لو أن ينبوع المياه محابر وكل نبات في البسيطة أقلام وراموا بأن عصبوا إليك تشوقي لما أدركوا معشار عشر الذي راموا أمي.. يا بهجة الدنيا، يا قرة العين، يا سبب وجودي في الحياة، يا مبعث الحنان يا كل العطاء والوفاء والهناء.. أمي أيتها الشمعة الدائمة التي تحترق في سبيل راحتنا وسعادتنا وتحقيق ما تصبو إليه نفوسنا.. أمي يا أملاً مشرقاً نقتبس منه الصبر والإيمان، الجلد والمثابرة، الصدق في المعاملة، أيتها المثل الأعلى في كل مجتمع، أيتها الشجرة الوارفة الظلال ذات الرائحة العطرة والخضرة المستمرة والعطاء الدائم.. يا أعظم كلمة رددتها أمي.. أكتب وقلبي يشهد الله عندكم ولو أنني طير لكنت أطير وكيف يطير المرء من غير أجنح ولكن قلب المستهام يطير أمي.. حين دخل صوتك قلاع هدوئي.. لم أكن أعرف، ولم أكن أتوقع بأن الأمواج ما زالت تعشق صراع الصخور. لم أكن أعرف بأن الأنهار تصب في شرايين اللحظات دمعاً ودماً، كنت ما زلت صغيرة، حديثة العهد في هذه الدنيا، كان صدى الوديان لا يزال غريباً عليّ، لم أكن أعرف أن الأنامل تنمو فوق الأعشاب ولكن..!! لم ألمح للحظات وجهاً آخر غير وجهك الملائكي، أسمع ترانيم أحزان وصوت قاضٍ وجلاد.. لا تؤاخذيني يا أمي.. ولكنني كالطير الذي ينفض ريشه ليجدد جلداً آخر، فقد انفتح أمامي باب رجف له قلبي، وارتاحت له نفسي واختلطت الألوان أمامي. سمعت صوتاً أطعمني الحنين، كان صوتك (لطيفة) وشربت الحنين مع لبنك الشهي، ورأيت عيناً شقت وأنارت لي ليل المعجزة وقلبي الذي ينبض بقوة، كانت عيناك يا أمي ولا زالتا تحرساني في غربتي أينما كنت، وكيفما حللت. أمي.. سلام عليكِ والديار بعيدة وإني عن المسعى إليك لعاجز وهذا رسولي نائب عن زيارتي وفي عدم الماء التيمم جائز ففي هذا اليوم من هذا العام وفي هذه السويعات المجيدة أتقدم منك يا أمي لأضع على قبرك باقة وردٍ مكتوب عليها ومن الأعماق: ليرحمك الله رحمة واسعة ويدخلك جنات النعيم.. يا كل العطاء.. أدعو لك يا أمي من الأعماق والفؤاد مفتت حزناً وقلمي ينزف دماً بدل الحبر ينسال على الورق لعلي أقدم لك بعض صنيعك، وجزءاً يسيراً من عطائك، وردّاً بسيطاً لجميلك الكبير في عنقي.. ومهما أفعل أو أقدم أجد نفسي مقصرة وعاجزة.. فقدميك عتبة الجنة يا ست النساء.. أمي.. أتمنى أن آخذ بعضاً من مزاياك الجميلة، وصفاتك العظيمة.. وتقواك.. ولكن أرى نفسي مهما أخذت منك يا غالية فلن أتحلى بصفاتك.. ومهما أعطيت فلن أصل إلى درجة عطائك ومهما قدرتك فلن أوفيك حق قدرك. إنني باكية حزينة، ضعيفة متضرعة إلى الخالق العظيم أن يمن عليك بالرحمة.. وأن يسكنك جنات النعيم. وبعد.. أمي كان حبك لنا لا مثيل له.. وعطاؤك للغير يضرب به المثل وإيمانك العظيم وتقربك لله عز وجل مشهود لك.. إنه ضد الثبات والتحجر.. إنه موجة ترفعنا إلى سابع سماء.. وتنزل بنا للأرض السابعة أيضاً، إنه بحر لا سواحل له.. وإنه خريطة بلا حدود، وقطار لا يسير في زمن معين ولا يمشي على سكة حديد. أمي.. كان شوقك لنا واضحاً وملموساً.. دعانا أن نركب دائماً حصان الدهشة، وأن نسبح في المياه التي منعوا فيها السباحة بسبب هياج البحر ورداءة الأحوال الجوية، أن نغوص داخل المحيطات لنكتشف ما فيها وأن نصعد أعالي الجبال لنرى ما خلفها. أمي كنت تحكي لنا الحكايا ونستمتع بها حتى ونحن كبار.. كنتِ تقولين لنا إن الأرض يا أحبائي تراهق في شهر نيسان, وتتحمس، وتنفعل وترقص وتغني وتركض حافية القدمين في الغابات الخضراء، وتترنم بالأصيل وتغتسل بضوء القمر أما إذا جاء الشتاء.. أقفلت الأرض شبابيكها واشعلت مدفأة على حطب لكي تشعر بالدفء، وتدثرت ببطانية الصوف، وجلست تأكل الكستناء وتقرأ الكتب التي نسيت قراءتها في الربيع. أمي كانت حكاياتك حِكماً، وأقوالك عِبراً، وأفعالك مُثُلاً وكنت تقولين لنا نحن (البنات) إن وصفة الأنوثة وصفة سرية جداً، وهي لا توجد لدى العطارين والصيادلة، ولا توجد في السوبر ماركت والأفران، ولا توجد في الحدائق العامة والفنادق الفخمة، ولكنها توجد في أهداب النساء وكتب الشعر. كنت مربية فاضلة، وقاصّة رائعة، وشاعرة عريقة وقبل هذا وذاك كنت مناضلة... مناضلة ودائماً فلسطين في قلبك، وفي شعورك، وفي أعمالك وأقوالك.. فليرحمك الله رحمة واسعة يا أعظم النساء... لحظة دفء: أمي.. كان خضوعي لك كبرياء.. ومجدي لا يساوي نظرة من عينيك فكان لي فيها الشفاء فليخلد اسمك (لطيفة) مع العظماء.. وليس لنا بعدك سوى الدعاء.. (*) عضو هيئة الصحفيين السعوديين - كاتبة ومحررة صحفية تليفاكس 2317743- ص ب 40799 الرياض 11511