ومن قواعد النقد والمراجعة حسب اقتضاء قواعد الشريعة ونواميس العدل أن يتمتع الناقد بقدرة في التحكم بنفسه ومزاجه. حينما نكتب أو نتحدث في موضوع ما - دون أن يكون هذا الموضوع رداً أو مراجعة لشخص - نتمتع غالباً بهدوء، وقدرة على التصرف المسؤول، لكن حينما نكتب رداً أو نقداً أو مراجعة لشخص ما - ولا سيما إن كان حياً - فإننا نكون أمام تحدي النفس التي تمارس مطالبة للتدخل في صياغة هذه الورقة الناقدة أو المراجعة. ويتم تخصيب إيحاءات النفس، وترددات المزاج، وإملاءات الطباع البشرية، لتكون أكثر حضورية في هذه المناسبات. ليس المراد من هذا التصور رفض منهج الرد والنقد والمراجعة؛ فهذا عجز عن تجاوز المشكلة، لكننا نقصد إلى ضرورة الإدراك لهذه المعاني، والتعامل معها بوعي. حسب التقدير الاجتهادي - الذي هو استقراء في سير العلماء - ليس من النقد العادل أن ننبري لجمع وتصنيف السقطات لعالم، أو داعية له قدم صدق في الأمة. إنَّ هذا ينتج إفساد الرؤية، وتسامي النفس، والشعور بالتعالي النفسي، والاختصاص عند الناقد ومستمعيه. ليس من منهج النقد الصحيح تتبع الشاذة والفاذة في حق عامة الناس، فضلاً عمن له قدم في العلم والجهاد؛ فهذا من تتبع العورات، وهو يقود إلى نتيجة في ذهن الكثير، هي: أن فلاناً جملة من الغلط والسقط، وقد قيل لعثمان: إن قوماً اجتمعوا على سكر ولهو وقصف، فجاء إليهم فوجدهم قد تفرقوا، فحمد الله وأعتق رقبة. وفي سنن أبي داود، من حديث معاوية مرفوعاً قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع عورات المسلمين، فإنك إن فعلت أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم)، قال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها. فهذا الحديث النبوي يشير إلى حكمين: أحدهما: أن تقرير منهج التتبع والملاحقة، وتربية الناس على سلوكه يوجب تسليط الأمة بعضها على بعض، فيتكلم من يعرف ومن لا يعرف، ومن يعدل ومن لا يعدل. الثاني: أن تتبع العورات والسقطات يفسد الحال، فإن بني آدم خطاء، فتكون نتيجة التتبع: الحكم بفساد صاحب هذا السقط والغلط، وتتربى النفوس على البحث العفوي عن العثرات وحشدها وتصنيفها. ومن هذا الإرشاد النبوي ينبغي في القراءة النقدية ومراجعة التصحيح أن تقرأ الأخطاء دون إلحاح ونهم في الجمع والتتبع، والمعتبر في التصحيح والرد ما انضبط وخالف أصلاً دون ما كان اجتهاداً ونظراً يقبل الأخذ والرد. ومن هذا الإملاء النبوي نصل - أيضاً - إلى الإشارة إلى قاعدة من قواعد النقد المعتدل محصلها أن الأخطاء يجب أن تقرأ كما هي، وكما جاءت في سياقاتها. إنَّ نزع الخطأ من سياقه الذي كان يملك تخفيفاً له، ووضعه داخل دوائر وأقواس وعلامات تعجب واستفهام، وتسليط الإضاءة الإضافية على بؤرة ما نظنها خطأ.. إن هذا يعد تجاوزاً لضوابط النقد العادل؛ فالتجريد للأخطاء من سياقها يجعلها مؤهلة لرسم صورة تمثل منهجاً تبرز فيه درجة الخطأ إلى حد الانحراف المنهجي، ليصبح المنقود حزمة من الأخطاء المحضة، وإذا كان مقصد الناقد حسناً في حماية الصواب الذي يراه، فهو يفرز عند القراء والمتلقين روحاً مختلفة لا تحتفظ بأخلاقية هذا العالم الأصلية، وقد يأخذ من العلماء ردودهم وما فيها من الاغلاظ، دون جوانب خيرهم الأخرى. من الحقائق الشرعية في هذا المنهج أن الخطأ الذي يقع اجتهاداً لا يؤاخذ صاحبه، إن كان مقصوده ومراده اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، لكنه أخطأه. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (المتأول الذي قصده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل الاعتقاد فكثير من الناس كفروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع). (منهاج السنة 3-59 - 60)، وقد قرر هذا المعنى وشرحه في مواضع من كتبه. وهذا وإن كان حكماً عند الله، لا يعني أن من كان معذوراً فإنه لا يكون مؤهلاً للرد والمراجعة، لكنه يكسر حدة الاندفاع في تتبع السقطات والإلحاح في استجواب الأخطاء، حتى تبدو أكبر من ماهيتها وحقيقتها، أو يكوّن من الأخطاء المتفرقة تركيباً منهجياً، فيكون الخطأ يتمثل بخلل في أصل المنهج، وهو لا يعدو أن يكون مثالات غير ضرورية الترابط إلى هذا الحد. وأنت حين تقرأ التاريخ العلمي الإسلامي، وما كتب فيه من مصنفات في علوم الشريعة ومقدماتها لا ترى سنة ماضية عند أحد من أهل العلم الكبار من الأئمة والمحققين أنهم نبشوا مصنفات ومقالات أحد من أرباب العلم القاصدين نصر السنة، والإسلام، وجمعوا سقطاته وأشهروها، بل على هذا جماهير العلماء وعامتهم، مع أنه من المتحقق أن ثمة مصنفين لهم أخطاء مؤهلة للذكر والرد والمراجعة، وترى أن التصحيح لم يفقد في هذه المسيرة التاريخية، لكنه تحت منهج معتدل دون حاجة إلى حركة رصد، وكأن هذا الذي تتبع قوله ليس إلا إماماً في الأخطاء. وحين تقرأ مصنفات أبي محمد ابن حزم - مثلاً - ترى فيها الصواب الذي يعجب من امتياز ابن حزم بتحصيله، وقد أشار الذهبي في سير أعلام النبلاء إلى جوانب من هذا الذكاء والتميز، وترى الخطأ الذي يعجب من وقوعه فيه، فلو قصد قاصد ذكر فضائل ابن حزم لجمع أمثلة نادرة، وامتيازاً علمياً متعالياً، ولو قصد آخر جمع سقطات ابن حزم لجمع من هذا رسماً يفيد أن ابن حزم مجرد راكض في ظاهريته. وقُل مثل ذلك في أبي حامد الغزالي مثلاً، وكثيرين. وفي الصحيح (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم). إنَّ الإنصاف ضرورة في منهج النقد، وهو تعامل مع الخلق يجب تحقيقه تحت نظر الشريعة وقواعدها، وليس تحت رؤية ذوقية، أو مزاج بارد أو صعب، فلا تضيع الحقائق، ولا يُبغى على أحد من خلق الله. وأيضاً فإن من مضى منه سيرة حسنة، وصدق في الإسلام، يجب أن يحسن إليهم، ويتلطف في معاملتهم، ويعرف لهم قدرهم. ولئن كانت الأمة اليوم بحاجة خاصة إلى التصحيح والمراجعة، فيجب أن يكون هذا تحت قاعدة العدل والرحمة، وصدق الحديث وعدم التكلف، وترك الانتزاع للأخطاء، مع تحقيق لزوم الأخذ بالأصول ومعاقد إجماع الأئمة والإنكار على مخالفيها. قد يكون من العجب أن يقرأ الكثيرون لعالم أو داعية، فلا يكون عندهم إلحاح أو قصد في انتزاع الفوائد والصوابات، لكن حينما يراجع قوله للرد عليه ترى ثمة استجواباً للأحرف، والسياقات، ليولد منها سلسلة من التجاوزات والأخطاء. وثمة قوم يستعملون قانون الربط المنهجي، أي: محاولة تأصيل الأخطاء، وردها إلى مناهج الانحراف التاريخية أو المعاصرة، وهذا إن كان حقيقة استقرائية عادلة ليس مذموماً، بل قد يكون قصداً وفضيلة، لكن يكون الأمر مشكلاً حينما يحمل عالم أو داعية أو مصلح مسؤولية علاقات منهجية، ربما قامت دعوته وعلمه لمحاربتها، ثم يأتي مستقرئ فيحمله أوزاراً من منهج القوم تحت شعار أو عفوية: القوامة، وحفظ الدين، ودفع صَول المخالفين، فهذا تحويل لمقصد التصحيح وقواعده، وربما قرأه الساذج من الجماهير عمقاً في التناول والبحث وصار ملتفاً حول هذه النظرة التي تمنهج الأخطاء وترسمها ضمن خارطة شمولية لا مخلص للمتهم منها!. ومن ضرورة المعالجة والإصلاح أن يتمتع العالم بالرفق، وفي الصحيح: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه)، وفي الصحيح أيضاً: (من يحرم الرفق يحرم الخير)، وفيه أيضاً : (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)، وفي الإطار العام يأتي قوله سبحانه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( 125)}سورة النحل، وهذا بيان بأن المجادلة تكون بالأفضل والأحسن، بينما الموعظة وصفت بالحسن، ربما لأن المجادلة مظنة استثارة نوازع النفس الغضبية عند المتخاصمين، فسبحان العليم بسرائر النفوس. هنا حقيقة اختم بها هذه المقدمة: إن الحق الذي أعطاكه الشارع، هو أمانة حملتها، يستدعي تقرير الحق، وتصحيح الخطأ والغلط، ويتفرع عنه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرد والمراجعة والحوار.. كل هذا نوع من التكليف الشرعي الذي يجب أن يقدر بقدره، وأن يعلم أن هذا الإذن الشرعي ليس معناه أنك مؤهل لمعاقبة العباد. من الخطأ الشديد أن يتحول التصحيح والنقد إلى لغة معاقبة، واستفزاز لمشاعر الناس وطبيعتهم، وتريد في الأخير أن تذعن ناصيته لرأيك ومراجعتك، وإلا كان ممن عاند وكابر الحق، وشابه فرعون وقارون. هذه معادلات من الظلم أن يحمل الإسلام والمنهج الشرعي تبعتها، أو المسؤولية عنها. إنها نزعات نفسية في طبائع كثيرين، يتلذذ أصحابها باستذلال الناس وجرهم خلفهم. والمتأمل في سيرة رسول الإسلام - عليه الصلاة والسلام - يجد أن هذا التعامل الجافي ليس له حظ في هذه السيرة البتة، بل قد كان (رحيماً رقيقاً) كما في حديث عمران بن الحصين، وكان (رفيقاً) كما في حديث مالك بن الحويرث، (وكان لا يضرب الناس بين يديه) كما في حديث ابن عباس، وكلها في الصحيح. ثمة حقيقة خلقية في الطبيعة البشرية، وهي رفض الإنسان علو الآخرين عليه، ورفض استعمال الفضيلة سلطة تقرع بها رؤوس المؤدبين. في قول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(159)سورة آل عمران، وفي تدبير الله لموسى في مسيرة دعوته {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)}سورة طه، تأكيد على أن الخلق تجمعهم الرحمة واللين، وتفرقهم الغلظة والفظاظة. فالإسلام يقرر ثوابت الشريعة وحدودها، لكنه أيضاً يقرر ثوابت الإنسانية وحدودها؛ إذ هو رسالة للإنسان الذي خلقه الله على طبيعة غير قابلة للمعاندة، فهي تعاند مَنْ عاندها، حتى ولو كان محقاً، فإن النفس لا تتمالك، فإما أن تدع الحق، أو تدع بعضه، أو تشوبه بباطل، فلماذا يتحول النقد والمراجعة إلى خلق معركة بين الحق أو الرأي المجتهد فيه وبين الطبيعة البشرية؟! هذا سؤال بالغ الأهمية. إنَّ ربَّ العالمين المألوه المعبود أمر عباده بأصول التكليف والحق، ولم يهن عبده، بل أكرمه ونعّمه، وكذا رسول الله - عليه الصلاة والسلام - المبلغ عنه، وفي نصوص التنزيل الكثير من التكليفات التي جاءت بصيغة غير مباشرة، بالثناء على أهلها ووعدهم بالثواب، وذم الذين تركوا، والترغيب والترهيب مما يطول سرده واستقصاؤه. وثمة حدود في الإنسانية، هي حدود الحياة العادلة، وهي سنن الله في خلقه. فالإسلام يقرر أصول الأخلاق، وينشئ النفس عليها، وهي حق اجتماعي عام، لا يجوز لأحد أن يخرق نظام الأخلاق تحت أي مبرر. الأخلاق هي مزاج النقد، فإذا فسدت فسد قوامه. ربما تكون مراجعة البعض لغيرهم من أقوى أدوات ترسيم الأخطاء وتثبيتها، وأنت حين تغلط ضمن مسيرة قاصدة في الإصلاح والخير والبر فترى من يأتي ليصادر كل حركتك، وخطواتك في الصراط المستقيم، ويلاحق الأخطاء، كما يلاحق الخطى فيرى في كل عثرة آية وإشارة، ثم يحشرك في معركة يكون هو فيها (الحق) وأنت (الباطل)، فهنا أي نفس بشرية تدعي أنها تقدر على التمالك والانضباط، فضلاً عن القبول؟!. قد يكون من الصعب على كثيرين تجاوز ما ألفوه من الطبائع التي تتحكم كثيراً في منطقهم وتعاملهم أكثر من تحكم الحقيقة نفسها. وقد يكون من المشكلات هنا محاولة البعض تصحيح الإلف الذي ألفه، فيكون الصواب مألوفه، ومتى تحول عنه، فربما هو يتحول إلى الانتكاس وكأنه يتحول عن ثوابته الحقة الخالدة، ولعل المتنبي كان قارئاً نفسياً حين يقول: خلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا نسأل الله أن يرزقنا قصد وجهه، وأن يسدد نفوسنا في ابتغاء فضله ورحمته. وصلى الله على نبي الرحمة، محمد وآله وصحبه.