الشيخ الدكتور محمد تقي الدين الهلالي - رحمه الله - عالم من علماء المغرب، ومن الدعاة إلى الله في بلاد الغرب، وحقق الله على يديه الخير الكثير، يجيد أكثر من خمس لغات عالمية، وكان بينه وبين الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - صلة راسخة، ومحبة في الله ومن أجل دين الله والدعوة إليه. قابلته في آخر حياته، وقد تجاوز عمره التسعين، وحادثني في موضوعات شتى، وكان يترحم دائماً على الملك عبدالعزيز وعلى الملك فيصل - رحمهما الله - ويرى أن لهما مناقب في سبيل الإسلام، تذكر لتحمد وتشكر..وأفاض فيما يعرف من ذلك.. وقال عن الملك فيصل: إن من أبرز مناقبه أنه كان بهدوئه سببا في إسلام الطبيب الجراح الشهير الفرنسي موريس بوكاي، الذي ألّف كتباً بيّن فيها أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يستطيع المثقف ثقافة علمية عصرية، أن يعتقد أنه حقّ منزل من الله تعالى، ليس فيه حرف زائد ولا ناقص. وكان هذا الكتاب الذي لقي رواجاً عالمياً، وأحدث اهتماماً من المفكرين الغربيين بعد صدوره، واسمه: (التوراة والإنجيل والقرآن في نظر العلم العصري)، هو مدخل حديثي مع فضيلة الشيخ الهلالي، ليفيض في حديثه عن الملك فيصل وليوضح أنه السبب، بعد توفيق الله لإسلام موريس بوكاي. وقد قال عن الملك فيصل - رحمه الله -: إنني كلما سئلت عن موريس بوكاي، وعن كتبه التي ترجمت لأكثر من ثنتي عشرة لغة، أجد نفسي مرتبطاً بالحديث عن مكانة الملك فيصل، وعن اهتمامه بالإسلام، وما خص الله ذلك الرجل من الذكاء، الذي كان سبباً في انقلاب الدكتور موريس بوكاي من عدوّ لدود للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ولدين الله الحق، الذي لا لبس فيه، رغم ما يطرح ضده من الشبهات، إلى صديق حميم يدافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن القرآن الكريم.. بكل ما عنده من قوة، وينفذ بحماسته إلى قلوب المفكرين الغربيين، قبل المفكرين في بلاد الإسلام..وهذا من فضل الله سبحانه، فهو الهادي لمن يشاء من عباده. بدليل ما أخبرني - والكلام للدكتور الهلالي رحمه الله -، به الدكتور موريس بوكاي نفسه عن صدى كتابه هذا وهو واحد من كتبه، بعدما طبع وترجم، وقبوله في المجتمعات التي طرح فيها: عربية وغربية، مما جعل هيئات علمية وجامعات في أنحاء العالم تطالب موريس بوكاي بإلقاء أحاديث، ومحاضرات في لقاءات ومؤتمرات وجامعات حول ما جاء في كتابه ذلك، ومقارنة ما توصل إليه، بمقارنات علمية وعقلية، وإجابات مقنعة، تبرهن على أن القرآن الكريم من الله سبحانه وتعالى، وأن ما جاء في القرآن يصدقه الواقع العلمي الذي ارتقى إليه العقل البشري. خاصة وأن نظرات علماء هذا الزمان ومفاهيم العلماء والمفكرين ترتبط بالحقائق العلمية، والنتائج الموثقة بالبرهان والتجربة، وهذا ما يجده المتمعن في القرآن الكريم، بعكس ما في التوراة والإنجيل، حسب مقارنات الدكتور بوكاي العلمية الصادقة بالحقائق العلمية البارزة أمامه، ودلالة ذلك من النصوص الشرعية في القرآن الكريم. فقلت للدكتور الهلالي: لعلك توضح عن كيفية اللقاء بين موريس بوكاي والملك فيصل رحمه الله، فقال: لقد كنت أذهب كل عام إلى أوروبا وفرنسا خاصة للدعوة والاتصال بالجاليات العربية والمغربية، وكان الملك فيصل - رحمه الله - يأتي في بعض السنوات للعلاج، وكان من بين الأطباء المشهورين الكبار في فرنسا الذين يعالجونه موريس بوكاي الذي أخبرني بأنه يطرح على مرضاه شبهات حول القرآن الكريم، وأنه من وضع محمد وليس من عند الله، وأنه متناقض. أضع الشبهات التي أخبرنا بها المستشرقون حتى أقتنص منهم رجالاً أدخلهم النصرانية، عن عقيدة دينية عندي بأهمية تنصير المسلمين، وصرفهم عن دينهم بما لدينا من شبهات رسخت في أذهاننا منذ الطفولة، ونريد تحقيقها بعدما كبرنا. وفي سنة قدم الملك فيصل للعلاج فقلت: إن دخول فيصل أو تشكيكه في دينه، أكبر نصر لي وللتبشير كله، فجمعت أمري عندما دخلت عليه غرفته بعد العملية التي أجريتها له.. ورأيت أن الجو مهيأ لكي أدخل معه في حوار.. لأنني تعودت كلما جاءني مريض مسلم محتاج إلى علاج جراحي أعالجه نظراً لشهرته، وأكثر من يأتيه من المسلمين للعلاج هم الشخصيات المرموقة، وذات المكانة في بلادهم. فيقول بوكاي: وكان كل من شفى أقول له: ماذا تقول في القرآن؟ هل هو من الله تعالى؟ أنزل على محمد أم هو من كلام محمد؟ نسبه إلى الله افتراء عليه؟ فيجيبني بقوله: هو من الله ومحمد صادق. فأقول له: أنا أعتقد أنه ليس من الله، وأن محمداً ليس صادقاً، فيسكت. ومضيت على ذلك زمناً، حتى جاءني الملك فيصل بن عبدالعزيز، ملك المملكة العربية السعودية، فعالجته علاجاً جراحياً حتى شفي، فألقيت عليه السؤال المتقدم ذكره، والدكتور الهلالي في هذا ينقل كلام بوكاي بعد مقابلته بلسانه، فأجابني بهدوئه قائلاً: إن القرآن كلام الله حقا، وإن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق ولا شك في ذلك. فقلت له: أنا لا أعتقد صدقه، فقال لي الملك فيصل: هل قرأت القرآن؟ فقلت: نعم قرأته مراراً وتأملته. فقال لي: هل قرأته بلغته أم بغير لغته؟ أي بالترجمة. فقلت أنا ما قرأته بلغته، بل قرأته بالترجمة فقط. فقال لي: إذن أنت تقلد المترجم، والمقلِّد لا علم له، إذ لم يطّلع على الحقيقة، لكنه أخبر بشيء فصدقه، والمترجم ليس معصوماً من الخطأ أو التحريف عمداً. فعاهِدْني على أن تتعلم اللغة العربية، ثم اقرأ القرآن بها، وأنا أرجو أن يتبدل اعتقادك هذا الخاطئ. قال بوكاي: فتعجبت من جوابه، فقلت له: سألت كثيراً قبلك من المسلمين، فلم أجد الجواب إلا عندك، ووضعت يدي في يده، وعاهدته على ألا أتكلم في القرآن، ولا في محمد إلا إذا تعلمت اللغة العربية، ثم أقرأ القرآن بلغته، وأمعن النظر فيه، حتى تظهر لي النتيجة بالتصديق أو بالتكذيب. قال بوكاي: فذهبت من يومي ذلك إلى الجامعة الكبرى بباريس، إلى قسم اللغة العربية، واتفقت مع أستاذ بالأجرة أن يأتيني كل يوم إلى بيتي لتعليمي العربية ساعة واحدة كل يوم حتى يوم الأحد الذي هو يوم الراحة، ومضيت على هذا سنتن لم تفتني ساعة واحدة، فتلقيت منه 730 ساعة كل ساعة درس، وقرأت القرآن بإمعان ووجدته هو الكتاب الوحيد المثقف بالعلوم العصرية، ومن يؤمن به أنه منزل من الله لا يزيد ولا ينقص، أما التوراة والأناجيل ففيها كذب كثير لا يصدقها العالم فأسلمت ولله الحمد. الشريعة المحمدية ذكر العاملون في كتابه (الكشكول): أن الشيخ برهان الدين الموصلي، وهو رجل عالم صالح ورع، قال: توجهنا من مصر إلى مكة المعظمة نريد الحج، فكلما كنّا في أثناء الطريق نزلنا منزلاً، وخرج علينا ثعبان، فتبادر الناس لقتله، وسبقهم إليه ابن عمي فقتله، فاختطف ابن عمي، ونحن ننظره ونرى سعيه، ولا نرى الجني، فتبادر الناس على الخيل والركاب، يريدون ردّه فلم يقدروا على ذلك، بل راح سعياً وهم ينظرون إليه، فحصل لنا من ذلك أمر عظيم، فلما كان آخر النهار، فإذا به وعليه السكينة والوقار، فتلقيناه وسألناه، ما بالك؟ فقال لنا: ما هو إلا أن قتلت هذا الثعبان، الذي رأيتموني، فصنع بي كما رأيتهم. وإذا أنا بين قوم من الجنّ، يقول بعضهم: قتلت أبي، وبعضهم يقول: قتلت أخي، وبعضهم يقول: قتلت ابن عمي، فتكاثروا عليّ، وإذا برجل لصق بي وقال لي: قل: أنا بالله وبالشريعة الإسلامية المحمدية. فأشار إليّ وإليهم أن سيروا إلى الشرع، فسرنا حتى وصلنا إلى شيخ كبير، على مصطبة، فلما صرنا بين يديه قال: خلوا سبيله وادّعوا عليه. فقال الأولاد: ندعي عليه أنه قتل أبانا، فقال لي القاضي: أحق ما يقولونه؟ قلت: حاشا لله، يا مولاي، إنما نحن وفد بيت الله الحرام، نزلنا هذا المنزل، فخرج علينا ثعبان، فبادر الناس إلى قتله، وأنا من جملتهم، فضربته فقتلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ثلاث يقتلن في الحل والحرم: ومنهن الحيّة، فلماّ أن سمع الشيخ مقالتي قال: خلوا سبيله، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، ببطن نخلة، وهو يقول: (من تزيّا بغير زيه، فقتل فلا دية له، ولا قود)، ردّوه إلى مأمنه. قال: فبادروا وأتوا بي من مكانهم، إلى أن أووا بي إلى الركب، فهذه قصتي والحمد لله رب العالمين. فتعجب الناس من ذلك غاية العجب.. والله أعلم (الكشكول 1: 416).