تناول الحديث في الحلقة السابقة عن القطوف الدانية لجائزة الملك فيصل العالمية إنجازات الفائزين بهذه الجائزة في فرع الطب، وموضوعها- هذا العام- أخطار التبغ على صحة الإنسان، وتدخين التبغ آفة كبرى ابتلي بها الكثيرون في العالم، وعادة سيئة راحوا يمارسونها على حساب صحتهم ومالهم، ومن المؤسف أنها بينما أخذت تقل في المجتمعات المتقدمة تقنياً، نتيجة التوعية الجادة، وتطبيق الأنظمة الحازمة، لم تقل- إن لم تزد- في مجتمعات الدول النامية، ومنها الدول العربية والإسلامية. وموضوع الجائزة في فرع الدراسات الإسلامية: (الدراسات التي تناولت دفاع المسلمين عن ديارهم في القرنين الخامس والسادس الهجريين). وقد فازت بها البروفيسورة كارول هيلينبراند البريطانية الجنسية، أستاذة التاريخ الإسلامي بقسم الدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة ادنبرا الاسكتلندية المشهورة. ومدينة ادنبرا، عاصمة منطقة اسكتلندا السياسية، مدينة جميلة ذات تاريخ عريق، غنية بتراثها، عظيمة في حفاظها على موروثها، ومن مظاهر هذا الحفاظ عليه إقامة مهرجان صيفي سنوياً، من بين وجوه نشاطه إحياء فن أهلها التقليدي، مظهراً وأداء. أما جامعة ادنبرا فذات شهرة عالمية، وبخاصة في مجال الطب، واهتمامها بالدراسات المتصلة بالإسلام اهتمام راسخ الجذور من بين ملامحه أن تدريس اللغة العربية فيها بدأ منذ أكثر من قرنين ونصف القرن. وقد طبع هناك كتاب كرايتون: تاريخ جزيرة العرب القديم والحديث سنة 1833م. وكان لكاتب هذه السطور فرصة في أن يكمل دراسته العليا في جامعة ادنبرا حيث نال شهادة الدكتوراه سنة 1392ه -1972م. وقد كان أحد المشرفين على رسالته السيد وولش رئيس شعبة الدراسات التركية، وثانيهما المستشرق المشهور البروفيسور مونتجومري وات، الذي ألف كتباً عديدة عن الإسلام، ديناً وتاريخاً وحضارةً، ومن بين هذه الكتب: محمد في مكة، ومحمد في المدينة، ومحمد، نبياً ورجل دولة، وتأثير الإسلام على أوربا في العصور الوسطى، وتاريخ أسبانيا الإسلامية، والفكر السياسي الإسلامي، والإسلام وتوحيد المجتمع. وماذا عن الادنبراوية الفائزة بجائزة الملك فيصل العالمية في فرع الدراسات الإسلامية، البروفيسورة كارول هيلينبراند؟ ما كنت لأستطيع أن أكتب عنها ما أكتبه، هنا، لولا مساعدة أخي وزميلي البروفيسور منصور فارس، فله مني الشكر الجزيل، والمتأمل في سيرتها الغنية بالعطاء العلمي الرفيع يجد أنها كانت مهتمة- منذ مطلع شبابها- بدراسة اللغات، فدرست، في جامعة كمبردج، الفرنسية والألمانية واللاتينية. وهذا ما ساعدها في الحصول على وظيفة إدارية في وزارة الطيران البريطانية. وبعد زيارة للمنطقة العربية وما جاورها وجدت نفسها مندفعة الى تعلم لغات أهالي تلك المنطقة. فعادت إلى مقاعد الدراسة، وتعلمت العربية والتركية حتى أجادتهما، وشاء الله أن تتزوج من روبرت هيلينبراند، العالم المشهور في تاريخ الفن والعمارة الإسلامية، فسافرت معه- أواخر الستينيات من القرن الماضي- إلى إيران حيث مكثا عاماً هناك، بحث هو خلاله الفنون والنقوش والمنمنمات الإسلامية وتصميم المساجد والمدارس القديمة، وتعلمت هي اللغة الفارسية، وتعرفت على أنماط حياة المسلمين وأفكار علمائهم القدامى أمثال أبي حامد الغزالي، ونتج عن ذلك أن شغفت بحضارتهم شغفاً كبيراً. فعادت إلى مقاعد الدراسة في جامعة أدنبرا، التي سبق أن أشير الى بداية تدريس اللغة العربية فيها قبل أكثر من 250 عاماً كما أشير الى مكانة البروفيسور وات في مجال دراسات الإسلام. ثم عينت محاضرة في تلك الجامعة تدرس العربية والتاريخ الإسلامي، وبقيت فيه حتى منحتها الجامعة كرسياً خاصاً في هذا التاريخ، وقد ساعدها جمعها بين تخصصها فيه وتمكنها من إجادة عدة لغات- منها العربية والفارسية والتركية- على امتلاكها ميزة فريدة جعلتها تتناول التاريخ الإسلامي من منظور أكثر شمولاً وعمقاً معتمدة على مصادر كثيرة متنوعة. ولقد رأت البروفيسورة هيلينبراند ان ما نشر عن تاريخ الحروب الصليبية في أوربا كان من وجهة نظر أوربية، وهذا ما أوجد لدى كثير من الغربيين نظرة غير منصفة إلى الإسلام والمسلمين، وما زالت هذه النظرة سائدة لديهم الآن، ولذلك أخذت تبحث في تاريخ الإسلام بموضوعية وحياد، وظلت طوال العشرين سنة الماضية تلقي محاضراتها وتبدي نتائج دراساتها المتعلقة بتاريخ الحروب الصليبية وذود المسلمين عن ديارهم في الجامعات والمؤتمرات في أمكنة متعددة من بريطانيا، وفي اقطار أخرى بينها الولاياتالمتحدةالأمريكية وبلجيكا وايطاليا وألمانيا والبرتغال، اضافة الى عدد من الجامعات العربية في مصر وسوريا والأردن واليمن وفلسطين المحتلة. وقد ألقت سلسلة من المحاضرات في أوربا وأمريكا عن تاريخ القدس وعن الإسلام والفكر الإسلامي. ومن تلك المحاضرات: (انتشار الإسلام في أواسط آسيا)، و(الفنون الإسلامية في سوريا والجزيرة)، و(الخليفة أبو بكر)، و(دور الجغرافيين العرب القدامى)، و(صلاح الدين الأسطورة)، و(أمجاد بيت المقدس) و(فكر الغزالي الإسلامي)، و(رأي المسلمين في القادة الصليبيين)، و(قصة مجهولة عن الحروب الصليبية)، وكثيراً ما كانت تلقي محاضراتها باللغة التي يتكلم بها الحاضرون. ولم يقتصر نشاط البروفيسورة هيلينبراند على إلقاء محاضرات في المؤسسات الأكاديمية، بل امتد الى أجهزة إعلام متنوعة، ومن ذلك أنها ساهمت بدور رئيس في برنامج من ثلاث حلقات قدمه التلفاز البريطاني بعنوان: (الإسلام دولة الإيمان)، وفي برامج إذاعية من عناوينها: (عصر بغداد الذهبي)، و(القدس مدينة الديانات الثلاث)، و(ماذا لو انهزم الصليبيون في حربهم الأولى؟)، و(الحرب الصليبية ما زالت مستمرة). ومما قامت به البروفيسورة هيلينبراند ترجمة ما دونه الطبري في تاريخه عن الأمويين، وتأليف كتاب انحسار الخلافة الأموية، وكتاب قيام دولة الأرتكيين والحروب الصليبية، وتعكف حالياً على إصدار كتاب تتناول فيه سير عدد من قادة المسلمين الذين لم يرد التاريخ عنهم شيئاً كثيراً خلال الحروب الصليبية، كما تقوم هي وزوجها بترجمة كتاب جامع التواريخ لرشيد الدين، وتعد ترجمة لكتاب الغزالي كيمياء السعادة. على أن ذروة إبداع البروفيسورة هيلينبراند في مجال البحث التاريخي هي كتابها القيم الحروب الصليبية: رؤى إسلامية، الذي أصدرته مطابع جامعة ادنبرا، وهو سفر يقع في 648 صفحة تدعمها مئات المراجع وأكثر من 540 صورة وشكلاً توضيحياً، وكان هدفها الأساسي من إصداره تحقيق توازن في النظرة إلى تلك الحروب، ذلك أن الدراسات والكتب، التي نشرها الغربيون على امتداد القرن الماضي عن الحروب الصليبية، اقتصرت على رؤيتهم لها. وقد ساعدها على تحقيق هدفها تمكنها من اللغة العربية والفارسية والتركية، فلم تدرس عدداً كبيراً من المخطوطات الإسلامية والعربية القديمة فحسب، بل قامت، أيضاً، بدراسة العشرات من الرسائل والأشعار والخطب والنقوش والمواعظ الدينية الخاصة بتلك الفترة، إضافة الى البحوث الحديثة، وعكس كتابها للقارئ الغربي ما خلفته تلك الحروب من أثر في الماضي والحاضر على العالم الإسلامي، عسكرياً وثقافياً ونفسياً، وقامت بشرح جهاد المسلمين حتى استردوا أرضهم وأخرجوا الصليبيين منها، كما أفردت فصولاً كاملة في كتابها للحديث عن أنواع التسليح والتحصينات والخطط الحربية والمعارك وفق ما وجدتها في الكتابات والنقوش التي درستها، وتناولت كذلك العلاقة المعقدة بين المسلمين والغزاة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وما خلفه كل ذلك من أثر في الضمير الإسلامي حتى يومنا هذا. وكان من البدهي أن يسوء ذلك الكتاب الصادق الدقيق حفنة من الحاقدين على الإسلام، فلم يتورعوا عن اتهامها بالتبعية لمن أسموهم (أسيادها المسلمين)، على أنها رأت ذلك الاتهام وساماً على صدرها، وأسعدها ما نشرته عنها وعن كتابها عشرات المجلات العلمية المرموقة في مجال تخصصها، ومن ذلك ما جاء في مجلة الدراسات الإسلامية التي تصدرها جامعة أكسفورد بالتعاون مع جامعة ستانفورد، وهما من أعظم جامعات العالم، إذ قالت عن الكتاب: إنه كتاب عظيم وكنز غالٍ، لما فيه من ثروة معلومات لم يكن لأحد في الغرب أن يعرفها بدونها).