ما كان أحد ليتوقع أن رجلاً مجازفاً يحمل معولاً، ويشرع محاولاً فتح ثغرة بجدار برلين العتيد، ويستطيع بضرباته وبالضربات التي توالت فيما بعد، أن يعلن أن الحرب الباردة قد وضعت أوزارها، وأن شعوباً كثيرة انعتقت من ربقة ماركس ولينين وستالين، وأن قيماً قد انهارت وظهرت أخرى جديدة جدة التحولات الكبيرة التي شهدها عالمنا قبيل نهاية القرن الماضي.. وهكذا أصبحنا - وفجأة - أمام مصطلحات (القطب الواحد) و(النظام العالمي الجديد) و(عالم بلا حدود) و(صراع الحضارات) و(العولمة).. إلخ. ولعل العولمة هي أكثر هذه المصطلحات إثارة للجدل والنقاش، إذ هي ليست تدويلاً ولا عالمية ولا كونية ولا أممية، ولكنها نتف من هذه وتلك، إضافة لتحميلها بعض المفاهيم حسب غايات وأهداف مستخدميها، وبما ينسجم ومصالحهم؛ فهي بنظر الغرب انتصار لقيمه وأفكاره وسيادة لنظرياته وتدفق آحادي الاتجاه من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب.. في حين يأمل الشرق والجنوب الاستفادة من منافعها، ويرى فيها انتصاراً على ثالوث الفقر والمرض والتخلف، ويعوّل على تعويض ما فاته من تطور ونماء، ولكن من الواضح أنه (مستجير من الرمضاء بالنار). تباين واختلاف في الوقت الذي حقق مفهوم (العولمة) ذيوعاً وانتشاراً سريعين، إلا أنه لم يوفق في تلمس طريقه ليكون مفهوماً واضحاً جلياً، وهو أشبه بالقنبلة الدخانية التي تحجب الرؤية أكثر مما تجلب الموت.. وتأسيساً على ذلك فإن دعاة العولمة ومروّجوها يرون أنها سائدة لا محالة، وسوف تستأصل شأفة الدولة القومية بمعناها التقليدي وصولاً إلى (عالم بلا حدود) بحيث تشمل الاقتصاد والسياسة والاجتماع والفكر وحتى الأخلاق بينما يرى معارضو العولمة الهرم مقلوباً، إذ إنهم مصرون ومتحمسون لبقاء مركزية الدولة ضمن النظام الدولي الحالي، وهم يرون أننا لا نعيش عالماً بلا حدود، ولكن الحدود قد ضعفت وتغيَّر مفهومها نتيجة تبادل التأثيرات العالمية المتلاحقة في الاتجاهات كافة. وللعولمة تعريفات عدة أيديولوجية وسياسية واقتصادية وثقافية، لهذا فإن العولمة لا تقتصر على مجال بعينه، بل تنتشر في الأفق والعمق لتطول البضائع والخدمات والأموال والأفكار، وبعض الأعراف والممارسات الثقافية والعقدية التي هي خصوصيات لأمة دون أخرى. ولن نتظرق للتعريفات الكثيرة المتداخلة والمتشابكة للعولمة، لأن هذه السطور ستضيق بها ذرعاً، ولكننا أخذنا أحد التعريفات، الذي هو - حسب رأينا - أقربها للشمول والأحاطة بهذا المفهوم، حيث يرى (ريتشارد هيجوت) - أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي - أن (العولمة ببساطة ليست ظاهرة اقتصادية طليقة من كل قيد فحسب، ولكنها أيضا ظاهرة سياسية وأيديولوجية، وانطلاقاً من هذا التحليل الذي يفترض أن الأفكار لها تأثيرها في السياسات، يمكننا التوصل إلى نتيجة مؤداها أن فهم العولمة بطرق مختلفة سوف يقدم تفسيرات عقلانية توضح عدة اتجاهات في الحكم الاقتصادي والسياسي المعاصر..). نصف الكأس المملوء أياً كان موقفنا من العولمة، فثمة أوجه إيجابية يمكن أن يستفاد منها، إذا ما وجهت العولمة نحو خير ورفاه الإنسان، خصوصاً في المجالات الثلاثة الأبرز والأشد تأثراً وتأثيراً في العولمة، ونعني بها الاقتصاد والإعلام وثورة المعلومات. ففي المجال الاقتصادي يمكن تسخير العولمة لتكامل الدول المنتجة والمستهلكة بدلاً من نهب الأولى لأسواق الثانية، كما يمكن الاستفادة من أحدث منجزات العلم والتقانة بما يرفع الإنتاجية ويقلِّل الهدر، ويحقق مستويات جيدة من الجودة والتطوير.. وهكذا يتقارب العالم بتقارب مصادر عيشه وموارده في عصر أصبح الانعزال لدولة أو إقليم ما يعني الانتحار.. خصوصاً بعد انتشار الشركات المسماة (عابرة للحدود) أو (عابرة للجنسيات)، حيث يرتبط بهذه الشركات مجموعات ضخمة من الوكلاء والفروع ومراكز الإنتاج والتوزيع حول العالم، ف(90) بالمائة من مكونات السيارات الأمريكية مثلاً تصنع في اثني عشر بلداً، مما يعني عالماً أكثر تشابكاً ومصالح أكثر تعقيداً. وفي المجال الإعلامي، يمكن أن تكون الفوائد جمة إذا أحسن استغلال واندماج وسائل الإعلام والاتصال في وقت تحول العالم فيه إلى ما يشبه (القرية الكونية)، وحيث يمكن للإعلام أن يعمل على تقارب الأفكار والآراء والنظريات بين شعوب المعمورة، ويحد في الوقت نفسه من نزعات العنصرية والتطرف، ويرفع رصيد البشر فكرياً ومعرفياً من خلال التغطية المتوازنة والمتكافئة للأحداث والتطورات في العالم، بعكس ما هو حاصل من تكريس البث الإعلامي التقليدي والإلكتروني ليكون بثاً أحادي الاتجاه يحتوي على رسائل أقوياء وأغنياء وغالبين موجهة لضعفاء وفقراء ومغلوبين.. ناهيك عن قدرة وسائل الإعلام والاتصال على إيجاد وعي أخلاقي وقيمي عالمي التوجه ينبع من اعتبار العالم أسرة واحدة لها تطلعاتها وأحلامها وعليها التصدي للمعوقات التي تعترض الجنس البشري، خلافاً لما نراه الآن من انقسامات وتفرد بوجهات النظر بين الدول الغنية والفقيرة حول مشكلات مثل التلوث والإرهاب ومكافحة الجريمة عبر الحدود..إلخ. ولا تقل الفائدة المتوخاة من ثورة المعلومات عن فوائد الإعلام والاتصال، وذلك من خلال بث ونشر المعلومات والبيانات بغية الاستفادة منها لتحقيق شيوع وعالمية المعرفة، بصرف النظر عن دين وثقافة وانتماء المستفيدين حتى تكون المعلومة محررة من قيود العنصرية والاستعلاء والاستقواء جميعاً. والنصف الفارغ.. ما من شك أن العولمة تكرِّس سلبيات كثيرة مقابل إيجابياتها القليلة، سيما إذا نظرنا إليها بمنظار بعض المفكرين الغربيين المتحمسين للعولمة والمدافعين عن قيمها (التي هي بطبيعة الحال قيم الغرب بعامة وأمريكا بصفة خاصة) فهي حسب كتاب (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) The end of history and the last man لمؤلفه الأمريكي من أصل ياباني (فرانسيس فوكوياما) وسيلة لهيمنة القيم الأمريكية على العالم، وانتصار للقيم الغربية الليبرالية على ما سواها.. وإلى أبعد من هذا التنظير يذهب (صموئيل هنتجتون) في كتابه (صراع الحضارات) clash of civilizations والذي يرى أن الصراع دائر الآن بين بضعة حضارات رئيسة في العالم وسوف تكون الغلبة في النهاية للحضارة الغربية الليبرالية بشكل ناجز ونهائي..!! ويدلِّل هؤلاء على صحة نظرياتهم من خلال الهيمنة العسكرية والاقتصادية والفكرية الأمريكية على العالم من خلال غزو الشركات الأمريكية والغربية العملاقة لأسواق وأذواق المستهلكين في الدول النامية، بحيث أصبحت هذه الشركات تتبع لها جيوشاً من المستهلكين والتابعين حول العالم، يتم صبغهم بالصبغة الأمريكية الاستهلاكية ليلبسوا ال(جينز) ويشربوا ال(كوكاكولا) ويلتهموا بنهم الوجبات السريعة (fast food). من ليس معنا.. فهو ضدنا..!! باتت هذه العبارة (مانشيتاً) أمريكياً للمرحلة الراهنة وربما المستقبلية أيضاً، لقد أطلق المسؤولون الأمريكيون هذا التوجه في إطار الحرب التي تدعي أمريكا بأنها تشنها ضد ما تسميه بالإرهاب، ولكن من الواضح أنه أصبح توجهاً عاماً ومحدداً للسياسة الأمريكية نحو جملة من المفاهيم ومن بينها العولمة، والتي هي أصلاً صنعة أمريكية قائمة على الفرض والهيمنة من خلال مبدأ فرعوني محض (لا أريكم إلا ما أرى)، فالإرهاب واقتصاد السوق والعقوبات وتدفق المعلومات والتلوث وازدواجية المعايير وغير ذلك لها جميعاً مدلولات أمريكية وغربية تختلف بالضرورة مع ما نتبناه ونعتقد به من فهم لها، وعلينا بقبول فهمهم.. وفهمهم فقط، وإلا فنحن ضدهم.. والقادم مذهل أكثر..!! منفعلون.. متفرجون.. ونائمون..!! وإزاء تحدي العولمة الكاسح، فإننا نجد أن الشعوب والدول والمؤسسات والأفراد منقسمون على أنفسهم في اتجاهات ثلاثة: يتمثَّل الأول في الدول الغنية المنفعلة بموضوع العولمة والمتحمسة لها، حيث راحت تعد لها كل عدة، وتوفر لها سبل النجاح لتصبح أمراً واقعاً، بينما وقف الفريق الثاني على الحياد، وآثر أن يحجز لنفسه مقعداً بين صفوف المتفرجين، ريثما يرى ما الذي يمكن أن تتمخض عنه مقولات العولمة، أما الفريق الثالث فيمثِّل أغلب الدول النامية، والتي يحلو للبعض تسميتها بالدول (النائمة) ونقع - مع الأسف - نحن المسلمين والعرب ضمن هذه الدائرة لأننا اعتدنا على التعامل مع الأشياء بطريقة أبيض - أسود وفي النهاية لا شيء سوى الخسارة تلو الخسارة، فلا نحن ممن يظفر (ببلح الشام ولا بعنب اليمن) كما يُقال، وغالباً ما نرضى لأنفسنا أن نعود من الغنيمة بالإياب..!! لذا من الأفضل أن نضع العقل في مرحلة متقدمة على العاطفة، وأن نتحلَّى بالحكمة والرأي، فهو (قبل الشجاعة الشجعان). عود على بدء وتأسيساً على ما سبق فإننا مع عولمة تتلاقح بها الحضارات لا تتصادم كما أراد لها (هنتجتون) الذي جهل أو تجاهل أن كل حضارة هي نتاج لما قبلها وقاعدة لما بعدها. أو هي كما قال أحد المفكرين مشبهاً العلاقة بين الحضارة المعاصرة والحضارات التي سبقت بالقزم الذي يقف على رأس عملاق، فيرى كل ما يراه العملاق ويرى شيئاً لا يراه العملاق وهو مؤخرة رأسه فكيف تتصادم الحضارات أيها المفكر (الجهبذ)؟! وكما لا يلزمنا تنظير التصادم هذا، كذلك لا تلزمنا عولمة بمقاييس العم سام، ذات التفصيلات الفضفاضة والمطاطة، بحيث تطبق مع كل حالة على حدة، وتقرر أن ثمة دولاً (محور شر) وأخرى (مارقة) وثالثة (بذرة للإرهاب) وما زال الحبل على الغارب. [email protected]