إننا لا نحتاج إلى زرقاء اليمامة كي تبصر لنا الحقيقة الواضحة، فالحياة لو علمت ما المحاورة لاشتكت، فهي تيارات عاتية. على الإنسان أن يعرف حقيقة الدنيا فهي بطبيعتها غرتنا واستلهتنا. ومن هنا نجد شاعر الشكوى مقبل العيسى يكشف لنا بشعره عن أرجل تسير خبط عشواء في هذه الحياة، وعن أيد تعركنا عرك الرحى، وبذلك يخرج لنا بأدب مؤثر في المتلقي، فقد كثر في شعره الشكوى من مشاعر الذات من حب وكره وفرح وحزن، ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن مقبل العيسى شاعر الشكوى في المقام الأول، وهذا واضح من الأسماء التي اختارها لتكون عنوانا لديوانيه (غربة الروح) و(الهروب من حاضر) فالشاعر في هذين الديوانين يعبر عما يختلج في ذاته، وفي دواخلها الحميمة من مشاعر تجاه موقف معين. ومن خلال قراءة دواوين الشاعر أجد أن موضوعات شعره جلها تحكي عن عاطفة ذاتية تتألق في أسلوب شاك، فقد كثرت في شعره الموضوعات الإنسانية، ومناجاة المرأة بصورة عفيفة، والشكوى من الغربة ومن قضايا العالم الإسلامي، وكل ذلك ينم عن عاطفة نبيلة تتجلى في النفس البشرية المرهفة، وجوانب الشكوى عند مقبل العيسى هي: أ- الشكوى من الغربة هذه بعض الأبيات من قصيدة (غربة الروح)، التي عبر فيها عن مدى الغربة التي قاساها بعيداً عن بلاده، ويظهر فيها الحنين والشوق إلى جنبات الوطن: يا مجال النور في أسمى ربوعي ومناراً للهدى بين الجموع كل يوم مر بي في غربتي عن دياري أرتجي فيه رجوعي فإذا أبصرت في الفجر السنا من خلال الشرق أسبلت دموعي وإذا لاحت لعيني روضة خشعت من نشوة الحب ضلوعي فالرؤى أحلى الرؤى في خاطري بين محراب ومثوى لشفيعي ليت لي ألف جناح أمتطي لرحاب الوحي والمجد الرفيع يا بلاد الخير هل من عودة فاحتدام الموج قد أوهى قلوعي (1) ويبدو القلق واضحاً على الشاعر، لأنه يعيش غربته في توهج عاطفي، وحالة توتر نفسي، وها هو في قصيدة (لا تعجبي) تبدو الشكوى متوهجة حزينة. قلبي الذي شد الأسى أوتاره قربان كل متيم ومعذب فإذا لمست تجهماً فسلي الدجى وإذا عرفت أساي لا تتعجبي أنا إن أكن متجهماً فلأنني في غربة من دهري المتقلب ماذا أرى دنياي كهف مشاعر شرقت بكل ضغينة وتحزب (2) وفي أكثر الأحيان تكون شكوى الشاعر من الغربة الروحية، ومن هنا بدأ يسأل نفسه هذا السؤال: فلماذا أعيش منطوياً أجتر همومي وشجوني فالأرض تدور من أزل بوجودي حتماً وبدوني (3) وقد صور تجربة حب مرتبطة بالغربة المكانية بقصيدة هاربة من الحياة إلى الشكوى المريرة: أذهلتني يا ناعس الجفون يا ساحر المحيا والعيون يا طلعة خمرية بأرض ما أنجبت سمراء من قرون تشبهك الثريا من بلادي في رقة الأعطاف والفتون غريبة وموطني سماء مكرس للحب وللفنون (4) ومن ثم راح يشكو لمحبوبة غربته، فأخذ يخاطبها ويشكو لها، حتى أعياه البحث وأضناه: لقد بحثت عنك كل حين.. لأشتكي إليك.. غربتي.. وحيرتي.. والشك.. واليقين لكن البحث عنك.. طال.. كالبحث عن معالم الطريق في الرمال.. كالبحث عن محال (5) ب- الشكوى من الزمن لم تكن شكوى مقبل العيسى كغيره من الشعراء فقد كان يحس دائماً بالتحول من العيش الرغيد إلى حياة البؤس، وكلما عاش يومه في الصبر على المصائب انتظر الغد في غاية القلق، والشكوى عند مقبل العيسى تنطلق من الشكوى من الزمان بصفة عامة، فهو في نداء دائم وعتاب للزمن الذي سلب منه كل شيء، وهذا أنموذج شعري يبين شكواه من الزمن: لست بالشاكي جراحي يا زمان فكلانا للتباريح يدان لا ولا أشكو جراحي في الهوى فهوى نفسي أنا منه مدان أسلمتني للجراحات يدي؟ آه من جورك يا هذا الزمان (6) ومن نداء الزمن إلى مناجاة القلب في قصيدة (نجوى قلب) التي جاءت بنبضة قوية تصور الحياة ومتاعبها: يا قلب هل تصفو الحياة لشاربٍ فالناس من فجر الحياة ضماءُ نلهو وما ابتل الأوام ولا الصدى قد خف من قدم ولا الإغراء عطشى إلى خمر الحياة وما ارتووا فكأن كأس الشاربين خواء (7) وقوله: يا قلبي الشاكي هل أنت تبكيني أم أنني الباكي في ظل خمسيني فالوقت يا قلبي قد بات يطويني (8) ونراه ينهج منهج القدامى في الشكوى من الشيب: والشيب يسلبني أغلى رياحيني فأين لي جلد والضعف تكويني وأين لي نشبٌ والطبع يغويني (9) مقبل العيسى يمزج في كثير من الأحيان شكواه بالتأملات، فتارة يرتمي في أحضان الطبيعة ويجعلها وسيلة لشكوى الزمان وصخب الحياة، وتارة أخرى يشق جدران الحياة للبحث عن مأوى يهرب فيه من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. وكثيراً ما فر الشاعر إلى الخيال والأحلام، كي يخرج من حدود اليوم والأمس والغد، وأبعادها القاتمة. وهذه قصيدة يحكي فيها الشاعر عن الدنيا التي إن أضحكته لحظة من عمرها، سرعان ما أبكته سنين طويلة. دنياي يا دنياي الخنا جاهري بالكيد لي إن شئت أو فاكتمي لا تبسمي دنياي بل كشري حسب ابتسام من فم ملهم (10) ثم يثبت قائماً مخاطباً الدنيا، لأنه عرف حقيقتها قائلاً: ما همني دنياي أن تبسمي للعطر من كفيك لن أرتمي منك الشذى زيفٌ وظني به ما حيك للعصفور من أرقم دنياي منك العطر قيدٌ ولن أرضى بذل القيد في معصمي (11) ج- الشكوى من الحظ لقد تشبع مقبل العيسى من موضوع الشكوى، وتغلغل في أعماقه، فحين نقرأ أبياته الشاكية، سرعان ما نشعر بمدى النبرة الحزينة التي لونت حياته بلون أسود، فكثير من أبيات قصائده تحكي عن المقادير في الحياة وما آلت إليه من حياة مريرة، وطبيعة حظه الذي حرمه من نشوة الحياة وعبيرها، وجعله ينظر إلى كل شيء نظرة الشكوى، ها هو يناجي عصفوراً ويجعل من قفصه قيدا وسجنا: قدرٌ قد رماك في الأسر والطير طليقاً في عشه يتغنى فالذي قد رماك في القيد حظ مثل حظي من قسوة يتجنى ليت شعري يا بلبل الروض حقا ما الذي تبتغيه الحياة منّا (12) وقوله: أخت الشذى قد زدت من ألمي بدموع عين حلوة نجلاء هذا الشقاء وجوده قدرٌ والنصر من بعد الشقا أغلى (13) ونبرة الشكوى واضحة حتى في غزلياته، كما في قوله: هو حظٌ في هواك مثلما كان حظي عاثراً ما أحسنا فالمقادير أرادت أن أرى مصرع الحب الذي قد ضمنا (14) وبذلك تولد عند الشاعر الحزن واليأس، وأصبحت الحياة لديه صدمات قاسية يعاني منها ويسجل المعاناة في شعره. وفي قصيدة أخرى ينادي الإنسان الشاكي، ويخفف من وطأة الشكوى لذلك الإنسان، ويبين طبيعة الحياة بهمومها التي حرمته حتى من الابتسام. أيها الشاكي من الحظ صدوداً واستحاله طبع دنياك إذا فكرت ظلم وعداله يا صديقي اخترت في ما تشتكي منه اعتلاله (15) ومن ثم نراه يستسلم للحظ مرغماً: فابتسم للعيش واشرب كأسه حتى الثمالة لا تقل عذب الأماني صار في كأسي حثالة من له في الكون حظ لم يمت حتى يناله (16) وفي قصيدة أخرى نرى الشاعر كيف يعزف عن ملذات الحياة، ويستجيب للقدر، في قصيدته (قتل العبير): يا أيها.. الأسى.. عز الدواء.. فدعني.. إن.. لي قدراً ستستجيب له.. كالطفل.. أنفاسي..!! آمنت.. أن الذي يحيا إلى أجل لا ينتهي.. وله عودٌ إلى الكاس..!! (17) وتلاحقت الهموم وما زال مقبل العيسى يتجرع الآهات: غُصة إثر غصة أيها النفس وما زلت حائراً ما مصيري غير أن القضاء يا نفس يأبى لي ابتساماً ولحظة من حبور كلما قلت سوف أبدي ابتساما لحياتي رغم انتفاء السرور (18) ويحاول الشاعر أن يزرع الأمل في نفسه، ويعلن الهوى الذي اكتوى به قلبه، ولكن الشكوى تلاحقه أنى اتجه، وسرعان ما يشرق كأس الهموم الذي أترع بالألم: يا أيها الأقدار حسبي أنني من كف ربعي قد شرقت بكأسي فالشاعر المحروم من عطر الهوى دوماً يكابد في الهوى ويقاسي يا ليت قلبي كالجلامد قاسي يشقى الفؤاد برقة الإحساس (19) هذه صفحات الشاعر المشرفة في شعر الشكوى، فحريٌ بنا أن نضعها متناً جميلاً لكل من سخط من حظه وحياته، فهو ذلك الأديب المسلم الذي وإن أظهر الشكوى وتبرم، فهو لا يسخط من القدر بشعره، ولم نعهد ذلك في أبياته. رحمك الله - تعالى - من أديب قدم أدباً ضخماً نافح به عن قضايا شتى، وتغمدك الله - تعالى - بمغفرته، وأسدل على جسدك الطاهر الرحمة. الباحثة: نوير بنت عبد الله خلف العنزي الدراسات العليا - قسم الأدب جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الهوامش (1) ديوان غربة الروح، ص 31 (2) ديوان الهروب من حاضر، ص 30 (3) المصدر نفسه، ص 54 (4) المصدر نفسه، ص 78 (5) ديوان غربة الروح، ص 98 (6) المصدر نفسه، ص 54 (7) ديوان الهروب من حاضر، ص 29 (8) ديوان غربة الروح، ص 23 (9) المصدر نفسه، ص 146 (10) المصدر نفسه، ص 190 (11) المصدر نفسه، ص 191 (12) المصدر نفسه، ص 241 (13) المصدر نفسه، ص 25 (14) المصدر نفسه، ص 59 (15) المصدر نفسه، ص 68 (16) ديوان الهروب من حاضر، ص 34 (17) المصدر نفسه، ص 201 (18) المصدر نفسه، ص 40