لقد ألمّ بي حزن بالغ لدى علمي بنبأ وفاة صديق عهدتُه متعاطفا للغاية مع فتية كلية التجارة الثمانية - جامعة الرياض، وذلك منذ أربعة وثلاثين عاماً مضتْ. تميَّز هذا الفقيد أنه: طالب علم متواضع شجاعٌ شهمٌ محبٌ للخير ذو ثقافةٍ عاليةٍ، ودرايةٍ واسعةٍ بواقع المجتمع، يعيش هموم مجتمعه: سلبياته وإيجابياته، مستمع لافت للنظر، يشجعُ طلاب العلم على المثابرة، ومواصلة التحصيل العلمي، يحبُّ الصمت، إذا تحدثت معه يحْسسك أنك أنت المعلم وهو الطالب، يتكلم إذا وجدَ أن هناك ضرورة للكلام، إذا صافحك فإنه يترك أثر المصافحة في ظهر يدك للحظات، بل وربما لدقائق! والفقيد من الرعيل الأول الذين توجَّهوا لعاصمة (المعز) لتلقي التعليم الجامعي. كنتُ أسمع عن الفقيد، وأنا طالب في (مدرسة الرياض الثانوية) في عام 1377ه، وكانت المدرسة تحتل بيت (ابن جبر) بحي (شلقة) المجاور لشارع الوزير، أحد الشوارع الرئيسة في الرياض آنذاك. وكنتُ أسمعُ عن نشاط الفقيد، وأنا في مقاعد الدرس بكلية الحقوق - جامعة القاهرة بحكم عمله بوزارة المعارف، ومن ثمَّ في (جامعة الرياض)، كان الفقيد في وزارة المعارف متألقاً في جهوده وعطائه حينما كان (مديراً عاماً للتعليم الابتدائي)، ومن ثم (مديراً عاما للتعليم) بالوزارة، واحتل الفقيد في (جامعة الرياض) (جامعة الملك سعود حالياً) منصب الأمين العام بها. كان مكافحاً في مشواره التعليمي ومن ثم العلمي، ولا غرابة حيث عاش وترعرع في بيت علمٍ، وابن الوزِّ عوَّام. كان المنصب لا يهمه بقدر اهتمامه بطلب العلم والتشجيع على طلبه، وكان لطبيعة المناصب التعليمية التي تولاَّها الأثر الكبير في توجهاته. بعد تخرجي في كلية الحقوق - جامعة القاهرة في عام 1382ه قررتُ الالتحاق بجامعة الملك سعود (معيداً)، فقابلت في (الملحقية التعليمية) بالقاهرة في صيف عام 1382ه سعادة (وكيل جامعة الملك سعود) آنذاك (معالي الأستاذ الجليل الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر) الذي كان في مهمة التعاقد مع أساتذة مصريين للعمل بالجامعة، وعرضتُ عليه رغبتي في التدريس بالجامعة فوافق حالاً. وبعد سنة من بقائي بكلية التجارة (معيداً) سافرتُ إلى (أمريكا) للدراسة العالية بكلية حقوق جامعة ييل Yale الأمريكية على حساب الجامعة. ولأن الفقيد، كما سبق القول، يشجع طلاب العلم على المثابرة، ومواصلة التحصيل العلمي، رأى أن يبدأ بنفسه في هذا المجال، وليكون القدوة لغيره من محبيه. ترك منصبه (بجامعة الرياض) إلى (حين) ليواصل دراسته العالية في بريطانيا. حصل الفقيد على شهادة الدكتوراة في عام 1389ه في الأدب العربي في جامعة لندن (مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية) في موضوع يتعلق بكتابات الجغرافيين العرب عن شمال الحجاز حتى القرن الرابع الهجري. وزرتُه أثناء دراسته في بريطانيا مرةً واحدةً في منزله في ضواحي (لندن) وكان الحديث معه (في كثير من الأمور العامة) شيقاً، وأثناء مغادرتي منزله حثني على مواصلة الدراسة. كان الفقيد في حديثه معي ذا بصرٍ وبصيرة! عاد الفقيد بعدها إلى أرض الوطن ليحتل منصبه السابق مع قيامه بالتدريس بكلية آداب الجامعة نفسها، ومن ثم انتقل إلى هيئة التدريس بها. أمَّا أنا فقد حصلتُ على درجة الدكتوراة في علم القانون من كلية حقوق جامعة ييل Yale الأمريكية بعد سنة من حصول الفقيد على الدكتوراة (أي كان حصولي على الدرجة العلمية في عام 1390ه). وعدتُ (للرياض)، وقابلتُ (سعادة وكيل الجامعة) في مكتبه بإدارة الجامعة (بحي المَلَز)، وكنا بالمكتب ثلاثة: سعادة الوكيل والفقيد وأنا. فاجأني الفقيد بثناءٍ عاطرٍ عليَّ أمام (سعادة الوكيل) لدرجة أنني خجلت من ثنائه. التزمتُ الصمتَ، إذ لم أتمكن من الردِّ عليه، إلاِّ أن الفقيد قال وقتها مخاطباً (سعادة الوكيل) وبالحرف الواحد: الحمد لله: سَيَسُدُّ الأخ الدكتور (محمد آل ملحم) ثغرةً مهمةً في هيئة التدريس بكلية التجارة. لن أتحدث عما قمت به (في عام 1382ه، ومن ثم بعد عام 1390ه مع زملاء متعاونين معي للغاية من حملة الدكتوراة من أبناء الوطن) من أعمال وجهود بكلية التجارة وبالجامعة، هذا ليس هنا محله، وإنما محلُّه في كتابي (حياة في كلية التجارة) تحت الطبع. وبالجامعة اكتشفت أن الفقيد شعلةٌ متوقدةٌ في منصبه بالجامعة، وكذا لمَّا كان يدرِّس بكلية آداب الجامعة. كان الفقيد يتفانى، وفي حماس شديد، في التعرف على أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، يحثهم على التحصيل، ناهيك عن توقعاته لبعضهم باحتلال مراكز مرموقة بالجامعة وخارجها. وتمكن الفقيد، وهو بالجامعة - وخاصة بكلية الآداب - أن يحيط نفسه بمجموعة من المثقفين من داخل الجامعة وخارجها، ناهيك عمَّن تخرج على يديه من طلبة أوفياء له. وحتى بعد أن ترك الفقيد الجامعة، وتقلَّد مهامّ أخرى من طبيعة تنموية وخيرية، ظل الأصدقاء - من حوله - يتكاثرون، ويتكاثرون! كان الفقيد ذا بريقٍ! وكان الفقيدُ ذا شفافيةٍ! على سبيل المثال: (وهذا موضوع مهم وحيوي لابد لي من تناوله، من الناحية التاريخية، في حياة الفقيد). حينما كنتُ في (كلية التجارة) (أستاذا مساعدا) كان معي من أعضاء هيئة التدريس من أبناء الوطن الذين انضموا للكلية من (حملة الدكتوراة) حسب تواريخ وصولهم للكلية منذ عام 1387ه، وحتى عام 1391ه ثمانية وأسماؤهم كما يلي: - يوسف نعمة الله. - محسون جلال - رحمه الله -. - أنا. - أسامة عبدالرحمن عثمان. - محمد الهوشان. - سليمان السليم. - غازي القصيبي. - ومنصور التركي. أمَّا قيادة الكلية فكانت العمادة وقتها للأستاذ (حسين بن محمد السيد) المصري الجنسية - آنذاك - والسعودي الجنسية فيما بعد - رحمه الله -. ومنذ عام 1382ه حينما كنتُ معيداً بكلية التجارة وحتى التحاقي بالكلية بعد الدكتوراة - في عام 1390ه كان العميد - لا يزال - الأستاذ (حسين بن محمد السيد)، وكان معه أساتذة آخرون من العرب الوافدين يدرِّسون بالكلية. كان معظم الأساتذة في (كلية التجارة) من إخواننا العرب. وكانت (كلية التجارة) وقتها ملء السمع والبصر في (مجتمع الرياض) إن لم تكن في سائر أنحاء المملكة. وبعد سنةٍ من التحاقي بالكلية (أي في عام 1391ه) تقريباً فاجأنا معالي الشيخ الجليل - (حسن بن عبدالله آل الشيخ) - رحمه الله - وزير المعارف والمشرف الأعلى على (جامعة الرياض) - آنذاك - بتوجيهاتٍ مهمةٍ. وكان مقتضى تلك التوجيهات أن يتولَّى أعضاء هيئة التدريس من أبناء الوطن قيادة كليتي (الآداب والتجارة). ولاقت تلك التعليمات ارتياحاً منقطع النظير ليس لدى كافة أعضاء هيئة التدريس بالجامعة من أبناء الوطن فحسب، وإنما لدى الفقيد، إذ صادفت تلك التعليمات هوىً جامحاً في نفسه لأنه كان محباً للوطن وأبنائه. ووفقاً للتوجيهات ذات الرمز الوطني عُيِّنَ - فجأة- معالي الأخ الصديق الدكتور (غازي القصيبي) عميداً (لكلية التجارة). وفي صبيحة اليوم الذي تولَّى فيه الأخ الصديق (القصيبي) منصبه الجديد جاء الفقيد - بكل ما يملكُ من حزمٍ وأناةٍ وبعدِ نظرٍ، وبحكم موقعه بالجامعة - إلى (كلية التجارة) محاولاً لمَّ الشمل بالكلية - ما أمْكَنَ - بعد أن تصاعدت الخلافات بها إثر تعيين الدكتور غازي، ولكن فات الأوان، حيث إنَّ منْ يتولَّى (عمادة الكلية) حسب الأعراف الجامعية يعتبرُ (الأول) بين متساويين وهو ما لم يكن ، وكان العميد الجديد يجهل هذه الأعراف! ودعاني الفقيد ذات مرة إلى منزله الأول الكائن (بحي الملز) مع ثلة من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة وآخرين وكنتُ وقتها (بكلية التجارة) لتناول طعام العشاء على شرف (صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز) وزير الدفاع والطيران والمفتش العام (آنذاك). وبعد تناول طعام العشاء أخذ الفقيد سمو الأمير، وبعض المدعوين وكنتُ من بينهم، على جولة في مكتبته التي كانت تضم عشرات الآلاف من الكتب في مختلف الفنون والآداب. وقد أهدى الفقيد لسمو الأمير كتاباً نادراً من الكتب التي كانت تحتوي عليها المكتبة. والشاهدُ في إيراد هذه المناسبة التي لا تزال عالقةً بمخيلتي هو أنني كنت من بين الذين ودَّعهم الفقيد بعد توديع سمو الأمير. وفي تواضعٍ جمِّ يصعب وصفه سايرني الفقيد حتى عتبة بابه، وأتذكَّر أنه قال لي عند عتبة الباب بالحرف الواحد: يا دكتور: آمل أن أراك، آمل التواصل، وكم أودُّ أن تكون معنا في بعض رحلات البرِّ التي اعتدنا على القيام بها مع إخوة من أساتذة الجامعة وخارجها. كلمات لا تزال محفورة في الذاكرة. كلمات صادرة من صميم قلب رجل محب لطلاب العلم يتفاعل مع طموحاتهم، بل ويشجعهم على العطاء. وكنتُ ألتقي بالفقيد في بعض المناسبات العامة كمناسبات الزواج وغيرها فأجدُهُ الرجل نفسه لم يتغير رغم تقدم السن: متواضعاً. ذا نفس أبية. صاحب رأي. يتفقدُ الأحوال. وبودي أن أشارك الأستاذ الأديب ذا العطاء المتميز (سعد البواردي) رثاءه المعبر المؤثر في الفقيد، وهو رثاءٌ شدَّ مشاعري! وليسمح لي أخي (سعد)، وبدون إذن سابق منه، نقل فقرات من هذا الرثاء معتبراً أنني كما لو كنتُ مسطِّراً هذه الفقرات: (افتقدناك منظِّر ثقافةٍ أصيلةٍ ترفض ثقافة السخافة.. لا ترضى عن أصالة الرسالة بديلاً). (افتقدناك متواضعاً رغم شموخك.. علو همتك.. وسمو قامتك). (جافيت الشهرة التي يلهثُ خلفها أنصاف الرجال.. لأنك الرجل.. والرجل ترفعٌ وتواضعٌ). (علمتَ فكان لك المريدون الكثر، وأنا واحد منهم، كنت لي خير مثل). (علمتنا دروس الأخلاق دون نفاق فحفظناها.. وما حفَّظناها..). (علمتنا وأنت المعلم أن العطاء في صمتٍ هو جوهر العمل وإكسيره.. محركه..). (علمتنا أن نخطو خطواتنا في تواضعٍ غير مبهورين.. ولا مختالين.. ولا متخاذلين). (كثيرة هي الاشياء الجميلة التي أودعتها حياتك الثرة، وودَّعتنا راحلةً معك..). وأقولُ في ختام رثائي: رحم الله الفقيد الأستاذ الدكتور (عبدالله بن ناصر بن محمد الوهيبي)، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وأبناءه وبناته وإخوانه الصبر والسلوان،(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (*) وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السابق