لم تكثر الروايات وتتناقض الأقاويل حول أحداث حياة شاعر كما كثرت وتناقضت حول حياة أبي الطيب المتنبي مما يدل على مدى أثر المتنبي في عصره . . وعلى أنه كان ذا اتجاه له خصومه وله معارضوه - كما سنرى فيما بعد -. ولم يؤرخ الشاعر حياته، وما كتب عنه في الكتب المختلفة قديمها وحديثها ليس تاريخاً آنياً للأحداث وإنما رواية أخبار مسموعة أو أحداث عاصرها بعض من رووا عنه وفي أحيان كثيرة يعتمد الكتاب على التفسير والتعليل مما يدل على عدم ركونهم إلى كثير من الروايات وليس عجيباً أن لا تؤرخ حياة شاعر كبير كأبي الطيب، فها هي حياة الخلفاء وكبار القادة والمفكرين لم تدون منها إلا أحداث لا تفي بالغرض، وهي في الغالب غامضة خلال سني الشباب والشيخوخة . . ويبدو أن العرب لم يعنوا بتدوين حياة العظماء قدر عنايتهم بآثارهم، وأنهم سلكوا - حتى حين يدونون - سبيل الرواية والخبر. وأكثر ما تناول تاريخ حياة الشاعر من غموض ما دار حولها بدايتها إلى الشباب ونهايتها. ولقد رجعت إلى مصادر عديدة فوجدتني مضطراً على تعدد المصادر إلى التعليل والتفسير واختيار أقربها صحة. أعرف أن اسم أبي الطيب المتنبي: أحمد بن الحسين الجعفي الكندي - نسبة إلى محلة كنده - في الكوفة حيث ولد - أشهر شعراء زمانه ولد سنة 303ه قضى أيام شبابه في الشام، فلما ظهرت حركة القرامطة هناك انضم إليهم وقام مع البدو داعياً دينياً وسياسياً لهم في بادية السماوة في العراق. فتوجه إليه لؤلؤ أمير الاخشيد على حمص ليهزمه ومن معه ويبقيه في الأسر زمناً طويلاً ومن ذلك دعي (بالمتنبي) كلقب اشتهر به فيما بعد وقد وجد بعض من الباحثين آثاراً من معاني الإسماعيلية وألفاظهم في شعره، ولكن المتنبي اقتنع أخيراً وهو في غيابة السجن بأن رسالته الحقيقية هي أن يكون شاعراً مطبوعاً غايته بلوغ المجد . . فما أن رجع إلى الشام سنة 325ه حتى قام بمدح الأشراف - ومن في طبقتهم - هناك على طريقة أبي تمام والبحتري إلا أنه فر سنة 337ه إلى البلاط الحمداني في حلب ليمدح سيف الدولة بقصائده الطنانة الخالدة التي اشتهر بها كل من سيف الدولة وشاعره وخلدت لهما ذكراً باقياً، ولكن تقريب سيف الدولة للمتنبي وإعجابه به خلق جواً ملبداً بغيوم الحسد والكيد فرصدوا له الشهب ونصبوا شباك مكائدهم في مجلس سيف الدولة . . وكان أهمهم أبو فراس الحمداني . . بالغ هؤلاء الحاقدون في الوقيعة بالمتنبي حتى غيروا قلب سيف الدولة نحوه وأوغروا صدره عليه . . فأعرض عنه مما دعا المتنبي لنظم قصيدته التي منها: واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم مالي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم ان كان يجمعنا حب لغرته فليت انا بقدر الحب نقتسم يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم ان كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم . . واشتكى شاعرنا من الحسد والنميمة المحاكة له ونبه سيف الدولة لذلك قائلا: أزل حسد الحساد عني بكبتهم فأنت الذي صيرتهم لي حسداً ومن قوله: سوى وجع الحساد داو فإنه إذا حل في قلب فليس يحول ولا تطمعن من حاسد في مودة وان كنت تبديها له وتنيل وأخيراً نجح كيد الكائدين ووقع المتنبي لهم . . وتمت الوقيعة بين سيف الدولة والمتنبي وانصرم حبل الألفة بينهما، وما وسع أبا الطيب الا مفارقة سيف الدولة بعدما لازمه تسع سنين . . فما أن سمع كافور حاكم مصر - عدو سيف الدولة - بما جرى للمتنبي مع سيف الدولة حتى طلبه للإقامة عنده بمصر موعدا إياه بالوعود المغرية والمناصب الرفيعة فاستجاب المتنبي لطلب كافور طائعاً ونظم قصائده في مدحه وكانت أولاها تلك التي مطلعها: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب الأماني أن يكن أمانينا وصارح كافور بما كان يختلج طي ضلوعه من أماني وآمال: إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية فجودك يكسوني وشغلك يسلب وصارحه بإنجاز وعوده: أرى لي بقربي منك عيناً قريرة وان كان قرباً بالبعاد يثاب وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ودون الذي أملت منك حجاب وفي النفس حاجات وفيك فطانة سكوتي بيان عندها وخطاب ولكن كافور لم ينجز ما وعد لأنه خاف المتنبي لما رأى من تعاليه واعتداده بنفسه فعوتب فيه فقال: (يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم أما يدعي الملك مع كافور، فحسبكم) ولعدم نيل المتنبي من كافور حظوته وما كان يرجوه منه هجاه هجاء مقذعاً بكافورياته المتهورة وهرب منه إلى بغداد سنة 350ه وهنا أراد الوزير المهبلي توليته بعض الأعمال في سبيل مدحه له ولكنه أبى أن يمدح المهبلي فألب هذا شعراءه على هجائه وعندئذ شد المتنبي رحاله في آخر مراحله قاصداً عضد الدولة في شيراز من بلاد فارس فحط هناك واستطاب الإقامة بظل عضد الدولة فربحت تجارته . . ووصل إليه من صلاته الشيء الكثير . . إلا أنه عاد إلى العراق . . وفي طريق العودة تعرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي على رأس عشرين رجلاً من بني عمه فقتلوه وابنه وغلامه وكان ذلك في شعبان لثمان خلون منه سنة 354ه وهكذا انطفأت تلك النار المستعرة وخبت شعلة تلك النفس المضطربة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس وسكت ذلك القلب الذي لم يكن له مدى محدود في طموحه وعليائه: وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده ولكن قلبا بين جنبي ما له مدى ينتهي بي في مراد أحده هذا هو المتنبي قليل من الناس بلغ مبلغه من الشهرة وذيوع الصيت فلطالما تحدث عنه الناس وصوروه بما يليق بمكانته السامية ومنزلته العالية في الشعر والأدب ولطالما استهوتهم تلك الصورة الخلابة التي أظهرها عن نفسه في طيات أشعاره . . فلقد امتاز شعره بسمو الخيال وابتكار المعاني واختراع الصور التي تهتز لها النفوس إعجاباً . . ولقد أدت به ثورته النفسية العارمة إلى أن يتبنى فلسفة القوة التي تجلت في كل أقواله بجميع حالاته فهو قوي في شعره، قوي في أسلوبه، قوي في تعابيره، قوي في اعتداده بنفسه، قوي في طموحه نحو المعالي، قوي في سخطه على الناس وعلى الزمان: ان ترمني نكبات الدهر عن كثب ترم امراً غير رعديد ولا نكس وعلى كل فالمتنبي قوي في كل شيء . . والدارس لشعره يرى أنه شعر جليل يهتف به شاعر عبقري فيذكي في القلوب الحماسة، ويمتع الألباب بألوان من الفن الرفيع يتطاول إليها الناس دون أن يبلغوها . . لقد رصع المتنبي شعره بفرائد من الحكم البليغة والفلسفة الرائعة والتوجيه الأمثل وما تزال أبياته ترن في أذن الدهر بالرغم من مرور ألف عام ونيف على عهده، ولقد زادها القدم جلال وروعة وخلوداً. أما عن آراء النقاد في شعره فزعم أبو العلاء المعري أنه أشعر المحدثين وابن جني يمدحه ويسميه (شاعرنا) متمتعاً بصحبته وشرحه لشعره بإخراج ديوان يضم أشعار المتنبي . . وفي بعض الروايات زعموا أنه أنشأ قصيدة في وصف صيد ذكر له بأبيات مشهورة في فترة وجيزة ونظم في ليلة واحدة ثلاث قصائد تشمل كل واحدة منها على مائتي بيت ويقول التنوخي: (إنه لطيف المعاني) وإن زعم بفساد كثير من معانيه بلغظة ألفاظه، أما المستشرق الألماني بروكلمان فتحدث عن شعر المتنبي بعد أن صنفه مع شعراء سيف الدولة فقال: وفي الواقع لا يقل في شعر المتنبي فساد الذوق كما في بيت له بالديوان، وفي بيت آخر سقط من الديوان وعابه الصاحب بن عباد عيباً شديداً وكان النحاة يعيبون كثيراً من عباراته لتعديه على العربية . . وبين العسكري في (الصناعتين) شتى أنواع اللحن في شعره. وإذا نحن صرفنا النظر عن عبقريته في بعض قصائد جليلة قالها في شبابه وجدنا أصالته غير كثيرة في شعره بعد ذلك . . وقد تأثرت حكمه الشعرية التي نالت كبير الإعجاب بالمحصول الفكري للفلسفة الإغريقية التي كانت واسعة الانتشار في عصره . . وما يزال المتنبي يحتفظ بمجده وشهرته الشعرية إلى يومنا هذا، ولا يزال ديوانه إلى جانب مقامات الحريري في كل عصر . .