السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: أرجو أن أجد لديكم متسعاً للتعقيب على مقال: د. خيرية السقاف، والمنشور في جريدتكم ذات العدد: (11846)، والمعنون ب( (حلقات القرآن وما سواها). ابتدأت الكاتبة - وفقها الله - مقالها بكلام قيّم قالت فيه: (في مجتمع مسلم كمجتمعنا، يكون لحلقات القرآن ومدارسه شأن بالغ في تمكين صغار المسلمين، ممَّا تقصر عنه مناهج المدارس النظامية، وإن كان من الأمور البدهية أن يقوم التعليم النظامي على مزج مهمَّة التعليم العام مع تعليم القرآن، ومقررات الشريعة، بحيث تتهيأ للصغار تنشئة متوازنة، لا يخرج عن المدارس إلاَّ يكون قد حفظ القرآن وتعلمه ووظفه في حياته توظيفاً يليق بلسان المسلم وسلوكه، في أقواله وأفعاله، ومثل ذلك يكون متشرباً لفقه العبادات، ولتوحيد الله ولأحاديث رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم. إنِّ مناهج تُبنى وتؤسَّس منذ وضع أهدافها، فتخطيطها، فوضع محتواها المعرفي، فصياغة أهدافها السلوكية، فاختيار من يقوم بتنفيذها وبطرائق تليق بتمكين الدارسين ممَّا وضع لهم من اهداف فإنشاء أساليب وأنماط للتقويم تؤكد على استفادتهم وتشربهم وقدرتهم على تمثيل ما تعلموه على ما يجعل كلّ خبرة علمية ومعرفة خاصة أو عامة مرتبطة بشريعة الله، مؤسسة لشخصيات إسلامية تعي الإسلام حق الوعي، وتتفهَّم قيمه حق التفهم، وتدرك سلامته وأمنه وحدوده ونواهيه لهي اللبنة الأولى التي من الواجب ألا يخفى أمر وضعها وتأسيس المناهج الدراسية انطلاقاً منها وعوداً إليها). وأنا هنا أؤيد الكاتبة - رعاها الله - في كل ما ذكرت، بل ولا أخال أي مسلم إلا وهو يشاركني هذا الشعور.. قال الله تعالى متحدثاً عن كتابه الكريم: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}، وقال سبحانه: {هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وقال جل وعلا: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. وقال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به، أُلبس والده يوم القيامة تاجاً من نور، ضوؤه مثل ضوء الشمس، ويكسى والداه حلتان لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟، فيقال: بأخذ ولدكما القرآن) رواه الحاكم. وما أجمل ما روته كتب الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار، قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم). أي والله!! (من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم). ولما كان كتاب الله عز وجل بهذه المثابة، ولما كانت له هذه المنزلة العظيمة، صار حرياً بكل مؤمن أن يسمو بهمته إليه: قراءة وحفظاً وعلماً وعملاً.. ولقد كان التوجه إلى إنشاء حلق تحفيظ القرآن الكريم في مساجدنا من صميم الحكمة، ومن أعظم الخير والرشاد. ولقد أشار التقرير الأخير الصادر عن الأمانة العامة للمجلس الأعلى للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم إلى أن حلق تحفيظ القرآن الكريم بلغت: (24.450) حلقة وفصلاً، يدرس بها: (503.413) طالباً وطالبة. وقد بلغ عدد الحفاظ لكامل القرآن الكريم في العام المنصرم فحسب: (6381).. فيا لله!! كم من الأجور سينالها القائمون على تلك الحلقات، والداعمون لها؟! أي نُزُل سيكون لهؤلاء عند ربهم، وهم من أنفق ماله وبذل جهده لأجل كتاب الله سبحانه، بينما أنفق غيرهم ماله وبذل جهده لأجل ما يغضب الله، أو على أقل الأحوال فيما لا يرجى نفعه في الآخرة؟! وأي جرم عظيم وقع فيه من يزهد الناس في هذه الحلقات القرآنية.. ويصرفهم عنها؟!! أي جرم عظيم وقع فيه من كان جل همه قذف هذه الحلقات بما ليس فيها، والاستهزاء والسخرية بأهلها: أهل القرآن؟!! نعوذ بالله من الخذلان.. ثم تقول الكاتبة - سلمها الله - (ومقررات العلوم الشرعية بما فيها القرآن تدرس بشكل ميسّر لا يمكّن من تشرب الصغار لكثير من القيم، ولا تؤسس لكل القواعد على فهم ووعي جعل من الناشئة جيلاً بل أجيالاً تتناهض وتكبر وتندرج في سلك الحياة دون ان توظف من اسلاميتها إلاَّ ما نشأت عليه في أسرها من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، أما كيف، ومتى يصدّ هذا العلم بمعرفة ووعي المرء عن الوقوع في زلل الجهل، وادراك مغبة التغافل فهذا لم يتحقق. وحدث ما حدث في وجود ثغرات في التنشئة الصحيحة وفي فهم الدين فهماً عميقاً ونالنا من ذلك ما نال هذا المجتمع على غفلة). أقول: هذا هو ما أكدت عليه نصوص الكتاب والسنة - كما سبق -، فقد حثت على تعلم القرآن، والعمل به، إذ إنه ليس الغرض من إنزال كتاب الله هو قراءته فحسب، بل تعلمه، والعمل به، والتخلق بآدابه، والاستنارة بهديه. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الخوارج: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) رواه الشيخان، أي: أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه، وهم لا يتفقهون فيه، ولا يعرفون مقاصده، قال النووي - رحمه الله - (المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم، لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب). ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: (قد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما آمره، ولا زاجره، وما ينبغي أن يقف عنده، ينثره نثر الدقل). ويقول الآجري - رحمه الله -: (فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة يرى بها ما حسن من فعله وما قبح فيه، فما حذره مولاه حذره، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغب فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته، أو ما قارب هذه الصفة، فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهداً وشفيعاً، وأنيساً وحرزاً، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا والآخرة) وقال أيضا: (وكان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال وعز بلا عشيرة، وأنس مما يستوحش منه غيره، وكان همّه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة؟، وإنما مراده: متى أعقل عن الله الخطاب؟، متى أزدجر؟، متى أعتبر؟، لأن تلاوة القرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة). ختاماً: لا أرى لي خاتمة يحسن أختم بها، سوى ما ختمت بها أختي الكاتبة مقالها، حيث قالت في خاتمته: (الآن، هناك حلقات القرآن، ومدارس تحفيظه، وبقية مناهج التعليم العام، وحلقات المساجد، والجمعيات، يبدو أن عليها التركيز الواعي لوضع منهجية قوية وقويمة وواضحة وميسرَّة ومرغّبة وقادرة على بسط الدين كما هو دين سلام وحب وإيمان وصدق وزرع قيمه الصحيحة في النفوس، وتوعية مدارك الناشئة على صواب، والأخذ بإسلامية الأفراد إلى أن يكونوا ممّن يباهي بهم رسولهم صلى الله عليه وسلم ويكونون لآبائهم قرة أعين بل لمعلميهم أيضاً). ماجد بن محمد العسكر - الخرج [email protected]