الشاعر الموهوب ملكةً فنيةً وذوقاً يشبه النحلة التي لا يروقها من جمال الأزهار إلا امتصاص رحيقها؛ لتحيله، بالتالي، وبقدرة وإرادة خالقها إلى {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}. لقد أحسنت صحيفة (الرياض) صنعاً حينما نبّهت القراء من خلال ملحقها الثقافي يوم الخميس الماضي إلى وفاة الشاعر مقبل العيسى الذي انتقل إلى رحمة الله بصمت مطبق.. لم تشر إليه أية صحيفة أو مجلة أخرى - فيما أعلم. وجاء ذلك التنبيه في نصي مقالين أحدهما للأستاذ الدكتور أحمد الضبيب بعنوان (مقدمة القصائد)، والآخر (مقبل العيسى شاعراً) للأستاذ الدكتور سعد بن عيد العطوي. فللأستاذين الفاضلين ول(الرياض) فضل السبق بفعل ما لم يفعله الآخرون حيال التذكير به ولو بعد رحيله. وقد اختارت الجريدة له أربع قصائد.. ربما قصدت بها إعطاء القارئ (تصبيرة) أو ما كنا نسميها في نجد (لهافة).. وهي القليل من الأكل لإطفاء لهب الجوع حتى تحين الوجبة الكاملة! أعني قراءة جميع شعره. *** ومن أهمّ قصائده وأكثرها حراكاً نفسيًّا.. وحنيناً عاطفياً - مع ما فيها من تراكيب تقليدية للقصائد الكثيرة التي قيلت في نجد من قديم الزمان وحديثه - قصيدته (حنين إلى نجد) التي يقول فيها: غرامي والهوى لربوع نجد وهل يحلو الثرى في غير نجد؟ وشوقي للصَّبا فيها وليل يجود بنفحة وهزيم رعد ربوع كان لي فيها ملابٌ لدى شيح وقيصوم ورند لدى زهر الأقاح وقد تَوَشّتْ به الكثبان في سبح ووهد ولا بد هنا من توضيح الكلمتين (سَبْح) و(وَهْد) فالسبح يراد به الفراغ من مشاكل الحياة؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}(المزمل - الآية7). وأما (الوَهْد) فهو المكان المطمئن (مختار الصحاح - ص 738). وفي قصيدته هذه، وهي من غرر شعره، الشيء الكثير من الغنى التعبيري وتجسيد الصورة المتخيلة في ذهنه عن أرض ولد على ترابها ونيطت بها عليه تمائمه!! كما عبر ذلك الأعرابي القائل: (بلاد بها نيطت علي تمائمي وأول أرض مَسّ جلدي ترابها) ولكنه لم يعش في بلدته التي ولد بها (عنيزة) عام 1349ه فقد اقتضت حياة أسرته أن يتنقل معها بين مكة والمدينة وينبع. وهذا ما خلق عنده فراغاً شعورياً ظهر في إحساسه بأنه لم يتمتع بما تمتع به أترابه من نفح الصبا، واصطلى جمر الغضا؛ وامتاع العين والهوى بشميم عرار نجد، ورياضها الغناء. جميل أن نعايش الشاعر في واقعه الذي أشار إليه بقوله: بنفسي من هوى نجد جذور روت عشقي وأشقتني بصدّ فكم عانيت من عشقي ابتعاداً وجرح القلب من صد وبعد وقلبي عاشق ما حَنّ إلا لنيل شمائل وعطاء مجد فيا ليَ من صدى نجد ويا لي من الإقفار والزمن الألد تذكرت الحياة بها فأدمى جروحي البعد عنها والتحدي وطالت غربتي عنها.. لأشقى بإعصار الحياة المستبد فكنت الكف لم يظفر بعطر وكنت السيف لم يهنأ بغمد *** للشاعر مقبل - رحمه الله - بعض قصائد أو أبيات من قصائد.. فيها ظاهرة التأثر الفكري بالتساؤلات التي يطرحها بعض (المتفلسفين) من الشعراء المهجريين وغيرهم بإلحاف عن سر وجوده في هذه الحياة.. وشيء من التبرم بهذا الوجود.. كما شاع في قصيدة (إيليا أبو ماضي) (لست أدري). وشاعرنا العيسى لا يؤمن بالتساؤلات الملحفة التي يؤمن بها أبو ماضي وأمثاله.. ولكنه - أي العيسى - تساءل تقليداً لا إيماناً بها.. فهو معروف بصلابة دينه وقوة إيمانه. وخير للمسلم في دينه ترك التساؤلات عن المغيبات غير المدركة عقلاً والخوض فيها، وعلى حد قول عمر بن الخطاب ودعائه - رضي الله عنه - (اللهم إيماناً كإيمان العجائز)؛ أي التسليم لله بما قضاه وقدره على خلقه في حياتيهما الدنيا والآخرة، على أن ميزة الشاعر مقبل أنه يطرح بعض التساؤلات ثم يرد على نفسه بصدق إيمانه بالله وقضائه وقدره قائلاً: فقلت تعاليت يا خالقا من الطين عقلا قوي الذكاء أغثني بنور يضيء الفؤاد فإني من كل زيغ.. براء أعدني إلى النور يا خالقي إليك إلى لحظة من صفاء رحم الله الشاعر الإنسان الخلوق مقبل العيسى وجبر الله مصيبة أهله وذويه ومحبيه و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }.