«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤية شرعية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية
هل في المال حقوق أخرى غير الزكاة؟«1-2»

بينما كنت مستغرقاً في القراءة والبحث حول موضوع التكافل الاجتماعي والمواساة وهدي الإسلام في معالجة مشكلة الفقر، استوقفني حديث صحيح ورد لبيان عقوبة مانع الزكاة حيث تضمن الحديث ألفاظاً خالدة ومضيئة تعبق بأغزر المعاني والدلالات في الحث على الانفاق وتوسيع مفهوم العطاء والبذل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ژ:
(ما من صاحب إبل لا يؤدي فيها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها...) ثم ذكر تكملة الحديث، وفي رواية أخرى قلنا:
يا رسول الله ما حقها (أي بهيمة الأنعام)؟ قال: (اطراق فحلها، واعارة دلوها، ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله).
رحت أتأمل هذه الألفاظ، وما تحمله من تأكيد وايجاب، وما تنطوي عليه من مضامين وفوائد جمة نحن في أمس الحاجة إلى كشفها وتجليتها، واحياء العمل بها، وترسيخ ذلك بين أفراد المجتمع، بما يحقق أفضل صور التكافل والمواساة وخيرية هذه الأمة، وقادني ذلك إلى مراجعة عدد من كتب الحديث والفقه، لفهم النصوص الواردة وأقوال أهل العلم، ومما زاد حرصي وشحذ همتي لبحث هذه المسألة ما نلمسه ونشاهده جميعاً من اتساع مشكلة العوز والفاقة في مجتمعنا، وتزايد أعداد المحتاجين، رغم تحسن مستويات المعيشة بشكل عام، ونمو حجم الثروات بصورة لم تكن معهودة من قبل، خاصة وأن المبادرات والبرامج المطروحة لمواجهة هذه المشكلة بصورة منهجية وشمولية لا تزال غير كافية، كما أننا غالباً ما نلقي المسؤولية على الدولة، ونطالبها منفردة بتحمل مشاكلنا، متجاهلين أو متناسين الدور المنتظر من المجتمع ومساهمته في هذا المجال، وهذه الممارسات والاسقاطات هي التي تجعل طرق وأساليب معالجتنا لقضايانا قاصرة وغير فعالة في أكثر الأحيان، وإن كنا رغم ذلك لا ننكر دور الدولة في أخذ زمام المبادرة وتنظيم العمل والقيام بمهام المتابعة والإشراف بالمجتمعات الحديثة، ومن هنا جاء هذا البحث مستهدفاً توضيح معالم من الرؤية الإسلامية حول مفهوم الجود والسخاء من خلال بحث الحقوق الواجبة في المال إلى جانب الزكاة، وبحول الله تعالى سوف أناقش هذا الموضوع بأبعاده الشرعية والاقتصادية والاجتماعية على النحو التالي:
* الآراء الواردة في حقوق المال بجانب الزكاة.
* وقفة مع الرأيين ومحاولة الجمع بينهما.
* المقاصد والأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي تؤيد أن في المال حقوقاً أخرى.
********
النتائج والتوصيات.
* هل في المال حق سوى الزكاة؟
يتناقل كثير من المسلمين أقوالاً ومسائل على أنها من المسلمات المتفق عليها بين العلماء دون تفصيل لهذه المسائل وتفريعاتها، وتذيع وتنتشر باعتبارها الرأي الصحيح الذي يعمل به في كافة الظروف والأحوال ومن ذلك الرأي القائل: إنه ليس في المال حق سوى الزكاة، حيث يكثر ذكر هذا القول في كتب الفقه دون إيراد للرأي الآخر وأدلته، وذاع وانتشر بين الناس بلسان المقال أو الحال أنه إذا أدى المسلم زكاة ماله فليس عليه حقوق مالية أخرى مهما كانت الحاجة ماسة في مجتمعه، ومهما بلغ حجم ماله!! ولذلك قمت بجمع واستعراض الأدلة النقلية والعقلية في هذه القضية، وأقوال أهل العلم بغية الوصول إلى أرجح الآراء المنسجمة مع القواعد الكلية والفرعية للشريعة، وأود أن أؤكد في مستهل هذه المشاركة ألا يفهم من كلامي التقليل من شأن أحد هذين القولين الواردين في المسألة محل البحث، فلكل منهما أدلته الصحيحة التي لا مطعن فيها، بل هي محاولة للتوفيق بين الأدلة، وفهم ما تتضمنه من دلالات وتوجيهات جليلة فيما يتعلق بالمال وحقوقه، داعياً ذوي الشأن من المتخصصين والباحثين إلى فتح باب الحوار والمشاركة في هذا الموضوع المهم، كما لا أزعم أن دوري في ذلك يحمل طابع الاجتهاد، وإنما هو من قبيل الترجيح بين الأقوال وتعميق فهمها واحياء العمل بها بما يناسب هذا العصر ومستجداته، في ضوء رؤية فاحصة للنصوص، تأخذ بعين الاعتبار قواعد الخلاف والأسس المعمول بها في هذا الباب مراعياً ألا أورد من الأحاديث إلا ما كان صحيحاً نظراً لغزارة هذه الأحاديث واكتفاء بها، وفيما يلي مناقشة الأقوال الواردة في حقوق المال:
الرأي الأول: ليس في المال
حق سوى الزكاة
يرى كثير من الفقهاء والعلماء وخاصة المتأخرين منهم أن الزكاة هي الحق الواجب في المال، وليس معها حقوق مالية أخرى، وجميع أوجه الخير والصدقات التي وردت في النصوص تحمل على الندب ومكارم الأخلاق، ويستند أصحاب هذا الرأي على عدد من الأدلة من أهمها:
1- من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}وقوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} حيث فسر هذا الحق بأنه الزكاة، ويرى بعض المفسرين أن هذا الحق منسوخ بفرض الزكاة وتحديد مقاديرها، كما استدل الفريق الآخر الذي يرى أن في المال حقا آخر سوى الزكاة بهاتين الآيتين الكريمتين أيضاً، ولذا سنرجئ الحديث عنهما فيما بعد.
- ومن السنة حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - الذي رواه البخاري ومسلم قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات في اليوم والليلة) قال: هل علي غيرهن؟ قال: (لا، إلا أن تطوع) فقال رسول الله صلى الله علي وسلم: (وصيام شهر رمضان) قال: هل علي غيره؟ قال: (لا، إلا أن تطوع) قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تطوع) فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفلح إن صدق) متفق عليه (1)
ومثله حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم بنفس المعنى أيضاً، والدلالة واضحة في الحديثين، وقد استدل أصحاب هذا الرأي بأحاديث أخرى في غير الصحيحين لا تخلو من الضعف أو الوقف، وللعلماء كلام فيها، ولذا آثرت صرف النظر عنها (ومن أراد المراجعة فلينظر في كتاب فقه الزكاة للقرضاوي)، مثل حديث أم سلمة رضي الله عنها الذي رواه الحاكم: أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: أكنز هو؟ فقال: (إذا أديت زكاته فليس بكنز). (2)
وتعقيباً على هذين الحديثين المستشهد بهما، فمن الواضح أنهما لم يذكرا كل الأركان والواجبات الشرعية مثل: الحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، ووجوب الانفاق على الأولاد، وزكاة الفطر وصلاة الوتر مثلاً.. وغيرها مما عده العلماء اموراً واجبة في الشرع، وعليه يحمل الحديثان على أنهما لبيان أهم أركان الدين، ولم يفصلا جميع الأركان والواجبات، نظراً لأن الحج لم يفرض على الصحيح من أقوال العلماء إلا في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة.
الرأي الثاني: في المال حقوق أخرى إلى جانب الزكاة
يأخذ بهذا الرأي جمع من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - منهم عمر وعلي وعائشة وابن عمر وأبو ذكر وأبو هريرة وبو عبيدة، وكذلك طائفة من التابعين والمتأخرين، حيث يرون أن الزكاة هي الحق الأول في المال، وهناك حقوق أخرى واجبة أيضاً ويستندون في ذلك على الأدلة التالية:
1- من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}
حيث احتجوا بأن الآيتين محكمتان وليستا منسوختين وقال أبو عبيد في الأموال: مذهب الصحابة أولى بالاتباع فهم أعلم بتأويل القرآن، وذلك رداً على من قال إن الزكاة نسخت كل صدقة، وبناء عليه فإن هذا الحق هو بخلاف الزكاة، والمقصود به أن يواسي الحاصد للزرع أو الثمر الفقراء والمحتاجين، ويطيب خواطرهم عند الحصاد بإعطائهم ما تجود به نفسه، وهناك قرينة لفظية ومعنوية تؤكد هذا الحق وأنه لا يقصد به الزكاة، حيث إن إخراج الزكاة لا يتم إلا بعد تصفية المحصول وتنقيته، ليعرف مقدار ما يتم اخراجه منه، وأما هذا الحق فهو عند الحصاد، وقبل معرفة مقدار الزكاة بالتمام، كما أن ما اختتمت به الآية بقوله تعالى: {َلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، يصرف الحق إلى غير الزكاة أيضاً، لأن الزكاة محددة المقادير وليست محل إسراف، قال ابن كثير: (ذم الله تعالى أصحاب الجنة في سورة نون الذين يصرمون ولا يتصدقون على المساكين) وهذا الحق شبيه بحق من حضر القسمة من ذوي القربى والأيتام والمساكين في قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا}
2-ومن القرآن الكريم أيضاً قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.
ووجه الاستدلال أن الآية ذكرت من مقومات البر وأركانه انفاق المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، ثم عطفت عليه أقام الصلاة وايتاء الزكاة، فدل ذلك على أن الانفاق الأول غير إيتاء الزكاة، إذ من المتعارف عليه أن العطف في اللغة يقتضي المغايرة وإلا عد ذلك تكراراً ، كما أنه لا يستقيم أن يقال: إن المراد بإيتاء المال على حبه التطوع والاستحباب، لأن الآية نزلت في بيان أسس البر وأركانه رداً على اليهود المتمسكين بالمظاهر والأشكال من الدين، وجميع ما أوردته الآية من أعمال يدخل في هذا الباب (3).
3- وفي السنة روى الشيخان وغيرهما عن ابي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ما من صاحب إبل لا يؤدي فيها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه اولادها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله: إما إلى الجنة وإما إلى النار) وفي رواية لمسلم والنسائي: (تأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت، إذا لم يعط منها حقها تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، قال: ومن حقها أن تحلب على الماء، فذكر الإبل والغنم والبقر)، وفي رواية عند مسلم قلنا: ما حقها يا رسول الله؟ قال: (اطراق فحلها، واعارة دلوها، ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله)(4).
ووجه الاستدلال ما جاء من الوعيد الشديد على منع الحقوق المذكورة، بما فيها الزكاة فدل على أنها حقوق ليست اختيارية بل واجبة، من لم يؤدها متعرض للوعيد الوارد.
4- ومن السنة أيضاً روى الشيخان عن أبي ذر رضي الله عنه قال:
(انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، فقلت: يا رسول الله فداك أبي أمي من هم؟ قال: (هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا (من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله) وقليل ما هم) (5).
في هذا الحديث حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أصحاب الأموال بالخسران وهو البعد عن النجاة يوم القيامة، ودل القسم على أن خسارة هؤلاء الأغنياء واقعة ومؤكدة، واستثنى منهم من بذل وأنفق مما آتاه الله في وجه الخير المتاحة، وذكر يمينه وشماله وبين يديه وخلفه تمثيل حسي على كثرة البذل في حق ذوي الأموال، وأن ذلك هو سبيل النجاة، وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث عن قلة من يفعل ذلك من الأغنياء.
5- ومن السنة أيضاً روى الشيخان وغيرهما عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(يا أسماء لا توكي فيوكي الله عليك) وفي رواية: (انفقي وانفحي وانضحي ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك) متفق عليه. (6)
قال العلماء في الحديث حث على كثرة الانفاق، والتنفير من الإمساك ومنع الفضل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا توكي) أي: لا تدخري وتشدي ما عندك (فيوكي الله عليك) أي: يقطع عنك فضله أو بركته حسية كانت أو معنوية، ومعنى (لا تحصي) أي: لا تمسكي المال وتحتفظي به من غير انفاق، (فيحصي الله عليك) أي: يمسك عنك مادة الرزق ويناقشك الحساب، ومعنى (لا توكي) أي: إن الذي يمنع ما عنده من المحتاجين عرضة لأن يمنع الله عنه فضله وجوده، لأن الجزاء من جنس العمل. (8)
ففي الحديث وعيد وتهديد بالغ لمن منع فضل الماء بالفلاة عن ابن السبيل، مع أن الماء لا زكاة فيه، ولكن والله أعلم تأصل خلق المنع والشح في نفس هذا الرجل هو الذي دفعه إلى ذلك، مع وفرة الماء لديه واحتياج الناس إليه، فاستحق الوعيد المذكور، وقياساً على ذلك فإن من وسع الله عليه في الدنيا، فالواجب يتطلبه أن يجود بسخاء من فضول أمواله، بل إن هذا الحديث يكشف لنا عن مبدأ عظيم في البذل، ما أحوجنا الى أن نستلهمه ونعمل به وهو أن العطاء ينبغي أن يكون بقدر فضل الله وانعامه وتيسير سبل الكسب للمرء أيضاً.
وبالاضافة إلى هذه الأحاديث التي جاءت الدلالة فيها صريحة في بيان حقوق المال الواجبة، فإن هناك أحاديث أخرى يفهم منها الندب والتأكيد الشديد على هذه الحقوق، وهي بالجملة تدعم وتعضد دلالات الأحاديث السابقة، ومنها حديث: (يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى) وحديث:
(من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له) ونحوهما.
وقفة مع الرأيين
يتضح من بسط القول في هذين الرأيين، ومناقشة أدلتهما، أن بينهما توافقاً ضمنياً في كثير من الجوانب، فأصحاب الرأي الأول (الذين يرون أنه ليس في المال حق سوى الزكاة) يقررون في الوقت ذاته وجوب حقوق أخرى غير الزكاة في أوقات الضرورة والحالات الطارئة، ولا يختلفون أيضاً على أن مانع تلك الحقوق متعرض للوعيد الوارد حتى وإن أدى زكاة ماله، فهذا القاضي أبو بكر بن العربي يقول في أحكام القرآن: (وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق العلماء) وقال المناوي في فيض القدير على حديث رقم (27641): (ليس في المال حق سوى الزكاة) يعني ليس فيه حق بطريق الأصالة وقد يعرض ما يوجب فيه حقاً كوجود مضطر فلا تناقض بينه وبين الخبر بأن في المال حق سوى الزكاة).
وفي ضوء هذا الفهم فإننا نجد كثيراً من الفقهاء حينما يذكرون أحكام الزكاة يردفونها بالإشارة إلى وجود حقوق أخرى تتعين عند الضرورة أو وجود السبب، ففي حاشية الروض المربع عقب الشارح على كلام المؤلف - رحمهما الله تعالى - قائلاً: وفي المال حقوق أخرى سوى الزكاة نحو مواساة قرابة وصلة إخوان وإعطاء سائل وإعارة محتاج لنحو دلو أو ركوب ظهر أو إطراق فحل أو سقي منقطع أو من حضر حلب نعم وهو قول جماعة من أهل العلم، وقال الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - في كتاب الملخص الفقهي:
ثم اعلم أن في المال حقوقاً سوى الزكاة، نحو مواساة القرابة، وصلة الإخوان، وإعطاء سائل، واعارة محتاج، وانظار معسر، واقراض مقترض، قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، ويجب اطعام الجائع، وقرى الضيف، وكسوة العاري، وسقي الظمآن، بل ذهب الإمام مالك - رحمه الله - إلى أنه يجب على المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم.
وبناء على هذه الرؤية فإن الزكاة ينظر إليها باعتبارها الحق الدوري المحدد في المال بشكل دائم والذي يجب دفعه ولو لم يوجد مستحق، أما الحقوق الأخرى فهي حقوق طارئة وغير ثابتة أو محددة المصارف، بل هي تختلف باختلاف الحاجات والأحوال والظروف، وقد ذهب إلى هذا القول ورجحه الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الجامع فقه الزكاة، وأفاض فيه غير أنه أشار إلى أن هناك مواضع اختلف فيها الفريقان اختلافاً حقيقياً مثل حق الضيف وحق الماعون وصلة الرحم وحقوق المواشي الواردة في الأحاديث وغيرها من الحقوق، مما يستلزم استمرار عدم التطابق بين القولين تماماً، وعلى الرغم من أن النصوص المؤيدة للرأي القائل إن في المال حقا غير الزكاة أكثر وأوفر وأوضح دلالة في هذه المسألة، فإن هناك رأياً توفيقياً يمكن أن تلتئم به كافة النصوص السابقة بإذن الله، حيث يقوم هذا الرأي على أساس النظر إلى الحقوق الأخرى على أنها واجبة، ولكنها ليست في درجة فرضية الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام، بل هي حقوق دونها في الوجوب تتفاوت في إلزاميتها حسب الظروف والأحوال، ومسألة تفاوت درجات الوجوب معلومة في الدين (كما تتفاوت أيضاً المعاصي إلى كبائر وصغائر)، كما لا تتعين تلك الحقوق إلا بوجود مسبباتها كما وردت بذلك النصوص دون ربطها بالضرورة أو الحاجة فقط، كما هو ظاهر قول بعض العلماء، وذلك بما يحقق العمل بجميع النصوص الواردة في هذا الباب، وقد اطلعت على قولين يلخصان هذه المسألة كما يلي:
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوي 7/316 في تفسيره للأثر الوارد (ليس في المال حق سوى الزكاة): أي ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال كما تجب النفقات للأقارب والزوجة والرقيق والبهائم ويجب حمل العاقلة وقضاء الديون ويجب الاعطاء في النائبه، ويجب اطعام الجائع وكسوة العاري فرضاً على الكفاية، إلى غير ذلك من الواجبات المالية لكن بسبب عارض، والمال شرط وجوبها...). (9)
2- قال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم - رحمه الله - في كتاب الأحكام شرح أصول الأحكام: وفي الاقناع وغيره واطعام الجائع ونحوه واجب اجماعاً مع أنه ليس في المال حق واجب سوى الزكاة اتفاقاً، لكن ما يعرض لجائع وعار ونحوهما فيجب عند وجود سببه).
وبعد هذا الاستعراض للنصوص والترجيح بينها، لا بد من كلمة توضح المقصود وتسدد الفهم، وهي أن العمل بهذه النصوص ونحوها يقتضي عدم الوقوف على دلالاتها اللفظية فحسب، بل الواجب تعميم الحكم على الواقع من خلال القياس وتوسيع قاعدة التطبيق لتشمل كل ما استجد من أموال وثروات وأنشطة اقتصادية واحتياجات طارئة وذلك في ضوء الأحكام العامة والمقاصد والغايات التي تسعى إليها الشريعة.
توضيح:
آمل ألا يفهم من هذا الاستعراض أنني من المؤيدين للقول الذي يدعو إلى عدم جواز امساك فضول الأموال، كما قد يتبادر إلى الذهن من ظاهر بعض الأحاديث وإنما أردت ايضاح الصورة الكلية لقواعد الانفاق والبذل في الإسلام، والاستدلال لما نحن بصدده فقط، وإلا فإن الذي يجب على كل مسلم هو اعمال جميع النصوص الواردة، وعدم الاقتصار على ظواهرها بما يتفق مع أصول الدين وقواعده المرعية، مع الاستهداء بمنهج السلف الصالح في فهم تلك النصوص.
(*) اقتصادي سعودي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.