إن من يتدبر معاني القرآن، وما تدل عليه آياته، من جزالة اللفظ، وعمق الدلالة، ليدرك سر الإعجاز، الذي أودعه الله فيه، فلئن جمع خبر من كان قبلنا، فإن نبأ ما بعدنا، وما تصلح به حياة الفرد ومن ثم الجماعة، إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها فيه، ولئن كان فيه طريق الرشاد، ومعرفة الله حق المعرفة، فإن فيه إدراك السر الذي من أجله خلق الإنس والجن، في الحياة الدنيا. ولئن أعجز العرب ببلاغته وفصاحته، فإن أصحاب العلوم الحديثة، في الفضاء والأرض، وما أودع الله فيها من خيرات ومعادن، وما هيأ من عقول تفتحت على معارف، فقد استثمرت بها تلك الخيرات، لصالح الإنسان في مجالات شتى، لكن أغلب من على ظهر الأرض، من المهتمين بالتتبع العلمي، والتسابق المعرفي، حيث يشملهم دلالة معنى هذه الآية الكريمة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} سورة الروم (7)، فكم من ضال هداه الله للإسلام، بفهم آية من كتاب الله، وكم من مسترشد تحققت رغبة في نفسه بإدراك معنى غامض أضاء له الطريق لمعرفة الحق الذي يحبه الله. وكم من صاحب معضلة أثقلت كاهله، خفف الله ثقلها بطمأنينة أراحت قلبه، مسترشداً بآية من كلام الله. وغير هذا كثير يظهر سر إعجاز هذا القرآن الكريم، الذي هو كلام الله، أنزله على رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور.. إنها معجزات وأسرار هذا القرآن الكريم المتجددة، والفاتحة لمغاليق الأمور. فقد روى القرطبي في تفسيره على قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} سورة الحجر (9)، حسبما جاء بسنده إلى يحيى بن أكثم قال: كان للمأمون وهو أمير إذ ذاك مجلس فدخل في جملة الناس رجل يهودي، حسن الثوب حسن الوجه، طيب الرائحة، فتكلم فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: يا إسرائيلي؟ قال: نعم. قال: أسلم حتى أفعل لك وأصنع، ووعده: فقال: ديني ودين آبائي. وانصرف، فلما كان بعد سنة جاءنا مسلماً. فتكلم على الفقه فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون، وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال: بلى قال: فما سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان. وأنت تراني حسن الخط، فأحببت أن أخط، فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فاشتُرِيَتْ مني، وعمدت إلى الإنجيل، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فاشتُرِيَتْ مني وعمدت إلى القرآن، فكتبت ثلاث نسخ، وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها. فلما وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها، فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي. قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان بن عيينة، فذكرت له الخبر، فقال: مصداق هذا كتاب الله عز وجل، قلت: في أي موضع؟ قال: في قوله تعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ} سورة المائدة (44)، فجعل حفظه إليهم، وقال عز وجل: {نَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} سورة الحجر (9)، فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع. فإذا كان هذا اليهودي، قد هداه الله للإسلام، بهذا المفهوم الدقيق، عن حماية الله للقرآن من كيد المغرضين، وعبث العابثين، فإن أشهر طبيب نصراني، هو موريس بوكاي، قد كان له مثل هذا الموقف، الذي قاده لبر الأمان فكان من أشهر المدافعين عن الإسلام، والداعين إليه، وحكايته ذات ارتباط قوي بالقرآن قال عن نفسه: كنت أضع الشبهات التي أخبرنا بها المستشرقون، حتى أقتنص بها رجالاً لكي أدخلهم النصرانية وفي إحدى السنوات قدم الملك فيصل للعلاج، فقلت: إن دخوله أو تشكيكه في دينه، أكبر نصر لي وللتبشير كله، فجمعت أمري ودخلت عليه غرفته بعد العملية التي أجريتها له، فقلت له: ماذا تقول في القرآن؟ هل هو من الله أنزله على محمد، أم هو من كلام محمد؟.. فأجابني بهدوء قائلاً: إن القرآن كلام الله حق، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق ولا شك في ذلك. فقلت له: أنا لا أعتقد صدقه، فقال الملك فيصل لي: هل قرأت القرآن؟.. فقلت نعم قرأته مراراً وتأملته، فقال لي: هل قرأته بلغته أم بغير لغته؟ أي بالترجمة، فقلت أنا ما قرأته بلغته بل قرأته بالترجمة فقط. فقال لي: إذن أنت مقلد المترجم، والمقلد لا علم له، إذا لم يطلع على الحقيقة، لكنه أخبر بشيء فصدقه، والمترجم ليس معصوماً من الخطأ أو التحريف عمداً. فعاهدني أن تتعلم العربية، ثم اقرأ القرآن بها، وأنا أرجو أن يتبدل اعتقادك هذا الخاطئ، قال بوكاي: فتعجبت من جوابه، فقلت له: سألت كثيراً قبلك من المسلمين، فلم أجد الجواب إلا عندك، ووضعت يدي في يده، وعاهدته على ألا أتكلم في القرآن، ولا في محمد إلا إذا تعلمت العربية، ثم أقرأ القرآن بلغته وأمعن النظر فيه حتى تظهر لي النتيجة بالتصديق أو التكذيب. فتعلمت العربية في عامين كل يوم ساعة وأتقنتها في 730 ساعة، ثم قرأت القرآن بإمعان، فوجدته الكتاب الوحيد المثقف بالعلوم العصرية، ومن يؤمن به يدرك أنه منزل من الله حقيقة، أما التوراة والإنجيل ففيهما كذب كثير لا يصدقها العالم.. فأسلمت والحمد لله.. فصار يحاضر دفاعاً عن دين الإسلام والقرآن الكريم. أما معاذ بن جبل رضي الله عنه، فإنه يقول عن نفسه: لقد أثقل كاهلي، دَيْن عجزت عن الوفاء به لأصحابه، فاختفيت عنهم أياماً، حتى أنني لم أحضر لمجلس رسول الله، وافتقدني.. فلما زرته في مجلسه بالمسجد بين أصحابه، سألني عن سر غيابي، فأخبرته خبر الدين الذين جعلني أختفي عن الناس. فقال لي: يا معاذ ألا أخبرك بما يعينك على قضاء دَيْنك، وييسره الله لك، قلت: بلى يا رسول؟ قال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} آل عمران (26-27) اقض عني الدين وأغنني من الفقر. قال معاذ فقلتها وحرصت عليها فأذهب الله فقري وأغناني عما في أيدي الناس. عمر بن عبدالعزيز: قال ابن عربي في كتابه محاضرة الأبرار: إن عمر بن عبدالعزيز بلغه عن مسلمة بن عبدالملك أنه كان ينفق على مائدته ألف درهم كل يوم، وكان عمر يطعم السؤّال من غلته ألف سائل كل يوم، يطعمهم ثلاثة ألوان، وشواء، أما هو فكان يأكل يوماً لحماً، ويوماً خلاً وزيتاً، ويوماً عدساً، وكان قد سير الدنيا ثلاثة أيام: يوماً للقضاء، ويوماً لأهله، ويوماً لحوائج الناس، والليل للعبادة، فكان إذا جنه الليل، لبس جبة صوف، وجعل الغل في عنقه، والقيد في رجله، ونادى: يارب هذا عذاب الدنيا، فكيف عذاب الآخرة. ثم بعث إلى مسلمة، يأمره أن يتغذى عنده، فأتاه. فأمر عمر بجفان السؤّال أن تهيأ، وهيأ له طعاماً، وأمر أن يحبس الطعام، وأن يقدم العدس، فلما أبطأ عليهم، وجاع مسلمة جوعاً شديداً، قال عمر: ويحك يا مقاتل، إن أبا سعيد لا يصبر على الجوع، فآتنا بما عندك، فآتاه بعدس، فأكل أكلاً منكراً حتى شبع، ثم أتى بالطعام، فقال عمر: كل يا أبا سعيد فقال: قد اكتفيت. قال عمر: يا أبا سعيد تكفيك أكلة بدانقين - الدرهم ستة دوانق - وأنت تنفق على مائدتك ألف درهم كل يوم؟ فقال مسلمة: أعطني عهد الله، ألا أعود إلى مثل هذا.. فرجع عنه. قالت زوجته فاطمة بنت عبدالملك لابنها محمد، قُلْتَ للناس إن أبي كان من أعظم قريش وأرفههم مركباً، وألينهم ثوباً، وأطيبهم طعاماً، قبل أن يلي الخلافة، ثم لما وليها: لبس الكرابيس والصوف، وربما أدهن بزيت العلة تعني زيت الماء، ولا رفع ثوباً يدخره، ولا اتخذ أمة منذ أن ولى إلى أن مات. قال مقاتل حاجبه: فلما حضرته الوفاة قال لي: يا مقاتل إنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإمام العادل إذا وضع في قبره، نزل على يمينه، وإذا كان جائراً نقل عن يمينه إلى شماله، فاطلع حتى تنظر إليّ، قال: فاطلعت، فرأيته على يمينه - والحمد الله -. قال مقاتل: رأيته قبل أن تخرج روحه من جسده وهو يضحك، ويقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} سورة الصافات (61)، ثم مات رحمه الله (2: 406- 408).