يمكن القول إن مفهوم العولمة بكل تجلياتها التاريخية والاقتصادية والثقافية والسياسية بدأ يشغل أذهان دوائر متسعة من أجيال النخب المتعددة في أنحاء العالم منذ بداية التسعينيات وحتى الآن، مما يدلل على ارتفاع الوعي الثقافي والسياسي بالمشكلات والتحديات التي يمثلها الدخول في القرن الحادي والعشرين.. فدون هذا الوعي ودون الدفع في طريق إبداع الحلول لمختلف المشكلات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تواجهنا يمكن أن نخسر معركة المواجهة العالمية حتى قبل أن تبدأ. والحق ان هذه المواجهة - صراعاً أو تعاوناً أو خليطاً من الصراع التعاون - أشبه ما تكون بمعركة مستمرة تحتاج إلى جهد كبير وإرادة صادقة لحشد الطاقات وتعبئة الموارد والتخطيط المتقن والتنفيذ الفعّال والمتابعة المستمرة. ويرى البعض أن العولمة عبارة عن خطاب يستخدم الأوجه المتعددة للخبرة الإنسانية التي أفرزها العقد الأخير من القرن العشرين، وهي أبعاد لا يمكن حسابها في إطار الدولة ذات السيادة، ومع ذلك فإن الإعلام يلعب دوراً أساسياً في تحقيق العولمة؛ ذلك لأنه الوسيلة التي تقدم العالم إلى العالم. وتنطوي ظاهرة العولمة على نوعين من التيارات الفكرية هما: النوع الأول: لا مفر من قبوله بغير تحفظ، بناء على زعم أن العولمة هي تطور من أجل صالح الإنسانية جمعاء.. ومن أنصار هذا الرأي (هارفي) الذي يرى أن العولمة تعكس التطور السريع للترابط بين المجتمعات والمؤسسات والأفراد على نطاق العالم، لكي تجعل المسافات الجغرافية (أقصر) والشعور الإنساني (أقرب)، كما أنها توسع من العلاقات الاجتماعية التي تحكم حياتنا، وتعبر بها من السياق المحلي العتيق إلى السياق الدولي الشامل. ويذهب (فوكاياما) إلى أن العولمة أصبحت ظاهرة حتمية، وهي تعتمد على ثلاثة أسس هي: تكنولوجيا المعلومات وحرية التجارة الدولية والتوسع في الأسواق الدولية.. فقد أحدثت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ثورة في التجارة الدولية، ثم حدث نوع من التكامل بين التجارة الحرة وارتفاع أداء القطاع الاقتصادي بعد التحرر من التنظيمات الحكومية، وأسفر ذلك عن فتح الأسواق العالمية، مما يُعدّ فتحاً وانتصاراً كبيراً للنظام الاقتصادي الرأسمالي الحديث. أما النوع الثاني: فيرى خلاله البعض أن العولمة نوع من أنواع العالمية استقرت له ملامح في أعقاب سقوط القطبية الثنائية بمعناها التقليدي أو في أعقاب انهيار نظام دولي قام على أيديولوجيتين متعارضتين، وهي بذلك تأكيد لفكرة أننا جميعاً أصبحنا ننسب أنفسنا إلى عالم واحد وقيم واحدة وأيديولوجية أساسية واحدة، بعد أن كان النظام الدولي السابق قائم على الهرمية.. بمعنى أن الدولة ذات سيادة وهي اللبنة الأساسية، واتصافها بصفة السيادة تعني أنه ليس هناك سلطة تعلو سلطة الدولة، وأنها في مفهوم الشرعية الدولية هي المرجع ولو من الجهة النظرية، ومع العولمة لم تعد الدولة ذات سيادة ولم تعد سيادة الدولة تحظى بحصانة مطلقة كما كان الحال من قبل.. بل أصبحت تنتهك وتخترق بطرق شتى مادية ومعنوية. والعولمة في الحقيقة هي عولمة نمط من الحياة، أداتها الرئيسية هي الشركات العملاقة متعددة الجنسيات.. وعناصرها الرئيسية ازدياد العلاقات بين الدول سواء بتبادل سلع وخدمات أو انتقال رؤوس أموال أو انتشار معلومات وأفكار.. أو تأثر أمة بقيم وعادات غيرها من الأمم.. إنها مفهوم مركب بأبعادها المتشابكة، وهي بمثابة سوق عالمية تكونت في فجر الرأسمالية ومع ظاهرة الاستعمار وما ارتبط به من تجارة دولية وتصدير ونهب للمستعمرات.. وتتحدد التعريفات العامة للعولمة فيما يلي: الأول: يرى العولمة حقيقة تاريخية أكثر منها ظاهرة اجتماعية لها بداية ما عرف بالوفاق الذي ساد بين القطبين المتصارعين (الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي السابق) وأنها - أي العولمة - أعقبت الحرب الباردة. الثاني: التعريف الذي يركز على الدولة وظيفياً باعتبارها سلسلة مترابطة من الظواهر الاقتصادية.. بدءاً من تحرير السوق وانسحاب الدول من بعض المجالات إلى توزيع الانتاج المصنع العابر للقارات من خلال التكامل بين الأسواق الرأسمالية وبعضها البعض. الثالث: يشير إلى العولمة من منظور أنها ظاهرة تمثل تقدماً في التاريخ، ترمز لانتصار ظواهر التحديث والديمقراطية كنظام سياسي.. وأنصار نظرية التحديث في الفكر السياسي الأمريكي يرون أنه وفقاً لهذا التجانس في القيم فينبغي أن يتم من خلال التمسك بمبادئ الرأسمالية الديمقراطية. الرابع: ينظر إلى العولمة على أنها ثورة تكنولوجية واجتماعية، وأنها شكل جديد من أشكال النشاط يتم فيه الانتقال من الرأسمالية الصناعية إلى المفهوم (الما بعد الصناعي) للعلاقات الصناعية.. وأصحاب هذا الاتجاه يسعون إلى تدعيم السوق الكونية الواحدة بتطبيق سياسات مالية وائتمانية وتكنولوجية واقتصادية شتى.. وهم لا يقيمون اعتباراً للأمن، بل يرون أن الأمن لا معنى له.. وأن الفضاء قد تم ضغطه عن طريق تكنولوجيا الاتصال.. وأدى إلى ظهور الاقتصاد الذي يقوم على تلاحم الشبكات المختلفة. ومن الملاحظ أن كل تعريف من هذه التعريفات الأربعة قد يلمس الواقع من ناحية معينة، ولكن من الملاحظ أيضاً أنها جميعاً يمكن أن تعد مكوناً أساسياً لتعريف واحد يدور حول العولمة، فهي تمثل حقبة تاريخية وهي تجلٍ لظواهر اقتصادية، وهي هيمنة للقيم الأمريكية، وهي أيضاً نتيجة لثورة تكنولوجية واجتماعية. الأطراف الفاعلة في العولمة تُعتبر الدولة والمؤسسات والمشاريع والمجموعات والتنظيمات الإقليمية والدولية هي أهم الأطراف الفاعلة في العولمة، حيث لكل منها دورها سواء اختارته بإرادتها أم تم إلزامها به إقليمياً ودولياً.. فلم تولد العولمة الحالية إلا بعد أن توزعت الأرض بين دول معروفة المعالم والحدود، وتركز على قدسية السيادة واحتكار العدالة والقانون والشرطة والجيش وفرض الضربية وممارسة الدبلوماسية والسياسة الخارجية. والوجه الأول للعولمة المعارضة يعتمد على الدولة وعلى مجمل العلاقات التي هي طرف فيها، سواء تمت هذه العلاقات داخل الحدود أم خارجها، حيث إن الإقليم الوطن والسكان فيه هم الذين يشكلون موقع السوق ومزاياه والفوائد المستخلصة منه، والتي تعتمد كقاعدة لابد منها بالنسبة للسوق الدولية. وخلال قرن من الزمان تبدلت معطيات (الدولة) في كل مكان باستثناء الولاياتالمتحدةالأمريكية.. ففي نهاية القرن التاسع عشر لم تكن هناك سوى العشرات من الدول التي أصبحت اليوم حوالي 200 دولة منها 184 دولة أعضاء في منظمة الأممالمتحدة، في الوقت الذي شارك في ألعاب اطلانطا الأولمبية عام 1996م ما لا يقل عن 196 دولة، وفي عام 1945م وقعت على ميثاق الأممالمتحدة 51 دولة فقط، ورغم مبدأ المساواة في السيادة بين الكل إلا أن هناك اختلافات جذرية فيما بينها، واختلافات من كل نوع، فالهند والصين تضمان 40% من سكان العالم، في حين أن 55 دولة تكاد لا تضم أكثر من مليون نسمة فقط.. وبينما هناك خمس دول تقدر مساحتها بملايين الكيلومترات المربعة، كالاتحاد السوفييتي الذي تبلغ مساحته 17 مليون كم2، وكندا التي تقارب مساحتها عشرة ملايين كيلومتر مربع، والولاياتالمتحدة 9.3 مليون كيلومتر مربع والبرازيل 8.5 مليون كم2، فإن هناك ما لا يقل عن أربعين دولة لا تزيد مساحة كل منها عن عشرة آلاف كيلومتر مربع.. وكذلك يختلف الثقل الاقتصادي والعلمي من دولة إلى أخرى، فالولاياتالمتحدة واليابان وحدهما فقط قد احتكرتا في عام 1995م ما لا يقل عن 40% من الإنتاج العالمي. لقد ولدت من العولمة منظمات غير حكومية انقلبت إلى منظمات متعددة الجنسية تبعاً لأهدافها، كمنظمة العفو الدولية والصليب الأحمر ومنظمات الخضر وحماية البيئة ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان.. إلا أن منظمات أخرى (خارجة عن القانون) قد ولدت أيضاً إلى جانبها.. مما يعني ضرورة التطرق إلى مشكلة الأمن والاستقرار بجدية أكثر في ظل العولمة؛ فقد تفاقمت مشكلات التهريب وتجارة المخدرات والأسلحة وخلاف ذلك من الأعمال غير المشروعة أخلاقياً ودولياً. وتلعب المؤسسات المالية الدولية دورها بشكل مباشر في دعم انتشار النظام الرأسمالي من خلال تعميم برامج الإصلاح الاقتصادي والهيكلي في الدول النامية التي قام بدعمها صندوق النقد الدولي، ودعم برامج الخصخصة وتشجيع حرية الاستثمارات على المستوى الدولي التي يدعمها البنك الدولي.. وخلاصة القول إن العولمة تقوم على ثلاثة أنظمة فرعية تديرها ثلاث مؤسسات دولية هي على النحو التالي: 1- نظام نقدي دولي بإدارة صندوق النقد الدولي. 2- نظام استثماري دولي بإدارة البنك الدولي. 3- نظام تجاري دولي بإدارة منظمة التجارة الدولية.