تميز القرن العشرون بأنه بالفعل عصر الاتصال الجماهيري.. فلقد أصبحت الصحف والراديو والتلفزيون والمجلات الرخيصة والسينما وكتب الجيب.. من الأدوات الأساسية لنقل الحقيقة والخيال والمعلومات الجدية والترفيهية وأساليب الحياة وأنماطها في مختلف المجتمعات.. ولقد ساعدت الثورة التكنولوجية في الإخراج والتوزيع على جعل الاتصال الجماهيري ميسرا، لا يكلف غير القليل من الجهد والمال، ففي مطلع القرن العشرين لم يكن العالم يعرف إلا ثلاثا من وسائل الإعلام الجماهيري المعروفة حاليا، وهي السينما والردايو والتلفزيون، وحتى الوسائل القديمة مثل الصحف والمجلات الرخيصة لم تكن قد وصلت بعد إلى الدرجة التي وصلت إليها في وقتنا الحاضر. ومع أواخر القرن العشرين دخلت البشرية عصر القرية الكونية، والعولمة وثروة الاتصالات والمعلومات والمعرفة، وعالم الفضائيات والسماوات المفتوحة.. وصار الإعلام عنصراً محورياً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكذلك في تشكيل النسق القيمي للأمم والشعوب. ويوما بعد يوم تزداد الأهمية القصوى للإعلام.. ويبشرنا الخبراء والمختصون.. بأن تتحول مجتمعاتنا البشرية إلى (مجتمعات إعلامية) حيث لم يعد الإعلام مجرد أداة إخبارية إعلانية فحسب.. بل أصبح وسيلة تنميط اجتماعي وتنشئة تربوية وثقافية مهمة وخطيرة.. وهو أيضاً وسيلة تسويق مسلكي في غاية التأثير.. الأمر الذي يجعل من النفوذ الإعلامي لأي دولة أحد أهم مظاهر قوتها على الصعيدين الإقليمي والدولي. وانطلاقا من تلك الأهمية.. فإننا بصدد كتابة عدة مقالات نرصد فيها دور الإعلام في ظل تحديات القرن الحادي والعشرين.. ومنها عصر المعلومات والعولمة والحوار مع الآخر ونظرية صراع الحضارات وظاهرة الإرهاب وتحسين الصورة والسماوات المفتوحة. ونبدأ اليوم بالإعلام العربي وعصر المعلومات، فمن المعروف أن المعلومات في عصرنا الحالي تحتل مكانة هامة بل وخطيرة لدرجة أصبح فيها هذا العصر يوصف بأنه عصر المعلومات. عصر المعلومات ينتمي هذا التعبير إلى أكثر من عالم اجتماع.. لكن يأتي على رأسهم العالم الياباني (يونيجي ماسودا) في دراسته المستقبلية الشهيرة عن مجتمع المعلومات عام 2000م التي يطرح فيها تصوره عن تحول مجتمع اليابان إلى مجتمع مغاير بشدة في أشكال تنظيماته ومؤسساته وصناعاته وطبيعة سلعه وخدماته وأدوات أفراده وحكامه.. ونسق القيم والمعايير التي تولد الغايات وتحكم العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات داخل هذا المجتمع. عصر الموجة الثالثة: وهو تعبير آخر يوصف به هذا العصر.. وصاحبه الكاتب الأمريكي الشهير (ألفين توفلر) في كتابه الشهير (صدمة المستقبل) وهو محاولة لتنميط حركة الارتقاء الحضاري مبشرا بقدوم موجة ثالثة بعد موجتي الزراعة والصناعة.. تحمل في طياتها أنماطا جديدة للحياة.. من أبرز ملامحها استخدام مصادر طاقة متنوعة ومتجددة وطرق إنتاج جديدة والاعتماد على علاقات ومؤسسات تختلف اختلافا جادا عن تلك التي عهدناها خلال الموجة الثانية (الصناعة). وهناك العديد من التسميات لهذا العصر منها أيضا عصر ما بعد الصناعة الذي صاغه (دانيال بل) وربما يكون سبقه إليه (آلان تورين) عالم الاجتماع الفرنسي وأحد أقطاب المدرسة البنيوية.. وذلك في محاولته كشف آفاق النمو الاجتماعي وتحليل الطبقية في المجتمع الحديث.. ومنها أيضا عصر ما بعد الحداثة الذي يربط برؤية فيلسوف ما بعد البنيوية (جان فرانسوا ليوتار) حول تغير طبيعة المعرفة وآليات إنتاجها وتواصلها داخل المجتمع. ويمكن القول إن عصر المعلومات الذي يعيشه العالم اليوم وسيعيشه غدا ما كان يمكن أن يكون أو يستمر بغير الثورة العقلية والصناعية الثانية التي شهدها العالم منذ سنوات.. تلك الثورة التي زادت فكر الإنسان انضباطاً وزودته بنظم ومناهج وأدوات في البحث والاستقصاء أكثر دقة في الوقت الذي مكنته من أن يكسر الحواجز بين التخصصات، وعبرت إلى آفاق ومجالات خارج الأرض التي يوجد عليها.. والثورة الصناعية التي عبرت عن نفسها على وجه الخصوص في الإنجازات الإلكترونية وما وفرته للمعلومات من أجهزة وإمكانات وهياكل ارتكازية تيسر استقبالها وجمعها وتخزينها واسترجاعها وبثها ونشرها واستخدامها بصرف النظر عن حدود الزمان والمكان. سمات عصر المعلومات تتمثل أبرز ملامح وسمات عصر المعلومات في العناصر التالية: 1 - أنه يقوم أساساً على إنتاج المعلومات وتداولها من خلال آلية غير مسبوقة، وهي الحاسب الآلي، الذي أدت أجياله المتعاقبة إلى إحداث ثورة فكرية في مجال إنتاج وتوزيع واستهلاك المعارف الإنسانية، فإذا أضفنا القفزة الكبرى في مجال الاتصالات وخاصة الأقمار الصناعية التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة مما من شأنه أن يؤثر على القيم والعادات والاتجاهات ويؤدي تدريجيا إلى ما يمكن أن نطلق عليه (الوعي الكوني). 2 - أن المعلومات غير قابلة للاستهلاك أو التحول أو التبديد، لأنها تراكمية بحسب التعريف.. وأن سر الوقع الاجتماعي العميق لتكنولوجيا المعلومات أنها تقوم على أساس التركيز على العمل الذهني وتعميقه من خلال إبداع المعرفة. 3 - المنفعة المعلوماتية متاحة لكل الناس من خلال شبكات المعلومات وبنوكها. 4 - أن الصناعة القائدة ستكون صناعة المعلومات التي ستهيمن على البناء الصناعي. 5 - سيتحول النظام السياسي لكي تسوده السياسات التي تنهض على أساس الإدارة الذاتية، التي يقوم بها المواطنون والمبنية على الاتفاق، وضبط النوازع الإنسانية.. والتأليف الخلاق بين العناصر المختلفة. 6 - سوف يتشكل البناء الاجتماعي المحلي من مجتمعات محلية متعددة المراكز ومتكاملة بطريقة طوعية. 7 - ستتغير القيم الإنسانية وتتحول إلى الاستهلاك المادي.. وليس إلى إشباع الإنجاز المتعلق بتحقيق الأهداف. 8 - أعلى درجة من مجتمع المعلومات ستتمثل في مرحلة تتسم بإبداع المعرفة.. من خلال مشاركة جماهيرية فعالة، والهدف النهائي منها هو التشكيل الكامل لمجتمع المعلومات الكوني. 9 - ومن أهم سمات عصر ثورة المعلومات هو الدخول في عصر الاقتصاد الرقمي أو الاقتصاد غير محسوس الوزن.. والمعروف أيضا باقتصاد المعرفة أو الاقتصاد غير المادي أو الاقتصاد غير الملموس وهو الاقتصاد الذي يقوم على أربعة عناصر هي: أ - تقنية المعلومات والاتصالات وشبكة الإنترنت. ب - الملكية الفكرية التي لا تشمل فقط براءات الاختراع وحقوق النسخ، ولكنها تضم كذلك مجالا واسعا من العلامات التجارية والتبادل المالي والعناصر الصحية والتعليم. ج - المكتبة الإلكترونية وقواعد البيانات بما في ذلك وسائل الإعلام الحديثة. د - التكنولوجيا الحيوية والمكتبات التقليدية، وقواعد البيانات والمواد الصيدلية. وتشكل هذه العناصر الأربعة أسرع القطاعات نموا في الاقتصاديات الحديثة سواء تم قياسها بالقيمة المضافة أو بنمو الوظائف والتشفير. 10 - أن ثورة المعلومات والتغييرات الوشيكة في الأجهزة والبرامج والبنية الأساسية سوف تعمل بنسب متفاوتة على تغيير حياتنا الاجتماعية ونظمنا العائلية، ووظائفنا ووسائل التسلية والترفيه، واقتصادنا بل ونظرتنا لمكاننا في هذا الكون الذي نعيش عليه.. كل ذلك بسبب ما يعرف (بسوق المعلومات). المعرفة وسوق المعلومات سوف تؤدي سوق المعلومات إلى تغييرات اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية بالغة الأهمية وينبغي أن نلحظ أن الكثير من النشاطات التي تبدو للوهلة الأولى نشاطات معلوماتية نهائية هي في الواقع نشاطات وسيطة. وفي ظل وجود ما يقرب من بليون جهاز كمبيوتر متصلة بعضها بالبعض خلال عقد من الزمان.. ومع احتواء كل منها على ما يتراوح بين بضعة آلاف وبضعة ملايين معلومة فسوف نصبح محاطين بجبال شاهقة من البيانات.. تضم ما بين تريليون وألف تريليون ملف وبرنامج ومذكرة وقائمة وغيرها المواد، وستكون الغالبية العظمى من هذه البيانات عبارة عن سلع وخدمات ومعلوماتية وسيطة أي غير نهائية، وسوف يكون معظمها بالنسبة للغالبية من المستخدمين مجرد جبل من المعلومات البالية عديمة القيمة، أي أن المعلومات في حد ذاتها هي مواد خام عديمة الجدوى والفائدة. وأن تحويل هذه المواد الخام إلى مواد ذات فائدة ملموسة هو ما يعرف (بالمعرفة) أي أن المعرفة غير المعلومات.. فالمعرفة هي تحويل المعلومات من مواد وسيطة وعديمة الفائدة إلى مواد نهائية ذات قيمة وجدوى عالية للفرد والجماعة المؤسسة.. كما أن سوق المعلومات يسبق لها مثيل.. وذلك انطلاقاً من التقارب الإلكتروني الضخم الذي بدأت البشرية تستشعر به منذ نهايات القرن الماضي. التحديات الإعلامية في عصر المعلومات ينطوي التدفق الحر للمعلومات على العديد من الفرص وأيضا من التحديات أمام الإعلام ومنها: 1 - أن توفر المعلومات للجمهور من مصادر متعددة يضع الإعلام في موقف العجز إن لم يتمكن من الاستجابة لهذه الظاهرة بزيادة المعلومات إلى الجمهور وصناع القرار. فإن استجابة الإعلام لهذه المعلومات سوف تتأثر بوجود المعلومات لدى الجمهور ومن ثم فإن فرصا فريدة متاحة الآن أمام الإعلام لتوسيع هامش الحرية - مهما كان قدره - خاصة أن الواقع الإعلامي العالمي يدعم هذا الاتجاه. 2 - أن تدفق المعلومات يوفر للإعلام ذاته موارد إعلامية لم تكن متاحة له من قبل.. هذه الموارد المعلوماتية يمكن أن تدعم خطى الأداء الإعلامي والتخلي عن ظاهرة نقص المعلومة في الخطاب الإعلامي حيث ظلت البلاغة اللغوية بديلا تقليديا عن نقص المعلومة خلال فترة طويلة من الزمن.. ولن يتمكن الإعلام من الإفادة من موارد المعلومات دون إعادة تأهيل الكادر البشري من الإعلاميين للتعامل مع هذه الظاهرة الجديدة جمعاً وتحليلاً ومعالجة. 3 - ظهر أمام الإعلام تحدٍّ جديد آخر هو تحدي عصر المعرفة الذي انبثق بدوره عن عصر المعلومات الذي جعل قيمة المعلومات تتخذ من قيمة الأشياء الملموسة التي تؤدي إليها.. ولا جدال في أن الصناعة هي المعرفة التي تحول المعلومات إلى مواد تفيد الإنسان وترفع مستواه المعيشي والترفيهي. 4 - ومن التحديات التي سيواجهها الإعلام أيضا في عصر المعلومات هو أن الجميع قد تعارف على أن الأمم والشعوب تتحد معا إذا توافرت لها مساحة متصلة من الأرض والجغرافيا.. ولغة مشتركة تساعد السكان على الاتصال معا.. وثقافة مشتركة وتاريخ مشتركة، ولكن كل هذه القوى تفقد أهميتها المادية في عصر المعلومات إذ أثبتت اليابان أنه يمكن استبدال القيمة الاقتصادية للأرض بالقيمة الاقتصادية للمعرفة التي كانت في مجملها عبارة عن معلومات.. وتتم بواسطة سوق المعلومات وتتحرر من اللغة والثقافة والتاريخ ومن القيود الجغرافية.. وهكذا يمكن تكوين أمة متجانسة عبر أجهزة الكمبيوتر وسوق المعلومات.. بمعنى أنه يمكن ألا نتحدث عن الأمة اليونانية مثلاً باعتبارها دولة اليونان الفعلية.. وإنما باعتبارها الشبكة اليونانية التي تربط جميع اليونانيين في شتى أنحاء العالم. لذلك يمكن الحديث على أن التقارب الإلكتروني سوف يجعل من الدول بمفهومها التقليدي مجرد مجموعة من الشبكات ليس إلا!! مما سيشكل أكبر تحد للإعلام في عصرنا الحالي.. يزداد حدة وضراوة في المستقبل!!