ضمن سلسلة الرسائل الجامعية التي تنشرها دارة الملك عبدالعزيز صدر مؤخراً كتاب (تجارة الجزيرة العربية خلال القرنين الثالث والرابع للهجرة) للباحث د. سعيد بن عبدالله القحطاني. وقدّم للكتاب د. عبدالله السيف أستاذ التاريخ بكلية الآداب بجامعة الملك سعود بكلمة جاء فيها: فقد كانت الحياة الاقتصادية في الجزيرة العربية في العصر العباسي غنية في جوانبها المختلفة، وعلى الرغم من أهمية تلك الجوانب إلا أن الباحثين المحدثين أحجموا عن دراستها لصعوبتها من ناحية، وتشتت مادتها التاريخية في بطون المصادر لمختلفة من ناحية أخرى. وما كانت التجارة في الدولة العباسية مزدهرة في القرنين الثالث والرابع للهجرة في مختلف أقاليم الدولة مثل العراق ومصر وإفريقية وبلاد ما وراء النهر وبلاد فارس، حيث أثبت ذلك بعض الدارسين المحدثين الذين درسوا هذه الأقاليم، إلا أن الجزيرة العربية لم تحظ بدراسة شاملة عن التجارة فيها شأن غيرها من الأقاليم الإسلامية الأخرى لمعرفة ما إذا كانت قد أسهمت في هذا الازدهار، وأن الجزيرة العربية مرت بانقسام سياسي خلال القرنين الثالث والرابع للهجرة. ومن هذا المنطلق درس الدكتور سعيد بن عبدالله القحطاني موضوع (تجارة الجزيرة العربية خلال القرنين الثالث والرابع للهجرة)، ودراسة موضوع مثل هذا تتميز بالصعوبة، وتتطلب البحث بصبر وأناة وجد، ورجوع إلى مصادر مختلفة تاريخية وجغرافية ودينية وأدبية ولغوية وكتاب تراجم وأنساب، إضافة إلى المراجع والدراسات الحديثة. وقد وفق المؤلف في ذلك سواء فيما يتعلق بجمع المادة العلمية، أو دراستها وتحليلها، متحلياً بالأسلوب العلمية الدقيقة، والنظرة الشاملة العميقة حتى أخرج لنا هذا الكتاب القيم. لقد قام المؤلف بدراسة الكيانات السياسية في الجزيرة العربية مبيناً الوحدة والتنوع في أنظمتها وأثر ذلك في تجارتها، وركز على إبراز دور الجزيرة العربية بكل أقاليمها، وحجم نشاطها التجاري مع الأقاليم الإسلامية، وأقاليم العالم الأخرى. كما وضح الأسواق التجارية والأسعار والسلع المتبادلة، والطرق والموانئ، وما تتميز به كل منطقة من مناطق الجزيرة العربية من تنوع في البضائع والثروات الطبيعية، ومدى إسهامها في التجارة في الدولة العباسية. والباحث في هذا الكتاب تناول جانباً مهماً من تاريخ الجزيرة العربية، وقدّم معلومات جديدة وموثقة عما كانت عليه التجارة في الجزيرة العربية في القرنين الثالث والرابع للهجرة، وإنني آمل أن يسد هذا الكتاب ثغرة من ثغرات تاريخ الجزيرة العربية الذي لا تزال بعض جوانبه تعاني من الإهمال، كما أرجو من المؤلف أن يتابع جهوده لخدمة التاريخ الإسلامي، ولا سيما تاريخ الجزيرة العربية فيلقي الضوء على فترة أخرى وجانب آخر من جوانب هذا التاريخ الذي لا يزال بحاجة إلى البحث والتنقيب. وقد تم تقسيم الكتاب إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة، ففي المقدمة تعريف بأهمية الموضوع وأسباب اختياره وعناصره، ودراسة لأهم المصادر والمراجع التي اعتمد عليها الكتاب. أما التمهيد، فهو يتحدث عن الكيانات السياسية الموجودة في أقاليم الجزيرة العربية إبان زمن الدراسة، وقد تناول بإيجاز أهم هذه الكيانات، ومناطق نفوذها وعوامل التوافق والاختلاف بين تلك الأنظمة السياسية والخلافة العباسية، وفيما بعد الدولة الفاطمية في مصر، وكذلك ملامح الاستقرار والتغير للنشاط التجاري. أما الفصل الأول، فقد انصرف لدراسة العوامل المؤثرة في التجارة الإيجابية منها والسلبية، مثل أهمية الموقع الجغرافي، وأثر الحج في التجارة والإنفاق على الحرمين الشريفين، وإصلاح الطرق المؤدية لهما، واهتمام بعض الخلفاء وأصحاب الشأن ومحبي الخير بهما وبمرافق المياه في الطرق وفي مكةالمكرمة، وإلغاء الضرائب، وتباين مناطق الإنتاج الزراعي والصناعي والحيواني في مختلف أقاليم الجزيرة العربية، وتأمين أمن الطرق التي تسلكها قوافل التجار داخل الجزيرة العربية وسلامتها، وغير ذلك من العوامل الإيجابية المشجعة للتجارة. ثم تناول الكتاب في الفصل نفسه العوامل السلبية المؤثرة في التجارة مثل بعض الثورات والفتن وأثرها في الأسواق والطرق التجارية، وانعدام الأمن في بعض المناطق واعتداء اللصوص وقطاع الطرق على القوافل التجارية ونهبها، وما أحدثه القرامطة من فوضى، واعتراض لطرق الحج، ونهب لأموال التجار المرافقين للحجاج فانقطع الحج بسببهم في كثير من المناطق التي يعترضونها في بعض الأعوام، كما اعتدوا على مكة وروعوا أهلها وقتلوا الحجاج في المسجد الحرام، ونزعوا الحجر الأسود ونقلوه إلى الأحساء. كما اتضح في هذا الفصل أثر الكوارث الناجمة عن السيول الجارفة، أو الجفاف، أو الزلازل، والحرائق، أو الأمراض والأوبئة، أو آثار الحيوانات الضارة في المزارع وخلافها، وكذلك الآثار السلبية لبعض الثورات الواقعة في بعض مناطق التبادل التجاري. أما الفصل الثاني، فقد أفرد للحديث عن التجارة الداخلية، مثل الأسواق من حيث نموها ومواقعها في المدن أو المحطات التجارية أو القرى، وتنظيمها، وأنواع التجار العاملين فيها، ووسائل التعامل، والأسعار، والرقابة على الأسواق، ثم عرض الكتاب بعد ذلك للطرق الداخلية البرية منها والبحرية، وحركة السلع والمنتجات المحلية من زراعية وصناعية وحيوانية بين مختلف مناطق الجزيرة العربية، وبعد ذلك جاء الحديث عن أهم المحطات التجارية الواقعة على الطرق خاصة البرية منها. أما الفصل الثالث، فاختص بالحديث عن التجارة الخارجية وتناول مناطق التبادل التجاري، كالعراق والشام، ومصر، وشمال إفريقيا والأندلس، وشرق إفريقيا، وبلاد فارس، والهند، والصين، وأواسط آسيا، وبلاد الفرنج، كما تناول مراكز الإنتاج في كل منطقة، وما تتميز به من تنوع البضائع والثروات الطبيعية، والإشارة لبعض شواهد الصلات التجارية بين الجزيرة العربية وتلك المناطق. وقد تطرق الحديث في هذا الفصل أيضاً إلى الطرق التجارية الخارجية، البرية منها والبحرية، بشيء من التفصيل، وكذلك وسائل النقل البرية والبحرية، وأهم موانئ التصدير والاستقبال في الجزيرة العربية، وتحدث هذا الفصل أيضاً عن السلع المتبادلة من حيث واردات الجزيرة العربية منها والصادرات إلى مختلف المناطق القريبة منها أو البعيدة مما أشارت إليه المصادر في هذه المدة، وأبرزت الدراسة وسائل التعامل التجاري التي كانت قائمة في مناطق التبادل التجاري وعرضت بعد ذلك لنماذج منها. أما الخاتمة فقد تضمنت خلاصة لأهم النتائج التي توصل إليها، كما تم تذييل البحث بملحقات تشمل بعض البيانات والخرائط التوضيحية، وفهرساً للمصادر والمراجع التي اعتمد عليها المؤلف في مادته وتحليلاته.