من المعلوم أن الأضرار التي تصيب الإنسان تنبع منه، قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ومن ضمن هذه الأضرار المهلكة بلا ريب (العين)، وبالمعنى الدارج (النضل). والعين حق كما ثبت بالأثر، وهذه الآفة المؤذية تنبع من النفس بمعنى أن لا دليل ماديا يمكن إثباته، فهي تندرج ضمن نطاق الإيحاء النفسي ويفضي ضعف الثقة بالله عز وجل، إلى بروز هذه التراكمات السلبية المستقرة في نفس (العائن) لتتحول إلى حمم تؤرق وتقلق من تصيبه تلك الرغبة الشيطانية، إن لم تهلكه في ظل الافتقار إلى سور الحماية الحصين ألا وهي القناعة، وانحسار مساحة الخير وإشاعته في النفس، طبقاً للرغبة القوية في الطلب الضعيف وبات ضعيفاً لانتفاء مشروعيته فضلاً عن افتقاره إلى أبسط مبادئ الأخلاق. وليس ثمة ما يسند هذا الطلب كمسوغ إنساني، عدا عن تقاطعه مع السياق الأدبي بكل ما يحوي في أتونه من معانٍ نبيلة ترتقي بالسلوك لتشبع الرغبة الكامنة في النفس حباً للخير، وتألفاً يفيض إحساساً سامياً، لبلوغ الخير وأجمل الخير وابلغه كف الأذى، واستثمار المساحة البيضاء الناصعة في القلب فيما يحب ربنا ويرضى وكل نفس فيها الخير والشر، قال عز من قائل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}، هذه الآيات الكريمة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأن النفس تحمل الخير والشر، وتبقى مسألة تطويعها أو بالأحرى ترويضها لتذعن لصوت الحق رهناً للصدق مع النفس، وتجسيد هذه الثقة ينبع من عمق الارتباط بالمبادئ النبيلة الفاضلة، إذ إن الإنسان قد يسهم في إلحاق الضرر بأخيه من غير قصد، ومن ذلك التركيز فعبر مسألة التأمل، يتوغل الشيطان إمعاناً في صده عن ذكر الله من جهة واستثمار هذه الرغبة وفقاً لما يلحق الضرر من جهة أخرى. وتجدر الإشارة هنا بأن المبالغة والإفراط في القلق، بأن هذه (عين) تكرس هذه الرؤيةن وهي لا تعدو عن كونها آثاراً نفسية تصيب البشر، فلا يخلو الأمر من ضغوطات تنسحب على الأفراد ويتم تجاوزها بعدم التفكير فيها، ومنحها كبير اهتمام. فإذا كان كل عارض سيأخذ هذا الحيز من الاهتمام، فإنك ستعيش في دوامة، فضلاً عن تهيئة البيئة الملائمة للمرض أو الحالة إن جاز التعبير أن تتوطن وتستقر، فيصبح الوهم حقيقة فيما كانت الانفعالات غير المنضبطة معبراً سهلاً لنشوء هذه الأزمة من خلال تعميق هذا التصور النافذ المؤذي على أية حال. وتعزيز الثقة بالباري عز وجل يفند كل هذه التخيلات التي ما برحت تنقض على ضعيف الإيمان فتكبله بأصفاد الشكوك المقلقة. والمولى تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم وحماه بالحفظة، درءاً من أن تتخطفه الشياطين، فهل بعد كل هذا يضعف اليقين. وليس ثمة ما يبرر رغبة الإنسان الجامحة في إصابة العباد، لمجرد أنهم يملكون ما لا يملك، لأنه قد يفقد ما يملك هو فيسلط الله عليه من يصيبه، لأنه أماط اللثام عن السوء الذي يكتنف وجدانه، ونحى الخير وسبله جانباً (وكما تدين تدان)، فضلاً عن أن التوازن الدقيق المذهل يقطع الشك باليقين بأنك إنما تقدم الخير لنفسك، وورد في الحديث الشريف (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس). ومن هذه الآثام الحسد وتمني زوال النعمة عن الغير. والعين أشبه بشفرة يستعصي فك رموزها، لأنها كما أسلفت ليست محسوسة، ولن يكون المجهر أكثر تفاؤلاً في تشخيص هذه الحالة عدا عن سرعة نفاذها، وفتكها الشرس، إذ إن هذه المسألة تتم بلمح البصر، فما هي إلا ثوانٍ معدودة إن لم تكن أقل، إلا وقد نسجت هذه الآثار المهلكة خيوط البؤس. وحتماً فإن تسرب هذه الإيحاءات المؤذية يسهم في تناميها عدة عوامل أذكر منها على سبيل المثال، الفارق الطبقي على المستوى الاجتماعي، فكلما اتسع هذا الفارق كلما هيأ المجال واسعاً لانبثاق التصورات المزعجة والمؤذية في ذات الوقت، وكلما اتسعت الهوة بين الغنى والفقر، ساقت في أتونها دواليب الشر غير المرئية والمسموعة، وفي المقابل كلما زادت نسبة الوسط، أسهم ذلك في انحسارها واندحارها بإذن المولى تبارك وتعالى. وثمة ألفاظ تكرس هذا الشعور المقيت مثل (اهب، اخس، يا حظه) وإطلاق هذه الألفاظ ينم عن جهل مطبق وفراغ وجداني، فبات القلب الضعيف مسرحاً كئيباً تلعب فيه الموبقات أدواراً خبيثة موغلة في التمازج مع الجفاء كنمط يغلف هذه الأحاسيس الشيطانية بغطاء تكسوه الخطيئة من كل جانب، فيما يشكل الاعتقاد الخاطئ، بأن تمرير هذه المآسي خارج السيطرة، بمعنى أن المحاسبة غير واردة، فإن هذا خطأ فادح، وإفك مبين، فكيف تفسر الآية الكريمة{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، فكان حرياً لجم هذه المؤثرات الشيطانية وكبح جماح النفس الأمارة بالسوء, وتنقية المشاعر، بصفاء النية وحسن الطوية، وكف الأذى، وحب الخير، ليتدفق ينابيع تفيض مودة واستثمار الوقت المتبقي بما هو خير وأبقى.قال أحد الشعراء: إذا طالبتك النفس يوماً بشهوة وكان عليها للخلاف طريق فخالف هواها ما استطعت فإنما هواك عدو والخلاف صديق