددة لخدمة المواطن، فمثلا وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، أخذت على عاتقها تحسين مستوى المرافق الاجتماعية وتطويرها، والعناية بحقوق العمال، ومصلحة أرباب العمل، وسد عوز الطبقات الفقيرة، والعناية بذوي الحاجات الخاصة، تنفيذا لسياسة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- القائل:(إن دعمنا المتواصل لقضية المعوقين عامة، والمكفوفين منهم خاصة، إنما ينبع من نظرة مجتمع المملكة إلى الإنسان، باعتباره الدعامة الأساسية لهذا المجتمع، وأثمن ما يملكه، فإذا تعرض هذا الإنسان لأي عائق بدني أو فقدان حاسة من حواسة، فإن ذلك لن يمنعه من ممارسة التزاماته، ويحقق أنبل ما في ذاته من خير وعطاء). البعد الزراعي ليس من قبيل الخيال أن تتحول الصحراء القاحلة إلى جنان خضراء يانعة وأنهار جارية، تلك حقيقة تجري أحداثها اليوم على أرض المملكة العربية السعودية التي تغلب عليها البيئة الصحراوية. يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله-:(الذي يعرف هذه البلاد من قبل عشر سنين أو عشرين سنة يجد أنه عندما حصلت الدولة على المبالغ المطلوبة لم تدخرها أو تخزنها مثلما تقول بعض الجرائد المغرضة سواء عربية أو خلافها، مثلا نسمع في الراديو أو التلفزيون وفي الجرائد هناك حملة مغرضة ضد المملكة العربية السعودية، وهي حملة حقد لا أكثر ولا أقل لماذا؟ لأن هذا البلد الصحراوي وصل إلى ما وصل إليه الآن لا من الناحية العمرانية ولا الزراعية بل الصناعية كذلك، من كان يصدق أنه استطاع أن يسد حاجته بنفسه من الزراعة كإنتاج الحبوب مثلا) وذلك بسبب قبول القيادة الحكيمة لأسلوب التحدي والنزول بإرادة صلبة نحو بعث حركة زراعية نشطة، ومحاولة استثمار الثروة المالية وتسخيرها لخدمة الزراعة بالطرق والأساليب الحديثة. وقد حققت تلك السياسة أهدافها بوصول المملكة إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي والتصدير إلى الخارج، ومن أشهر المنتجات الزراعية التي لقيت اهتماماً خاصاً من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- محصول القمح الذي حرصت الدولة على دعمه وحمايته حتى تمكنت المملكة من تلبية حاجاتها وصُدِّر الزائد إلى أنحاء العالم مع احتفاظه بالجودة ففي عام 1999م بلغ إنتاج المملكة أكثر من (1.8) مليون طن. وصاحب هذا الانتاج الوفير اقامة بنية تحتية لاستيعاب هذا المحصول الضخم وتنظيمه وفق آلية حضارية متقنة تمثل ذلك في بناء صوامع الغلال في أكثر من منطقة في المملكة العربية السعودية. وفي مجال زراعة الخضار والفواكه ارتفع إنتاج التمور من 240 ألف طن عام 1970م إلى 650 ألف طن عام 1999م كما ازداد إنتاج العنب بمعدل سنوي متوسط بنسبة 6.2%. وارتفع إنتاج المملكة من الدجاج اللاحم من 7 آلاف طن في عام 1970م إلى 526 ألف طن في عام 1999م محققا نمواً سنويا متوسطا بنسبة 67.1% وبلغ إنتاج البيض 139 ألف طن في عام 1999م بعد أن كان الانتاج لا يزيد عن 5 آلاف طن عام 1970م وقد بلغ معدل النمو السنوي المتوسط في إنتاج البيض 12.8% خلال هذه الحقبة. ونتيجة لدعم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- المتواصل للزراعة فقد شهد هذا القطاع اقبالا كبيرا من المواطنين للاستثمار فيه وقيام عدد من الشركات الزراعية الكبرى وزادت مساحة الرقعة من 600 ألف هكتار عام 1980م لتتجاوز الآن 1.7 مليون هكتار وتم توزيع 2.5 مليون هكتار على المواطنين. وكان لقروض البنك الزراعي الأثر الكبير في اقامة أكثر من ثلاثة آلاف مشروع زراعي متخصص في إنتاج الخضراوات والفواكه ومنتجات الألبان، وبلغ إنتاج المملكة من الخضراوات في عام 1997م 2.7 مليون طن، ولقد حققت فائضا في بعض الأنواع تم تصديره إلى الخارج. واعترافاً بمنجزات المملكة في المجال الزراعي قدمت (منظمة الأغذية والزراعة) في روما بايطاليا جائزة تقديرية لوزارة الزراعة والمياه سنة 1409ه كما حصلت المملكة على ثلاث جوائز من منظمة الانماء العربي للصناعات الغذائية. كما بدأ الاهتمام بمشاريع الألبان منذ عام 1975م نظراً لمواجهة الطلب المتزايد على الحليب ومشتقاته، ونظراً لارتفاع مستوى المعيشة للمواطن والرغبة في اقامة صناعة وطنية متطورة في هذا المجال وسط سوق بلغ حجم استثماراته أكثر من 6 مليارات ريال سعودي، وقد بلغ إنتاج الحليب 349 مليون لتر عام 1993م فيما تضاعف إلى أكثر من 600 مليون لتر نهاية العام الماضي, وأقيم العديد من مشاريع الالبان المتخصصة والمتكاملة، تضاهي أفضل المشاريع في العالم، وتشمل مزارع للأعلاف، وحظائر حديثة للتربية والتسمين، ومحالب آلية، ومصانع متطورة لانتاج مختلف مشتقات الألبان، إضافة إلى وحدات المساندة كالمختبرات ووحدات العناية البيطرية وأسطول من سيارات النقل المبردة، إذ يوجد في المملكة أكبر مزرعة في العالم متكاملة (مزرعة الصافي) لإنتاج الالبان والمنتوجات الزراعية الاخرى. أما تحصين الثروة المائية الحية من المياه الاقليمية للمملكة فقد صدر بمرسوم ملكي عام 1988م الذي أوكل لوزارة الزراعة مسؤولية الاشراف وتنمية القطاع الذي تقوم برعايته عن طريق وكالة الوزارة لشؤون الثروة السمكية من خلال وضع السياسات والتخطيط وتصميم البرامج القصيرة والطويلة المدى لتنمية وتطوير الثروة السمكية والأجهزة التي تتعامل معها بشرياً ومادياً وتجهيزياً وإصدار القرارات واللوائح التنظيمية، وتشرف وكالة الوزارة لشؤون الثروة السمكية على ثلاث إدارات، وهي إدارة الاستزراع السمكي، وإدارة المصائد البحرية، وإدارة حماية البيئة البحرية، كما تشرف على أنشطة ومراكز الأبحاث وفروع مكاتب خدمات الثروة السمكية المنتشرة على الساحلين الشرقي والغربي. ونظراً لطبيعة المملكة الصحراوية وشح المياه بها ركزت حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- خلال العشرين سنة الماضية على تحلية مياه البحر الأحمر والخليج العربي وأنشأت 27 محطة تحلية على البحر الأحمر والخليج العربي، أنتجت خلال العام 1420- 1421هت أكثر من سبعمائة وسبعة وتسعين مليون متر مكعب من المياه المحلاة لتجري هذه المياه بعد معالجتها أنهارا متدفقة إلى المدن والقرى السعودية في أعماق الصحراء، لينعم الانسان السعودي بمصدر دائم ومستقر من المياه العذبة الصالحة للاستعمال بغير مشقة أو عناء، ولنقل المياه إلى المناطق الداخلية أنشأت المؤسسة العامة لتحلية المياه، شبكة لخطوط الأنابيب يبلغ مجموع أطوالها أكثر من 2000 كيلو متر بأقطار مختلفة تبلغ بعض الأحيان 2000 مليمتر، وأقامت المؤسسة على طول هذه الخطوط 19 محطة لضخ المياه إلى خزانات التحلية البالغ عددها 108 خزانات تصل سعتها الاستيعابية إلى أكثر من ستة وثلاثين مليون متر مكعب لضمان تدفق المياه عبر الأنابيب بمعدلات ثابتة مهما كان طول الخط أو ارتفاع المناطق التي يمر بها عن سطح البحر، هذا فضلا عن اقامة عشرات السدود المنتشرة في طول المملكة وعرضها لزيادة مخزون المياه الجوفية. البعد الأمني لا يتنقص حقّ يحميه رجال مؤمنون، ولا تزول نعمة أهلها شاكرون، ولا تذل أمة يقول حكامها بالحق وبه يعدلون، تلك حقيقة عمق الأمن الشمولي الذي تتطلع إليه الأمم والشعوب، والتي كانت تفتقر إليه جزيرة العرب جملة وتفصيلا، فلما بزغت شمس الحكم السعودي الميمون منذ مطلع القرن الثاني عشر الهجري انجابت تلك الظُّلَم، وانغمست في نور الأمن وضياء الطمأنينة، وتولى ليل الخوف وانهزمت جيوش الفزع. لقد فقدت الجزيرة العربية الأمن قرونا متطاولة وغدت جزءاً مبتوراً عن العالم، واقتصر اهتمام السلاطين والخلفاء -بعد العهد النبوي والراشدين- على منطقة الحجاز وعلى وجه الخصوص المدينتين المقدستين (مكة والمدينة) والطرق الموصلة اليهما، وفي نطاق ضيق حظيت تلك الطرق بوظائف الحراسة لقافلة عابرة، أو حفر آبار على طريق السابلة، لقوافل الحجيج الصادرة والواردة، أما ما بقي من أرض الجزيرة، فأضحى ألعوبة في أيدي القبائل المغيرة في معارك قاسية لا تنتهي إلى حد، حتى أصبح ذلك تقليداً أصيلاً ومصدراً رئيسياً للرزق تسفك على جوانبه الدماء وتنتهك الحرمات. وبقيام الدولة السعودية -حرسها الله- استعادت الجزيرة دور الريادة، وعرف أهلها لأول مرة طعم الحرية وبلسم الطمأنينة وصمام الأمان على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- الذي حمل لواء الوحدة، وقضى بحكمته وشجاعته على الفرقة، وتحقق في عهده المبارك البعد الأمني بكل أبعاده وصوره وألوانه، ولم يزل أبناؤه البررة يحافظون على إرثه العظيم، من أجل صون تلك الوحدة والمحافظة على مكتسباتها، حتى أصبحت العلاقة بين أسرة المؤسس والشعب السعودي لحمة واحدة ورابطة مشتركة الآلام، والآمال،كل يدرك بحصافة ووعي قيمة الأمن وخطر التفريط فيه أو التنازل عن شيء منه، وقد كان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- حفيا بالأمن، محافظا على مكاسبه، مؤطراً لأبعاده، ومطوراً لمفاهيمه، ومرسخاً لجذوره، لذلك فإن دولته الحاكمة تلتزم أحكام الشريعة الإسلامية في فرعي السلطة وما يتصل بها مما يتضمنه حسن سير أمور دولته على أساس التطبيق الفعال العادل والحازم للنصوص الصريحة الواضحة للشريعة الإسلامية، ويشير المنظرون وذوو الخبرة من الاجتماعيين الى أن ذلك هو ما جعل هذه المملكة بلداً آمناً، ينعم بالأمن وقلة نسبة وقوع الجرائم من بين أقطار العالم الواسع. ولم يكن من المصادفة العارضة أن يتولى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- دفة وزارة الداخلية سنة 1382ه بعد وزارة المعارف التي تولاها لمدة سبع سنوات، بقدر ما كان الرجل المناسب في المكان المناسب، ولا بد أن تنعكس تجربته في تطوير العلم على تحسين أداء وتطوير الداخلية التي كانت آنذاك بأمس الحاجة لبصمات الفهد في تدريب وتأهيل رجال وزارة الداخلية علميا وإداريا. لقد وضع الفهد في وزارة المعارف الأسس والنظم التي تقود إلى تطوير مناهج التعليم المستمدة من الشريعة ومواكبة العصر، وأمضى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- في هذه الوزارة ثلاثة عشر عاما يقود ليل نهار عملية التطوير والتنظيم والتعليم وادخال الخدمات الواسعة وتوسعة نطاقها، وحقق هذا الجهد بالاخلاص والمتابعة مجموعة من الانجازات بدأت تتوالى بعد توليه وزارة الداخلية مباشرة، فبعد توليه جاء صدور نظام المقاطعات في 21 من جمادى الأولى من 1383ه تأكيداً لأحد الأساليب الإدارية الحديثة، وتتويجاً لمراحل تطوير الإدارة المحلية في المملكة العربية السعودية. وقد نالت سائر الأجهزة الأمنية كل الرعاية والاهتمام من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- الذي جعل منها درعاً حصيناً لحماية الوطن السعودي من المعتدين، وسجلت القوات المسلحة، سواء قوات الحرس الوطني أو القوات التابعة لوزارة الدفاع والطيران بفروعها الأربعة تقدما متواصلا من حيث التجهيزات الآلية أو من حيث تأهيل الضباط والأفراد وزيادة أعدادهم، وأصبح الحرس الوطني بدعم ورعاية الملك فهد -رحمه الله- وتوجيه وقيادة سمو ولي العهد آنذاك نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- مؤسسة حضارية عملاقة وقوة عسكرية متزايدة النمو والأداء بفضل صلابة التجهيز ومتانة الاعداد والتدريب. أما ما يخص القوات المسلحة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- فقد شهدت تطورات عديدة من حيث القفزة النوعية في التدريب والتسليح أو من حيث التجهيزات العسكرية والبرامج الاستراتيجية. من المعلوم بداهة، جريان حضارة كل أمة ناهضة، انطلاقا من مقوماتها ومبادئها الأصيلة؛ حيث تبدو للعيان سمات الخصوصية وبصمات الهوية طابعا لها، وغير خافٍ على أحد اعتزاز سائر الأمم بتراثها والحرص على نشره وإبرازه والدفاع عنه، وتلك مهمة شريفة، وتطلع ممدوح مبني على ثقة واستعلاء غير مكروه، لكونه برهانًا على الاستقلالية، ودليلا على كامل الحرية في الاختيار والخصوصية، ومن هذا الباب، فإن للبعد الحضاري في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - خصائص قيمة، وسمات آسرة، تبرهن على مدى التمكن في العراقة، وعمق الجذور في الأصالة، وتجذر بالتراث والاعتزاز الشامخ بأمجاد الأمة والعتاقة الخالصة من الاستلاب الثقافي والسلامة من هيمنة التغريب. لقد فرضت تلك الخصائص طابعها وتغلغلت معالمها في النشاط الحضاري في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - ومن الخير والرشاد للأمة إبراز تلك الخصائص التي من أهمها: 1 - التركيز على الثوابت منذ أن تعاهد الإمامان الجليلان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب - رحمهما الله - على نشر الدعوة، وتعاضدا على نصرة الملة، بدت بما لا لبس فيه ولا غموض، منهجية الحكم السعودي وسماته الحضارية، وغدا النمو الحضاري رديف الانتشار الدعوي، وانساح كل قبيل في تخصصه، وانهمك في مهمته، لبناء دولة العلم والإيمان، وتوارث القادة السعوديون وعلماؤهم مسؤولية المحافظة على تلك المنهجية، في بيئة صالحة، ومدارج كريمة، تستوعب تلك الفلسفة وتطبق هاتيك الحكمة، وتؤمن بهذه العقيدة واستحالت إلى ملكة راسخة في وجدان كل سعودي وفي مقدمتهم النخبة السياسية والعلمية في المملكة العربية السعودية، الذين اتخذوا ذلك استراتيجية لا بديل عنها، ويعد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - احد القادة التاريخيين لهذه الدولة المباركة، الذي ما فتئ يذكر بهذه الحقيقة الحضارية، اعتمادا على الحقائق العلمية والبراهين الموضوعية التي تلقاها كفاحاً من الملك المؤسس، وتلقفها علما وطبقها منهجا، ونادى بها دعوة في كل مناسبة، ورغم التغيرات الاقتصادية الهائلة والنقلة النوعية الكبيرة في مجريات الحياة المختلفة لم تزل تلك الثوابت تسير - بتوازن واعتدال - دفة الحضارة والنهضة السعودية المعاصرة. يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله -: (إن أهداف المملكة العربية السعودية هي العمل إلى إرساء دعائم شريعة الله والعمل بها في جميع شؤونها ثم استخدام جميع الموارد التي حبانا الله إياها، وبذل كل الجهود في تحقيق التنمية الشاملة ورفع مستوى المعيشة ليتمكن المواطن في جميع ارجاء البلاد من العيش في رخاء وطمأنينة). وتحققت - بفضل الله - تلك الآمال الخيرة والأهداف السامية وأثبت خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - بما لا يدع مجالا للشك إمكانية النهضة الحقيقة دون التنازل عن الثوابت الشرعية والمبادئ الأخلاقية، والاعتزاز بالتراث، خلافا لما شاع لدى رموز الفكر الغربي المعاصر؛ الذين ظنوا - جهلا - أن التقدم للمسلمين لا يتحقق إلا بالانفتاح المطلق على الغرب بدون قيود. وقد بدأ خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - عالما حكيما، وحارسا أمينا، ومشفقا ناصحا لأمته، بددت آراؤه كل شبهة ومزقت كل مقولة منحرفة يقول - رحمه الله -: (ونحن ننفتح على العالم للاستفادة من أحسن ما فيه، ونحن نطور مجتمعنا وننميه في عصر استخدم قضية التطور في هدم الأصول، والتفريط في الجذور) وشفع هذه الرؤية الصائبة بأمر صريح لبناء شعبه وأفراد أمته، مسخدما صلاحيته في التوجيه ورسالته في الحكم، بقوله: (خذوا من العلوم ما يناسب هذه البيئة مهبط الوحي ومنبع الإسلام، وجنبوا أبناءنا كل ما يتعارض والدين الحنيف). وقد حرص خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - على الرد على حملات التغريب وتلقين المفتونين بالفكر الغربي درساً بليغاً لا ينسى، حيث قال:(العقيدة الإسلامية ليست خاصة ببلد دون آخر، ولكن العقيدة صالحة في كل مكان وفي كل زمان، وليس كما يدعي البعض أنها تعوق بعض الأمور التقدمية، ليس هناك أمر فيه فائدة سواء من الناحية الصحية أو من الناحية العسكرية أو من الناحية الزراعية أو من أي ناحية أخرى إلا تضمنته العقيدة وأبانته بوضوح). 2- الأصالة والمعاصرة ومن المسلمات البديهية ما يصبح في اوقات الغربة والبعد عن الحقيقة مسألة شائكة الأبعاد وغامضة الفصول، لتدور على صفحاتها ردود الأفعال المتناقضة من غير طائل، وعلى هذا النمط ظهرت قضية الأصالة والمعاصرة، كردة فعل للانبهار الثقافي، الذي مني به العالم الإسلامي، وهو يلملم جراحه بين أنياب الاستعمار الذي لم يدع له فرصة اختيار العلاج المناسب له، وتعويض ما فقد من فصيلة دمه، وذلك لئلا يشفى من جهله وينهض من كبوته ويصح من علله، وبدلا من ذلك اختار له ما يؤزم مرضه ويمنع شفاءه، فأنشأ من أبنائه من ينوب عنه ويتكلم ويتحدث بآماله وينفذ برامجه، وعندها بدأت معركة الجمع بين الأصالة والمعاصرة تظهر بين طرفي نقيض يمثل أحدهما الإسلام ويلح على تطبيقه ويستعرض محاسنه ويتغنى بأمجاده، بيد أن مقاليد الأمور ليست إليه - في بعض البلدان وآخر تيار هادر وطوفان مزمجر يمتلك الإعلام والسلطة والقانون يعلنها صراحة أن نهضة العرب مرتبطة على قدر بعده عن الدين وقربه من الغرب. وفي هذا الجو الملبد بالغيوم؛ تبقى المملكة العربية السعودية تغرد بعيداً عن سرب العلمنة والتغريب، معلنة بصراحة لا مواربة فيها أن الإسلام بوابة نهضتها، ومحراب حضارتها، ونبراس منهجها، يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله -: (ما أجدرنا ونحن نتفيأ ظلال دعوة الإسلام أن نعضّ على عقيدتنا الإسلامية السمحة بالنواجذ، ونتخذ منها منهاج عمل ونظام حياة، لأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فلنكثف جهودنا ونرص صفوفنا بحبل الله ونعلي كلمة الحق، ونرفع راية التوحيد خالدة خفاقة). ويمثل هذا الإعلان انقياداً واعياً يأبى الانغلاق وينفتح بثقة وجسارة على العالم، وذلك أن الحضارة عطاء إنساني مشاع ينال منها كل فرد وأمة على قدر جده مع الاحتفاظ بالخصوصية التي ترسم سبل الاقتباس من هذه الحضارة أو تلك والإسلام لا يجبن عن المشاركة والتفاعل مع كل جديد وتلك قاعدة اساسية تبرز احد طرفي المعادلة الحضارية المتمثل في المعاصرة، التي تعني الأخذ بأسباب الحضارة المادية والتفاعل مع تطورات العصر بإيجابية واستقلال، وهذا ما أشار إليه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - بقوله: (إن العقيدة الإسلامية عيدة بناءة تتطور مع الزمن على اساس كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم تنه عن شيء إلا وكان الخير في تخليه، ولم تأمر بشيء إلا وكان الخير في اتباعه، فمهما أريد أن يلصق بها من اتهامات فهي بريئة، وإن كان هناك نقص أو قصور فهو منا نحن المسلمين وليس من عقيدتنا الإسلامية). وأوعت هذه المقولة النيرة التنصيص على ضرورة التمسك بالأصالة الحافزة على عدم التفريط بالهوية والأخذ بما أحسن فيه الماضون وعرفوا به من صفات ونبل وأريحية ووفاء والتحاجز عن الأخلاق المرذولة والأفعال الساقطة، وقد سعى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - إلى إظهار معالم الأصالة في رونق جميل ولغة عصرية من خلال بناء مراكز البحوث وإخراج لكتب التراث وتحقيقها وإنشاء المتاحف وعقد المهرجانات الثقافية لإبراز مآثر الآباء والأجداد في صورة جذابة ومفهوم حضاري. ولم يكن يدور بخلد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - وهو يجدد حقول التراث ويعيد تاريخه التغني بأمجاد الماضي والوقوف على الأطلال واجترار أمجاد الآباء، بقدر ما هو ربط الماضي بالحاضر لاستمرارية البناء، وذلك بصناعة الحاضر واستشراف المستقبل بلغة وأبجديات التقدم حيث: (إن المثل الأعلى من الناحية النظرية الذي طالما أنه إذا ما أريد فرض اي تغيير بصورة مرحلية على أمة من الأمم، وجب أن يتم إعداده بكل عناية، بحيث يتمشى مع الإطار الثقافي للأمة المتلقية له ولا بد لشرط سابق أن تقوم هذه الأمة بتجديد قيمها الخاصة تحليلها، حتى تستطيع التحكم في الآراء الغريبة التي يراد إدخالها والتي من شأنها تغيير هذه القيم فتتحكم فيها من حيث نوعيتها أو من حيث معدلاتها وليس في العالم إلا ثلاثة أنظمة سياسية هي التي تبذل جهداً واعياً للتحكم في إدخال القيم مرحليا بهذه الكيفية والمملكة واحدة من هذه الأنظمة). وقد أثبت تطبيق خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - لمعادلة الأصالة والمعاصرة بعده عن التعصب، ورفضه أسلوب التهور، والحرص على التؤدة والمرحلية في الاصلاح والتخطيط والتنظيم في الإدارة من أجل تحقيق قدر كبير من النجاح والسلامة من عثرات الاندفاع ومشاعر الحماس غير المنضبط بأصول الحكمة وناموس الشرع. 3- الشمولية من المستبعد عقلا والمستحيل واقعاً، أن تحقق الوسائل مقاصدها وتؤتي الجهود ثمارها مع وجود ثغرات مهملة وجوانب مضيعة مما يؤدي حتما إلى خلق صيرورة مخيبة لآمال، مبددة للطاقات مهدرة للأوقات، فكان من الحصافة عدم استبعاد أي مجال أو التقليل من شأن بعض الأحوال، حتى لا تنخزم الجهود وتظهر عقبات وعيوب ليست في الحسبان. وقد تفطن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - بذهن ثاقب وبصيرة واعية إلى أهمية التخطيط الشمولي والتنظيم المبرمج فسارت إصلاحاته وفق خطط تنموية منظمة فهو أحظى القادة وأكثرهم اهتماما بالتخطيط فليس من المستغرب أن يشارك بنفسه كأحد المتخصصين، وتلك خلة عرف واشتهر بها فإن من عمل معه قليلا أو كثيراً يعرف عنه أنه رئيس يعرف الجهاز الكبير الذي يرأسه معرفة جيدة، ويعرف عن أي جهاز رئيس أو فرعي في هذا الجهاز كيف بدأ أو كيف تطور ومن كانوا مسؤولين عنه في السابق؟ ومن يعمل فيه الآن؟ وإذا ما افتقد جزءاً من هذه المعلومات، أو تداخلت مع جزء آخر فلا يحتاج الشخص الذي قد يسأله عن ذلك إلا إلى إشارة يسيرة إما إلى الموضوع أو حادثة سابقة تتعلق بهذا الجهاز أو الشخص الذي يرأسه أو حتى الإشارة إلى مناقشة سابقة لها علاقة بالموضوع، ثم لا يحتاج المتحدث بعد ذلك إلى استمرار في الشرح، فسوف يجد أن الملك فهد - رحمه الله - قد تذكر بسرعة كل شيء، وربما زاد بعضا ما لا يعرفه المتحدث معه عن الموضوع محل السؤال، وقد أشرف بنفسه على نهاية الخطة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة بكاملها والسابعة فتحقق على يديه خصوصية حضارية وبادرة تنموية تعد سبقا حضاريا لم يطلها سواه، هذا فضلا عن كونها اعطته خبرة كافية في استيفاء آماله وتحقيق أحلامه المتجسدة في إرساء دعائم الشرع، وتحقيق التنمية الشاملة، يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله -: (إن أهداف المملكة العربية السعودية في العمل على إرساء دعائم شريعة الله والعمل بها في جميع شؤوننا، ثم استخدام جميع الموارد التي حبانا الله في سبيل تحقيق التنمية الشاملة ورفع مستوى المعيشة لتمكين المواطنين من جميع أرجاء البلاد من العيش في رخاء وطمأنينة، فلم يدع مجالا للروح والحسد فيه مغنى ورجى إلا أعطاه قدره ووفاه حقه، فالتنمية من جهة نظر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - لا تعني الاهتمام بالجوانب المادية فحسب، بل لا بد أن تتواكب وبنفس القدر من الاهتمام مع بناء القدرات الفكرية والطاقة الروحية، فبناء المسجد يسير جنبا إلى جنب مع تشييد المستشفى وإقامة الجسور، ورصف الطرق يقترن بتوفير المدارس وإيجاد المصانع وزراعة الأرض، كما قال خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - عن شمولية التنمية إنها ليست فقط في إقامة المصانع، ولكن بإيجاد الرجال الذين يديرون المصانع. وكانت همته أسمى جلالا وأعلى كمالا ترنو إلى المعالي وتتقفر المكرمات وتسعى إلى توطين الحضارة في بلاده حتى تكون حذو القذة بالقذة بالدول المصنعة والمنتجة والمصدرة يقول - رحمه الله -: (من الطبيعي أنه لا يوجد شيء يمكن أن يوصل إلى ما وصلوا إليه من الناحية العلمية إلا بالعلم، والعلمية تشمل أمورا عديدة إن كانت تكنولوجيا أو طبا أو صناعة أو هندسة والعديد من الأمور الأخرى ليس هناك فرق بيننا وبينهم، الفرق أن سبقونا بالتعليم، وكيف يمكن أن يطوروا أوطانهم، طوروها ويمكن تعبوا عشرات أو مئات السنين حتى وصلوا إلى النتائج التي وصلوا إليها الآن). لقد قطف السعوديون ثمرة جهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - في جميع المجالات، وأدرك المخالفون هذا الفضل العميم خاصة بعد انقشاع التيارات التقدمية والثورية، وعادت تلك الدول ترمق بعين خجلة التجربة السعودية لتستفيد منها، وطرحت تلك الشعوب سؤالاً مهما حول أنظمتها: ماذا استفدنا ونحن نردد عشرات السنين المصطلحات الضخمة والعبارات الثورية والرؤى التقدمية وفي نهاية المطاف لم نجد خبزاً لنأكله أو عملاً لنسترزق منه؟ 4 - الوسطية ليس بدعا من الأمر أن يتصف العقلاء بالاعتدال العقلي المبطن بتوازن عاطفي، يملي إيحاءاته عليهم وتظهر بصماته على آرائهم وتصرفاتهم، بأبعادها الإنسانية وأنشطتها العلمية التي توفر لهم كما وافراً من الرؤى الصائبة والخطوات الموفقة، وإذا ما أنيطت تلك الصفة بقائد أو زعيم وخالطت شغاف قلبه وتغلغلت في مشاعره، تجلى في زمنه نجما لامعاً وكوكبا هادياً، يتصل أثره بعالمه كل، وهذا ما يلحظه المراقب في سياسة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - الاعتدال وتهدئة الامور، وعدم الرضوخ لردود الفعل الآنية، أو الانكفاء على الذات والانعزالية، ومن المؤكد أن إصلاحات وجهود خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - خرجت من بوتقة الوسطية، وتبلورت بميزان الاعتدال، وجاءت قراراته مبنية على التوازن الدقيق مطعمة بروح القائد الملهم وحس المصلح المشفق، ولم تكن لها آثار سلبية بقدر ما أتت ثمارها المرجوة بأعلى درجات الاتقان والأداء. ولأن الوسطية أساس متين لكل عمل ناجح وخلق عظيم، والإفلاس منها إفلاس من قيم الحياة الحقيقية، ولذلك حرص خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - على التنويه والتذكير بها، ودعم تلك الرؤية بإضفاء طابع الوسطية على قراراته، ومن هنا انطلقت حركة النهضة بخطة ثابتة متئدة؛ وسطا بين الإبطاء والعجلة، متقيدة بضوابط الحكمة انتزاعاً من الدين الإسلامي الذي تحكمه المملكة العربية السعودية، واشار إلى ذلك خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - بقوله: (الدين وسط لا يخرج عن نطاقه شيء إلا ربّ العزة والجلال أنزله على عباده، متكاملا لا ضرر ولا ضرار، ليس هناك شيء إلا وتطرقت له العقيدة الإسلامية في حياتنا التي نعيش بها، وليس هناك شيء خفي، فإذا خفي على الإنسان فإن بإمكانه أن يسأل طالب علم. من هذا المنطلق فإن النعمة التي نحن فيها - ولله الحمد - هي نعمة مدعومة بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا الذي يجب أن يكون في كل وقت ويجب أن يكون هذا هو العماد والأساس والقاعدة). تلك سمات رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - النابضة بالوعي، فإنه معروف عن الملك فهد أنه شخصية وسطية يمثل الاعتدال في تفكيره ونظرته للأمور، وانعكس ذلك بشكل واضح على السياسة السعودية التي عرف عنها الاعتدال والالتزام، بالمنطق العقلاني، وكان لهذا التوجه دور كبير في أنه نأى ببلده عن الدخول في التيارات المتطرفة السياسية والفكرية في منطقة عرف عنها أنها أكثر مناطق العالم التهاباً، وركز بدلا من ذلك على مسائل التنمية وتطوير الإنسان بما انعكس على الفروقات في مستوى المعيشة بين السعودية وكثير من الدول في المنطقة مما حظيت بالثروة النفطية قبلها بسنين. 5 - صدق التوجه وسلامة الاتجاه إن فروقا كثيرة بين العاملين تتفاوت تأثيراتها على الإنتاجية ومجريات العمل، وعلى ضوء معطياتها تختلف النتائج، وتتباين الثمرات قوة وضعفا، والقصور والكمال البشري جزء لا ينفصل عن الذات، ذو علاقة وطيدة بالصفات وقليل هم الذين يفرغون جهدهم ويبرئون ذممهم إلى الحد الأعلى من الكمال الممكن مما يقع تحت طاقة البشر، وأولئك هم أصحاب الضمائر الحية والعزائم القوية الذين تستجلب بهم النهضات، وتقوم على عواتقهم الحضارات. والمستقرئ لشخصية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - يدرك أن الله حباه نفساً كريمة نزاعة للخير، وضميرا حيا نابضا بالشفافية لم تستفزه أبهة الملك، وصولجان القوة وزهو الثراء، وآية ذلك تنازله عن لقب (الجلالة) إلى لقب خادم الحرمين الشريفين، ليضرب مثلاً يحتذى به لوعي الحاكم بواجبه في خدمة أمته وشعبه قائلا: (ايها الاخوة المواطنون يطيب لي أن أعلن لكم اليوم من مدينة الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - عن رغبة ملحة تخامرني منذ زمن شاء الله أن أستلم زمام الحكم في وطني العزيز، باستبدال مسمى الجلالة بلقب أحبه ويشرفني أن أحمله وهو (خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز) وسوف يعتمد هذا رسمياً منذ الآن في الخطاب الرسمي، وسوف تصدر من الديوان الإيضاحات اللازمة للصفة الجديدة، وأسأل الله أن يجعلنا هداة مهتدين ويوفقنا دائما الى كل ما يحبه الله ويرضاه، وشكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبين - رحمه الله - العلة في هذا الاختيار بقوله: (فإن الجلالة لله عز وجل، وإنما أنا بشر يكفي أن تقولوا خادم الحرمين، إن خدمة الحرمين مفخرة لنا، ونحن لا يزيدنا اسم ملك أو اسم أمير، فإن الصالح يفرض محبته على القلوب، والفاسد لا ينفع بشيء)، وهذا عنوان أصالته في الكرم، وعراقته في الشرف، ورسوخه في العلم، اقترن بعزم ماض وإرادة صلبة وهمة عالية، تلك الإنجازات الجسام والتحضيات العظام، كانت صدى لما يعتمل في فكره من رؤى، وما يحوك في صدره، من حدب وحنوّ لأفراد شعبه، تلك الأخلاق الفاضلة التي تلقاها من والده المؤسس الملك عبدالعزيز - رحمه الله - علما، وطبقها عملا، يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله -: (الوالد الذي أعدّ بنيه وربى فيهم الإحساس الصادق الواضح بالمسؤوية العظيمة الدقيقة تجاه العقيدة والشريعة والدعوة والمقدسات والوحدة ومصالح الوطن والمواطنين والأمة جمعاء، والاستاذ الذي علم تلاميذه فنون الحكم، القوي الحكيم الصالح والإمام الذي قاد هذه الامة في هدي الكتاب والسنة، إلى مراقي العزة ومدارج الكمال ومستوى المهابة والمجد، وأحرز لها مكانة مرموقة في المستوى الدولي والعالمي، فانعكست تلك التعاليم وتجسدت في حرص خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - على المصلحة العامة وقبول النقد الهادف بصدر رحب؛ من أجل الوصول إلى الحقيقة، وتلمس الأخطاء، والتقييم الموضوعي للأحداث قائل: (إننا نرحب بالنقد الجاد البناء الذي يعيننا على تحقيق آمالنا في النهوض بالبلد الذي جعلنا الله أمناء عليه، ولكننا لا نؤمن بالنقد الذي لا يشارك في حل المشكلات، ويعمل على تخطي العقبات، إننا نرحب بالنقد البناء الذي يهدف إلى إشراك الجميع حكاما ومحكومين على السواء في خدمة الوطن وبناء الأمة، إننا نريد النقد الذي يقدم الحلول للمشكلات التي تعوق مسيرة الأمة في أهدافها الصحيحة إن هذا هو النقد الذي نرحب به ونفتح له قلوبنا). إن هذا الإلحاح المؤكد بطلب النقد البناء وتلقيه بصدر رحب لا يصدر إلا من شخصية صادقة نبذت سربال الكبرياء، وسلمت من الأمراض النفسية عارفة قيمة العقل البشري والاحتفاء بجهده واحترام وجهة نظره، وليس من أولئك الذين يزكون أنفسهم ويرفعون أنوفهم تيهاً وغروراً قائلا: (علينا أن نقف مع أنفسنا وقفة صادقة، وأن نعيد النظر في أمورنا وأوضاعنا على ضوء الواقع الذي وصلنا إليه، نفكر فيما نفعله من إعادة تصحيح سيرتنا الإسلامية من خلال نقد دقيق وصادق لواقع أمتنا ومستقبل أجيالنا وتحديد أهدافنا). إن الدافع إلى هذا النمط من التفكير الرفيع هو هاجس خدمة الوطن وهموم المواطن؛ كما قال - رحمه الله -: الذي يهمنا بالدرجة الأولى هو كيف يمكن أن تجعل المواطن والمواطنة السعودية سعداء في هذا البلد، ومن الطبيعي أننا لا نستطيع أن نقول إننا أدينا الواجب مثلما نريد، لكن نستطيع أن نقول إننا نسير في الاتجاه السليم في هذا الخط المستقيم، فالشعور بالمسؤولية مسوح مطابق لروح الأخلاص وسمو الهدف الذي يبرهن على صدق التوجه في العمل، والاطمئنان على سلامة الخطوات، والتحقق من أداء كل مهمة باتقان، يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله -: (ليس مهما اسم المسؤول جلالة الملك أو فخامة رئيس الجمهورية أو القائد أو الزعيم فكل هذه التسميات لرجل واحد يمارس السلطة، لكن المهم هو مدى نجاحه في تأدية المسؤولية، والاتصال والتفاعل مع القاعدة الشعبية). وهكذا انطلقت عجلة النهضة الحضارية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - وفي جميع الميادين محفوفة بالسمو في الهدف، والانتقائية في الوسيلة، والمثالية في الأسلوب في تناغم رائع بين الرؤية الإسلامية والنهضة الحضارية في تطبيق عملي ذي بعد دعوي جرت أحداثه الرائعة ومعالمه الباهرة على ربوع المملكة العربية السعودية. المرجع: البعد الحضاري وأثره الدعوي في عهد خادم الحرمين الشريفين