لكن ستقرأها القلوب التي أحبتك.. والأعين التي بكتك.. والعقول التي أدماها رحيلك. فبأي اللغات أكتب رسالتي؟ فلا حروف يا والدي تكتب ولا كلمات تفي وكأن اللغة قد ماتت ونعت نفسها صبيحة وفاتك بل وكأن العلم الذي استقيناه منذ الصغر قد لفظ آخر أنفاسه ذلك الصباح.. وجعلنا في ذهول صامتين لا نعي من أمر أنفسنا شيئاً! *** فصبيحة رحيلك عنا كان صباحاً ثقيلا بثقل جبال الدنيا.. التي استقرت بكل ثقلها على قلوبنا!! وصباحا حزينا كحزن يعقوب أبيضت له أعيننا من ألم الحزن ولوعة الفراق. ففي ذلك الصباح الكئيب يا والدي قالوا لنا.. رحل الملك فهد! نعم رحل الملك فهد فاغمضنا أعيننا وفتحناها.. أغمضناها.. ثم فتحناها.. لعل هذا النبأ مجرد حلم مزعج نرتاح منه متى ما استيقظنا منه! *** رحل الملك فهد! وبعض الرحيل حزن.. وبعض الحزن فجيعة.. وبعض الفجيعة ذهول.. ورحيلك يا والدنا حزن وفجيعة وذهول ما بعده ذهول! بكل ما في هذه الكلمات من معنى. أحببناك يا والدي فهد نعم.. أحببناك جداً أحببناك بمقدار ما تتسع قلوبنا للحب. وبمقدار ما منحنا الله قدرة على الحب!! وكيف لا نحبك؟ ومن ذا الذي لا يحبك يا فهد وقد بكتك الدنيا كلها؟ سيبكيك أبناؤك الرجال الذين صنعتهم بحكمتك وغمرتهم بحنانك، وسيبكيك إخوانك الأوفياء الذين سيكملون - بحول الله - مسيرة الخير والعطاء من بعدك وسيبكيك الأطفال والأجيال الذين فتحوا أعينهم على طيب ذكرك وترديد اسمك. وسيبكيك المتعففون الذين رحمتهم من ذل السؤال وكفيتهم مد يد العوز. وسيبكيك يا خادم البيتين الحجاج والمعتمرون والركع السجود وأنت الذي بذلت الغالي والنفيس لتوسعة الحرمين الشريفين لراحتهم وأمنهم وتسهيلاً لأداء مناسكهم وعباداتهم. وسيبكيك الملايين من المسلمين بل والملايين من الضعفاء واليتامى والمساكين في مشارق الأرض ومغاربها وأنت الذي كنت لهم بمثابة الأب الحنون.. العطوف.. الرحيم.. الذي لا يجود بمثله الزمان. *** كم عمرا نحتاج فوق عمرنا يا والدي فهد كي نستوعب غيابك وكي نتأقلم مع واقع رحيلك وفراقك وكي ندرك أننا أمسينا بلا فهد؟ كم عمرا نحتاج يا والدي فهد كي تستسيغ قلوبنا مرارة الفجيعة بوفاتك وكي تتجرأ أعيننا على قراءة (فهد في ذمة الله)؟ بلا ذهول.. وبلا ارتعاش.. وبلا غصة في دموع أو حرقة في القلوب! *** كم عمرا نحتاج يا والدي فهد كي نقنع أطفالنا بغيابك وكي نشرح لهم مفهوم الموت الذي غيبك - أيها الأب الحاني - عنا وعنهم بل وكي نعود ألسنتهم على نطق اسمك متبوعاً بالدعاء لك بالمغفرة والرحمة؟ كم عمرا نحتاج يا والدي فهد كي تنسى أعيننا وقد شاهدت وتابعت بحسرة وألم ومعاناة فهدا محمولاً على الأكتاف.. فهدا يُصلي عليه.. فهدا يُوارى مثواه الأخير؟ كم عمرا نحتاج فوق عمرنا يا والدي فهد كي نلملم أحزاننا ونضمد جراحنا وكي نقنع أنفسنا ونذكرها بأن الرحيل واقع.. وأن الموت لا مفر منه؟ رحل والدي الملك فهد! وعزاؤنا أن رحيلك وفراقك ليس كأي رحيل أو فراق فمثلك لا يرحل.. ومثلك لا ينسى.. ومثلك لا يموت.. ومثلك لا يغيب!! رحل الملك فهد.. فاللهم ارحم والدي الملك فهد كما رحمنا!! اللهم أكرم مثواه كما كان عطوفا بنا! واستره اللهم كما سترنا!! وأسكنه جنة السماء.. كما أسكننا جنة الأرض! اللهم آمين خالد بن عبدالله بن فهد الفيصل الفرحان آل سعود (الباحث في مرحلة الدكتوراة في الإدارة العامة)