وقف "الأخطار المهنية والتعويضات الإضافية" عن مشتركي التأمينات حال مغادرتهم المملكة    مسعود بزشكيان يفوز بالانتخابات الرئاسية الإيرانية    القوى السودانية تشدد على المصالحة وإنهاء الحرب    بايدن يصر: أنا المؤهل للرئاسة وسأهزم ترمب    ستارمر يتعهّد بإعادة البناء وعودة الاستقرار لبريطانيا    ألكسندر أرنولد: طريقة تسديد ضربة الجزاء أمام سويسرا كانت فكرة ساوثجيت    جمعية الدلم والشراكة المجتمعية    رئيس الكشافة الإسلامية الأميركية: جهود المملكة عظيمة لخدمة الحجاج    ملتقى «المونودراما والديودراما» يختم فعالياته في «فنون الدمام»    "تعليم الطائف" يطلق برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي    حج 2024 يُسر وطمأنينة    حقيقة استقالة لؤي ناظر من رئاسة الاتحاد    «دلوعة الغيم».. مقصد السياح وبوصلة الاستثمار    محافظ الطائف يقدم التعازي لرئيس نادي عكاظ    وكيل محافظة وادي الدواسر يُكرّم كشافة الحج    وفد عضوات الشورى من البرازيل: المرأة شريكة في التنمية الوطنية    فيصل بن مشعل يبارك لجمعية الإسكان «أفضل أداء خيري»    القيادة تهنئ رئيسي القُمر المتحدة وملاوي    السند يطلع على منجزات "الأمر بالمعروف" في موسم الحج    إنقاذ 5 مواطنين تعطل قاربهم في عرض البحر    38 حديقة ومتنزها بعرعر تستقبل الأهالي    إسقاط جوي لمساعدات غذائية سعودية على غزة    المتاحف الخاصة بالشمالية توثق تاريخ المنطقة    حماس موافقة مبدئية على خطة وقف النار    ضبط 1244 متسللا إلى داخل الحدود    إتاحة الفرصة لتجارب معامل العينية    باحث يؤكد: ألف ليلة نتاج عربي    الوقاية من احتشاء عضلة القلب    القطط تطلب الرعاية من البشر بالمواء    رونالدو يلغي متابعة جواو فيلكس في «انستغرام»    «التعاونية للتأمين» و«الهلال».. شراكة النجاح تعود    الإصابة تنهي مشوار بيدري في يورو 2024    تحديد متطلبات عدم الممانعة لممارسي الأنشطة الإعلامية    ضبط شخصين بالمدينة لترويجهما 75 ألف قرص إمفيتامين    "صناعة البودكاست بين الفرص والتحديات" في ورشة بهئية الصحافيين بمكة    كم مرحلة تمر على صناعة كسوة الكعبة المشرفة؟    المسحل يهنئ "أخضر تحت 19″ بعد التتويج ب"غرب آسيا"    دراسة تؤكّد ارتباط التدخين بالخرف    جمعية أمراض الكبد تعيّن الشقراني رئيساً لقسم الأطفال    «الداخلية»: القصاص من مواطن أنهى حياة آخر بإطلاق النار عليه    دمار هائل بالشجاعية.. 3 مجازر إسرائيلية في غزة    الهجرة النبوية    وفاة اللاعب المصري أحمد رفعت.. بعد معاناة من أزمة قلبية    قصيدة للشاعرة هيا الكثيري «نفح»    السعودية تجتذب السياح الصينيين    محافظ حفر الباطن يدشن الحملة الصيفية للتوعية ومحو الأميّة    أكثر من 15 ألف مستفيد من برامج "هداية" بالخبر في يونيو    تنظم حفل تكريم للأيتام بمشاركة واسعة من المجتمع المحلي    اصدقاء البيئة والجمعية السعودية للإعاقة السمعية توقعان إتفاقية تعاون مشتركة    النائب العامّ يبحث تعزيز التعاون القانوني مع الصين    تحديث ضوابط إعفاء البضائع المعادة من الرسوم الجمركية    أمر ملكي: للوزير رفع طلب تحديد من يحلّ محلّه من نوابه.. والاتفاق معه على الصلاحيات    «الأحوال المدنية»: أمرٌ سامٍ بمنح الجنسية السعودية ل«محمد العنزي»    الذهب يلمع والنفط بأعلى مستوياته منذ أبريل    أمير القصيم يبارك حصول جميعة الإسكان الأهلية بالقصيم على جائزة الأمير محمد بن فهد    محافظ بيش يتابع تحسين المشهد الحضري لطريق الملك عبدالعزيز    محافظ بيش يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية الفرعية بالمحافظة    أمير تبوك يواسي شيخ قبيلة العميرات في وفاة شقيقه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. حسن بن فهد الهويمل
نعم حضارة الإسلام شمولية..! 1 - 2
نشر في الجزيرة يوم 26 - 07 - 2005

كتب الأستاذ (محمد بن عبداللطيف آل الشيخ) في زاويته الأسبوعية (شيء من) 11 - 6 - 1426ه متسائلاً عما إذا كانت الحضارة الإسلامية حضارة شمولية، ولم يرقب الجواب، بل بادر إلى النفي، وكان يجدر به إذ تصور نفسه الخصم والحكما ألا يقيم الدعوى، إذ من الفضول والتزيد أن تسأل وتجيب وتحكم. وليس مستبعداً اقترافه الأخطاء المنهجية. وكلمته المتسطحة بضاعة استشراقية لا ترقى لمنهجية المستشرقين ولا تضارع إحكام دعواهم، كلمة إنشائية مضطربة، تعتمد الابتسار، ولا تحسن الاستتار. وليس مزعجاً أن يعيد ما فرغ منه المستشرقون، فالإسلام صمد لصناديد الفكر، وأساطين الفلسفة، وجهابذة المنطق، أتوا إليه يجرون الجديد كأنهم مشوا بجياد ما لهن قوائم، وتكسروا تحت سفحه، كما الأمواج الملتطمة، وما زادوه إلا رسوخاً وثباتاً. والمخجل حقاً تلقف الراية بالرأي الفج والرؤية الناقصة.. ومصائد القضايا الكبرى في الإسلام أنها مرايا مقعرة، تكشف عن سمة المقتربين منها وعن مبلغهم من العلم.
وما من كاتب سوَّلت له نفسه الاقتراب من جاذبيتها إلا تشظى في وهجها، وما هو في تقحمه إلا جرادة من جراد منتشر في سماء القضايا الحساسة، وكما ابتلعت المفازات أسراب الجراد، فإن فضاءات الإسلام قادرة على ابتلاع أي سابح فيها، وما حفزنا على الإجابة على تساؤله الإنكاري إلا أنه يشكل مع آخرين ظاهرة مريبة. وإلا فالحضارة الإسلامية ألفت هذه الموجات العاتية، وابتلعتها كما تبتلع الشواطئ أمواجها الأزلية، ونقض كلمته العشوائية أنكاثاً يكشف عن كاتب يفتقر إلى العلم الشرعي، والتأصيل المعرفي، ومنهج البحث العلمي. وهذا الإقواء أرتعه في نفاية المستشرقين، إذ لم يبتدر رأياً، ولم يفترس معلومة، وإنما وقع على بقايا من مفتريات من سلف منهم، وهو في إثارته الفضولية يشد عضد الذين أغثوا المشاهد الفكرية باجترار مقولات مهترئة، أكل عليها الدهر وشرب.
والقول في الحضارة يختلف عن القول في مفرداتها، وهذا مكمن الخلل في تحرشه. فالمذاهب في الفروع، والطوائف في الأصول، والظواهر في الأفكار والنظريات في القضايا، كلها تضطرب وتتململ في جوف الحضارة الأم، كما البراكين في جوف الكواكب العملاقة، تثور ثم تخبو، وقد تتدفق حممها على السهول والمنحدرات، فتشكل جبالاً من الصخور، ولكنها مع كل ما تنطوي عليه، لا تنفصل عن الحضارة بكل اتساعها وامتدادها الزماني والمكاني. والقول عن مذهب ك(السلفية) مثلاً قول في جزئية من الحضارة، وتحجيم الحضارة من خلال رؤية العالم أو المذهب ممارسة فجة، ومؤشر جهل بأبسط متطلبات البحث المعرفي، علماً أن بعض العلماء يرى أن (السلفية) مرحلة زمنية مباركة، وليست مذهباً إسلامياً، وهو رأي يأتي في سياق الفعل ورد الفعل.
وعندما نقول: الحضارة الإسلامية فإن ذلك المفهوم يتسع لكل المذاهب والملل والنحل، والمحطات الزمانية. والحضارة الإسلامية تشتمل على كل الفرق الإسلامية، وأي نحلة أو ملة أو عالم لم يُجمع المسلمون على كفرهم المخرج من الملة فهم مشمولون بالحضارة الإسلامية. وتحت هذا المفهوم لا يجوز لأي مستغرب أن يحصر الحضارة الإسلامية في مذهب أو مرحلة، فضلاً عن أن يحصرها في عالم أو عالمين، يبتسر من كلامهم ما يعزز رؤيته الفجة، ولو أخذنا مقولة الكاتب بالنص، وهي الحجة التي تنفي عنده شمول الحضارة الإسلامية، لوجدناه يقول: (فالإمام ابن تيمية رحمه الله - مثلاً - اتخذ موقفاً مناهضاً بشدة لعلم الكيمياء وعلم الفلسفة وعلم المنطق)، ولقد أقام المناهضة على ابتسار مُخل من إجابة (ابن تيمية) عن عمل الكيميائيين، ولو قرأ كامل الفتياء، واكتشف مقاصدها، لعرف أنه يُقوِّل (ابن تيمية) ما لم يقل، ويحمِّل قوله ما لا يحتمل. فالفتياء حول استخدام الكيمياء للغش التجاري، وليس لها علاقة في الموقف من الظاهرة، ولهذا ركز ابن تيمية على (الذهب) الخالص، وسماه (المخلوق)، ونفى أن يكون المخلوق كالمشبه، وهو ما يعمله الكيميائيون، ويدَّعون أصالته.
و(ابن تيمية) لو اختلفنا معه جدلاً في بعض مواقفه يعد من علماء الأمة، يحتج به على مذهبه السلفي، ولا يحتج به على الحضارة الإسلامية، ذلك أن الحضارة الإسلامية وسعت المذاهب في الفروع والأصول، وسائر العلوم والمعارف، والملل والنحل، ما ظهر منها وما بطن. والكاتب لم يقل في تساؤله (هل السلفية حضارة شاملة؟) بل قال: (هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة) وبصفتي (سلفي) العقيدة (حنبلي) المذهب (تيمي) الفكر فإنني أقبل نقد السلفية وعلمائها، ولا أقبل التنقص من الحضارة الإسلامية، أو المساس بها كمفهوم عام، ولست بالانتماء منغلقاً، ولا نافياً، ولا مقتصراً على مصدريه واحدة، وقراءتي لقادة الفكر، وزعماء الإصلاح، ورواد النهضة من ماديين ووضعيين يفوق قراءتي لمن أنتمي إليهم. والاختلاف مع (السلفية) حق مشروع، إذ كل يؤخذ من رأيه ويرد إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، أما الاختلاف مع الحضارة الإسلامية، وحصرها في نحلة بعينها فخطأ مخل بالأهلية، ولا يقترف مثل ذلك إنسان ملم بحدود الحضارات ومتطلبات البحث فيها.
لقد نفى الكاتب (شمولية الحضارة الإسلامية) وتلك جرأة جاهل، وليست رؤية عالم، ومكمن الأذية أنك لن تجد من تخاصم. فالشمولية حسب فهم الكاتب الغرائبي لا تتحقق إلا بالتسليم المطلق لكل ظاهرة، والإذعان الطوعي لكل ناعق، والقبول بكل رؤية فجة، وذلك عين التمييع والفوضوية. فعندما يتصدى عالم لنظرية أو مبدأ أو ظاهرة تبناها الفلاسفة أو المناطقة، وطبقوها على الغيبيات والمتشابه، أو استخدموها في الغش والتدليس، وتلقفها المستشرقون والمبشرون كشاهد على المحدودية، يكون هذا التصدي مسقطاً لدعوى الشمولية حسب رؤية الكاتب. وما درى المتجرئ على المسلمات أن هناك مواقف ضد المبادئ والنظريات، ومواقف ضد الإجراءات والتطبيقات، ومواقف ضد الإطلاقات والتعميمات. والمبتسرون لا يفرقون بين هذه المواقف، ولا يدركون مشروعية الاختلاف وحدوده.
ونفي الشمولية لمجرد أن (ابن تيمية) السلفي وقف في وجه (المناطقة)، و(الفلاسفة) و(الباطنية) و(الجهمية) و(المعتزلة) وسائر النحل والملل، مؤشر جهل بالمفهوم، ف(ابن تيمية) يشكل مرحلة تحتويها الحضارة، ولا يحتويها. و(ابن تيمية) ليس وحده الذي وقف أمام طائفة من علماء الكلام والأصوليين والفقهاء والمفسرين والفلاسفة والمنطقيين. وكان الأجدر بالكاتب أن يخوض معترك الخلاف بين العلماء، ليرى ما يشيب من هوله الوليد، فأين هو من المدارس النحوية والمذاهب الفقهية، وقول العالم في المسألة، ومقدم المذاهب والمتقدمين والمتأخرين داخل المنظومة المعرفية الواحدة. و(ابن تيمية) ليس بدعاً بين علماء عصره، فضلاً عمن سلف ومن لحق، لقد قامت بينه وبين علماء عصره ملاحاة آلت به إلى السجن، ولمّا يزل خصومه إلى هذه اللحظة ينالون منه، حتى أن بعضهم حكم ب(كفره)، وكنت أود من الكاتب الإبقاء على شمولية الإسلام، والأخذ بالمواقف المتطرفة ضد (ابن تيمية)، ليكون الإضرار بفرد أهون من المساس بحضارة أمة.
والعلماء المتميزون بسعة علمهم ورجاحة عقولهم، حين تبدههم النوازل، يهرعون إلى النصوص الشرعية، يستفتونها، فإن أسعفتهم، وإلا انطلقوا إلى مصادر التشريع الرديفة، والتي تفوق العشرة: كالإجماع، والقياس، وقول الصحابي، والمصالح المرسلة، والبراءة الأصلية، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستحسان. والعلماء الأفذاذ استخدموا عقولهم في الاجتهاد وتصور المقاصد. والرسول صلى الله عليه وسلم ندب إلى استفتاء القلب في قضية البر والإثم، وهو ندب يسقط حجة القائلين بتعطيل العقل. والأخذ بالنص القطعي الدلالة والثبوت، يسقط حجة القائلين بتفويض العقل. فالعقل عند السلفيين يدور في فلك النص. والنص عند المعتزلة يدور في فلك العقل. والخيرية في أن يخفق العالم في فضاءات التشريع بجناحي: النص والعقل. ومواجهة النوازل مرتهنة للقوانين والضوابط، ومن ثم نشأ علم الأصول والقواعد، وهي البديل الأمثل (للمنتطق الصوري) الذي واجهه الفلاسفة والعلماء والمفكرون، قبل الميلاد، وبعده، وفي العصور الذهبية للإسلام، وفي الحضارة الغربية المعاصرة. وأصول الفقه وقواعده قوانين استقرائية، فيما يقوم المنطق الأرسطي الذي تحاماه ابن (تيمية) على الصورية والنظرية.
وإضافة لما سبق فإن الموقف من الفلسفة والمنطق والكيمياء مرتهن بالخفاء والتجلي، ومحكوم بمجالات التطبيق، فالعلماء لا يسلمون إلا بعد التصور، وقد يسلمون للنظرية، ولا يسلمون لمجال التطبيق. وكل جديد يظل مجالاً للأخذ والرد، حتى يستقر بشروطه وضوابطه ومعقوليته وإمكان تصوره، وتحقق انتمائه إلى العلم التجريبي، أو الفكر أو الفلسفة، فإذا بأن أن الظاهرة من العلم المنضبط بقواعده وأصوله انتزع الشرعية، وإن ظلت في دائرة الشك تخطاها العارفون إلى غيرها، ف(الكيمياء) ظهرت، واستخدمت في بادئ الأمر في غش المعادن، فكان تداول أحوالها عند العلماء مرتبطاً بالصناعات، بحيث جاء الافتاء بالمنع وتحريم استخدامها في الغش. والفلسفة والمنطق طبقاً في قضايا المغيبات، فأدى إلى نتائج مخالفة للنص القطعي الدلالة والثبوت، فحرم علماء الكلام الإسلاميين استعمالها، ولم يستبن العلماء المتقدمون للكيمياء إذ ذاك ما إذا كانت علماً أو سحراً، وحين تبين لمن خلف وجه العلمية المقننة أخذوا بالظاهرة، وبقيت آراء من سلف من العلماء تمثل مرحلة تاريخية وتتعلق بالاستعمال، والمتابع لآراء الفقهاء، يجد فيها الإباحة أو المنع أو التوقف، وكل عالم يسوق حججه، وبعض العلماء يتوقف، فلا يجيز، ولا يمنع، لعدم تحرر المسألة، وقد يتصور بعض اللعماء، أن الظاهرة تعارض ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فيفتي بالمنع. مثال ذلك ما حصل حول القول بدوران الأرض، فلقد سئل الشيخ (ابن باز) رحمه الله عمن قال بدوران الأرض وثبات الشمس، فأفتى بالتحريم، لأن الشمس تجري لمستقر لها، وفي قراءة (لا مستقر لها) ولما قيل له: إنه لا تعارض بين الدوران والجريان عدَّل من فتياه. ونصائح العلماء في التزهيد بالدنيا والتحفظ على التطاول بالبنيان، لا يعني أن ذلك يمثل رؤية حضارية، وأن الإسلام ضد العمارة، وإنما الموقف وعظي ترغيبي لا إفتائي حدي، ف (ابن عثيمين) رحمه الله لا يحرم التطاول بالبنيان، وإن رأي أن الظاهرة مفضولة، وفات الكاتب أن الذين تحدثوا عن (الحضارة الإسلامية) جعلوا من سماتها (فن العمارة الإسلامية)، وبخاصة في المساجد والقصور.
والشمولية التي خفي حدها على الكاتب تعني: الاتساع والاستيعاب. فالاتساع ذو ثلاثة مجالات: الزمان والمكان والمحتوى. ويتمثل المحتوى بشمول الحضارة لكل متطلبات العصر ومفرداته: الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقضائية والعلمية البحتة والمهنية التطبيقية. وبهذا فاقت الحضارة الإسلامية جميع الحضارات، و(ابن تيمية) يعد لحظة في الزمان ونقطة في المكان، لا تُعرف الحضارة به، ولكنه يعرف بها. أما الاستيعاب فإن الإسلام التهم ما سبق من حضارات، وتفاعل مع ما جدّ من حضارات. وما يعانيه المسلمون من ضعف وتفكك لا يحال إلى رصيد حضارة الإسلام، وإنما هو لحظة ونقطة. فالتاريخ الحضاري الإسلامي غير تاريخ المسلمين، ومن خلط بين التاريخين فقد أساء للإسلام، والخلط لم يأتِ اعتباطاً، إنه هدف رئيس للمستشرقين والمستغربين، وشمولية الحضارة الإسلامية تقتضي موضعة الحضارات المعاصرة، والأخذ بأحسنها، والحق ضالة المؤمن. ولو كانت الحضارة الإسلامية تتعمد نسف الجسور مع منجز الحضارات لكان للبرمين منها وجه من الحق، غير أنهم يلزمون ما لا يلزم، فيفترضون نفي حضارتهم، تمهيداً لإحلال حضارة الآخر.
واعتراض علماء المسلمين على (الفلسفة) و(المنطق) لا يمس الشمول والثبات، فاختلاف وجهات النظر من مظاهر خصوبة الحضارة، وحين يعترض (ابن تيمية) على (ابن رشد) بوصفه فيلسوفاً، أو حين يعترض على (الكندي) بوصفه منطقياً، فإن ذلك لا يمس شمولية الحضارة الإسلامية. والمناطقة المعاصرون والسابقون ل(ابن تيمية) كانوا في منطقهم صوريين نظريين، ولقد تجاوز ذلك الإسلاميون إلى المنطق الاستقرائي، وهذا المنطق العملي هو الذي أخذ به الأوروبيون على يد (فرانسيس بيكون) و(مل). وما أخذ به (الفارابي) و(الكندي) و(ابن سينا) و(ابن رشد) لا يتجاوز حدود المنطق اليوناني، ومواجهة أولئك الفلاسفة دافعة المجال والنتائج، وليس الظاهرة، فلقد اتخذت الفلسفة مجال الغيب، وخلصت إلى نتائج مخالفة لمقتضيات العقيدة السلفية، وكذلك فعل المناطقة، فكان لابد من حماية المجال ونفي النتائج، أما إعمال الفكر والعقل فمطلب إسلامي، وعلى الكاتب العودة إلى كتاب (العقاد) (التفكير فريضة إسلامية) ليرى كيف عالج الموقف من (المنطق)، ولمزيد من المعلومات يحسن الرجوع إلى (علي سامي النشار) في كتابه (نشأة الفكر الفلسفي) المجلد الأول، وإلى (تطور المنطق العربي) ل(نيقولا ريشر) ترجمة (أحمد مهران) ليعرف الكاتب أنه يهرف بما لا يعرف.
والمتعقب لآراء (ابن تيمية) في المنطق والفلسفة، يقف عند رؤية علمية عميقة، تبناها الفلاسفة والمفكرون والمناطقة المعاصرون، ذلك أنه يواجه المنطق الأرسطي في مجاله التطبيقي، الذي لم يعد ذا قيمة معاصرة، وحين تصدى علماء المسلمين لعلم المنطق الأرسطي، استطاعوا أن يقيموا منطقاً استقرائياً، يضبط إيقاع العقل، كما يضبط النحو إيقاع اللسان، فلم يكن رفض المسلمين للمنطق رفضاً سلبياً، ذلك أن المنطق الإسلامي منطق استقرائي تجريبي، وقد وظفوه في خدمة الطبيعة والطب والكيمياء ولم يُعمِلوه في (الميتافيزيقا)، وإذ يكون المنطق العربي بشقيه: الاستقرائي، والنظري، من مشمولات الحضارة الإسلامية، وإن اختلف العلماء حول الموقف منه، فقد أنجبت الحضارة الإسلامية في مختلف العصور أكثر من مئة وستين عالماً في المنطق، ذكر طائفة منهم (بروكلمان) واستدرك عليه (سزكين) ما فاته، وفات الاثنين أعداد كثيرة، ولهؤلاء المناطق ترجمات ومؤلفات وتطبيقات، والمؤلم أن ثروة الأمة العلمية نهبت من المكتبات العربية، ولم يستطع (معهد المخطوطات) التابع للجامعة العربية تصوير ما نهب، ولمّا تزد مصوراته عن نصف مليون كتاب، وهي نسبة تقل عن الخمس، وما كان صاحبنا على علم بما خلفته الحضارة الإسلامية، مما أصبح ركيزة للحضارة الغربية الباهرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.