يسطر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز نماذج رائعة من العفو والتسامح في ذاكرة التاريخ بعد أن أصدر قراره الحكيم بالعفو عن بعض السياسيين، وأسأل الله الكريم أن يقر أعيننا بصدى هذا القرار لينعكس على استقرار الأمن في ربوع البلاد، هذه الأخلاق الحميدة التي اتصف بها قادة بلادنا منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز- رحمه الله- إلى وقتنا الحاضر. وإذا تصفحنا التاريخ لوجدنا نماذج أخرى كانت سبباً - بعد توفيق الله - في انتشار الأمن وتحقيق الطمأنينة، فقد وهب الله تعالى الملك عبدالعزيز صفات حميدة جعلت منه نموذجاً للحاكم المسلم في الحرب والسلم في فترة من أخطر الفترات التي مرت بها الجزيرة العربية في العصر الحديث، ويمكن ذكر نماذج من عفوه وتسامحه في أثناء توحيد البلاد. موقفه من أهل الرياض في عام 1318ه سار عبدالعزيز بن عبدالرحمن إلى الرياض يريد فتحها، فتصدت له حامية الأمير ابن رشيد فقاتلها ودخل البلدة، ولجأت الحامية إلى المصمك. ثم وصل الخبر إلى عبدالعزيز من والده يأمره بالعودة، فترك الرياض وعاد إلى الكويت، ولم يكن رجال الأمير ابن رشيد وحدهم المواجهون لصد الملك عبدالعزيز، بل كان فيهم من أهل الرياض من خافوا انتقام الأمير ابن رشيد منهم، وأصيب عبدالعزيز بجرح في يده من رصاصة(1). وفي العام التالي دخل عبدالعزيز الرياض متسللاً في جنح الظلام ومعه قرابة أربعين رجلاً ثم اتجهوا إلى بيت أمير الرياض وتسلقوا السور فلم يجدوا صاحبها الذي كان ينام في المصمك، فبقوا طوال الليل في بيته. ومع شروق الشمس وعندما حاول أمير الرياض الدخول إلى بيته تصدى له عبدالعزيز ورجاله ووقعت معركة عنيفة تمكن عبدالعزيز من قتل أمير الرياض. وتحصن عشرون من رجاله فأمر عبدالعزيز بإلقاء القبض عليهم. واستفاق أهل الرياض وعلموا أن أميرهم قد قُتل، فأخذوا ينتظرون مصير أبنائهم الذين وقعوا في الأسر، وماذا سيحصل لهم؟ وهل جاء هذا الحاكم الجديد المزهو بالنصر، والذي يبلغ من العمر 26 عاماً، كي ينتقم منهم ويصفي حسابات سابقة بسبب وقوفهم ضده في العام الماضي. لكن الملك كان ينوي استعادة ملك آبائه وأجداده، ويعلم أن هناك قوى خارجية ستتصدى له، وهو الذي عاش في الكويت، وعرف أطماع القوى العظمى آنذاك، ولكي يحافظ على تماسك الجبهة الداخلية، أصدر قراره بالعفو العام، هنا جاءت المفاجأة يوم علم أهل الرياض أن الحاكم الجديد قد عفا عن أبنائهم الذين شهروا السلاح ضده، فجاءوا في الأيام التالية مهنئين مبايعين والفرحة تغمر قلوبهم. موقفه من جنود الأتراك الخطوات التمهيدية التي اتخذها الملك عبدالعزيز لتوحيد الأحساء في عام 1331ه تؤكد حرصه على الوصول إلى قلوب العباد قبل الوصول إلى البلاد. وهذا مما جعل بعض المفكرين أن يعتبر هذا الفتح من أعظم إنجازات الملك عبدالعزيز(2). إذ اتفق في البداية مع إحدى البوادي - الذين عُرفوا بالسلب والنهب(3) - وأمرهم بالسير إلى الشمال للحرب حتى يُبعدهم عن ميدان المعركة، وفي تلك الأثناء تلقى كتاباً من المتصرف العثماني في الأحساء يسأله عن سبب مجيئه فأجاب الملك: إن قصدي شراء الأمتعة والزاد(4). ثم أمر رجاله بالتسلل ليلاً وقال لهم: إنا هاجمون على الترك في الكوت (قلعة في الأحساء) وإننا منتصرون بإذن الله، فحاربوا من حاربكم ووالوا من والاكم(5). وعندما حاصروا جنود الأتراك بعث الملك إليهم رجلاً قال له: قل لهم يسلموا إذا كانوا يبغون العافية، ونحن نؤمنهم ونرحلهم إلى بلادهم. أما إذا أبوا فليستعدوا للقتال فسنهاجمهم في مراكزهم(6)، وعندما استسلمت الحامية التركية أعطى رجالها الأمان ورحلها إلى بلادهم، وكان عددهم ألف ومائتا جندي وقال: لا ننزع من الجندي العثماني سلاحه، أما المدافع والذخائر فتبقى مكانها في الحصون(7). عندما رأى أهل الأحساء ما فعل الحاكم الجديد بالجنود الذين شهروا السلاح ضده، وما أعطاهم من الأمان جاءوا في الأيام التالية يبايعون ويهنئون فرحين مسرورين، ولم يكتف الملك- رحمه الله- بهذا القدر من المعاملة الحسنة بل كتب إلى الدولة العثمانية يبرر دخوله الأحساء فجاء الرد من تركيا: إن والي البصرة تلقى برقية من عاصمة آل عثمان تتضمن الموافقة مع الشكر لابن سعود وتسميته والياً بنجد ومتصرفاً للأحساء، وإهداؤه النيشان العثماني الأول ورتبة الوزارة(8). موقفه من إحدى البوادي كان لإحدى البوادي مواقف سلبية مع الملك عبدالعزيز، منها أنهم تراجعوا خيانة وهم يصيحون صيحة الانهزام(9) في إحدى المعارك ضد خصمه الأمير ابن رشيد في شهر ربيع الأول من عام 1333ه، وكذلك تعديهم على قوافل التجارة وبعض العشائر(10). وانتصارهم على الملك وجرحه ومقتل أخيه سعد في نفس العام،مع كل ذلك لم ينتقم منهم، ولم يتوعدهم عندما جاءوا إليهم وتعهدوا بالانقياد له ففا عنهم، وأعادهم إلى مواطنهم السابقة بعد أن كانوا هاربين إلى العراق، وهذا مما جعل أكثرهم ينظم إلى حركة الإخوان في عام 1337ه. موقفه من بعض الإخوان تعتبر حركة الإخوان من أعظم الحركات الإسلامية في العصر الحديث حيث بلغ عدد رجالها في يوم من الأيام 76.500 مقاتل(11) تقريباً، ولكن عدد الذين خرجوا على الملك في موقعة (السبلة) في عام 1347ه بلغ أربعة آلاف مقاتل(12)، ولكن بعد انتهاء المعركة، استشار الملك العلماء في مصير من جاء تائباً منهم فقال العلماء(13): (من محمد بن عبداللطيف، وسعد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبدالعزيز، وعبدالله بن حسن، وعبدالعزيز بن عبداللطيف، وعمر بن عبداللطيف، وعبدالرحمن بن عبداللطيف، ومحمد بن ابراهيم إلى من يراه من المسلمين. أما بعد: فقد سألنا الإمام المكرم عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل- حفظه الله -عن حكم من جاء تائباً من هذه الطائفة الخارجة عن سبيل المؤمنين، هل تقبل توبته أم لا؟ فنقول: إذا جاء تائباً قبلت توبته، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (سورة الشورى 25). عندئذ أصدر الملك قرار العفو جاء فيه (14): (من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل، إلى من يراه من كافة إخواننا المسلمين، سلمهم الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد. بارك الله فيكم. العمل على نصيحة المشائخ جزاهم الله خير الدنيا والآخرة) إلى أن قال (أما القسم: الذين صار منهم ما صار، من مخالفة الولاية والعلماء، فمن تاب منهم وأقلع عن ذنبه، وأقر به، ووالى المسلمين الذين عادوه في ذلك، وجانب أهل الشبه، فهذا حاله حال إخوانه المسملين..). يتضح لنا مما سبق أن العفو والتسامح من الصفات التي اتصف بها الملك عبدالعزيز فاستطاع بتوفيق الله الوصول إلى الوجدان قبل فتح البلدان، وحفظ الجبهة الداخلية من الشحناء والبغضاء، وفوت الفرصة على الأعداء المتربصين بالبلاد في الخارج. فلله الحمد والمنة. 1- خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة، ج1، ص76 . 2- محمد جلال كشك، السعوديون والحل الإسلامي، ص 338 3- خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة، ج1، ص203 4- أمين الريحاني، تاريخ نجد الحديث، ص205 5- المصدر السابق، ص 208 6- أمين الريحاني، تاريخ نجد الحديث، ص210 7- المصدر السابق، ص210 8- فؤاد حمزة، قلب جزيرة العرب، ص378 9- أمين الريحاني، تاريخ نجد الحديث، ص222 10- عبدالله العثيمين، تاريخ المملكة، ص151 11- أمين الريحاني، تاريخ نجد الحديث، ص456 12- إبراهيم آل عبدالمحسن، تذكرة أولى النهي، ج3، ص204 13- عبدالرحمن بن قاسم، الدرر السنية، ج9، ص200 14- عبدالرحمن بن قاسم، الدرر السنية، ج9، ص202