يذكر الكاتب الأديب غازي القصيبي في روايته الرائعة (العصفورية) واصفاً العسكر، (ماذا تتوقع من جماعة أمضت نصف عمرها في تلقي الأوامر والنصف الآخر في إصدارها). ومع احترامي لجميع العسكر، إلا أن تاريخنا العربي الحديث يحتفظ بذاكرة بشعة للحكم العسكري في طياته، ولا سيما حينما يصل العسكر إلى الحكم (من خلال عدد من الانقلابات)، ستتحول الدولة بصورة تلقائية إلى ثكنة عسكرية وبوق مهمته تمجيد الفكر الأحادي الذي يمجد النجوم والنياشين على بزة الزعيم القائد الزعيم، وبالتالي ستنشط على الجانب الآخر معتقلات التعذيب والأقبية والسجون، الموجودة لإجهاض أي فكر يختلف أو يتقاطع. والعسكر (كقيادات) في العالم العربي لهم بزة الجندي دون أن يكون لهم نبله وشهامته وروح فدائه للآخرين، ويتقلص به الشخصي على حساب العام. الذي حدث أن لوثة الكراسي حولته إلى ديكتاتور صغير متعرقل في هالة الأنا وعظمتها. فليس لديه مانع أن يقود بلده إلى حروب ومصادمات مهلكة ليفوز بلقب صلاح الدين الأيوبي أو سعد بن أبي وقاص. وليس لديه أدنى تردد في صناعة المئات من المقابر الجماعية، في حالة وجود رؤوس قد أينعت وحان قطافها. والعسكر الذين ابتليت بهم الخارطة السياسية في العالم العربي يقتربون من عصابات المافيا الذين يصفّون أعداءهم بدماء باردة دون تردد ودون إحساس بالمحيط العالمي والاستراتيجيات الدولية ، وعلى أقل الاحتمالات بالبعد الإنساني في علاقاتهم مع الشعوب. باعتقادي أن أحد أهم أسباب الجمال والفتنة التي يحويها أدب أمريكا اللاتينية هو تصويرها للمفارقة القائمة بين قوى العسكر والظلم والتجهيل والطغيان ووجميع القوى الطليعية الرائدة التي تبحث لها عن موقع قدم تحت شمس الإنسانية. سيظل التاريخ الحديث للعالم العربي يحمل أبشع الصور وأكثرها ظلمة عن حقبة عسكرية طوقت العالم العربي لفترة طويلة، وحولته إلى ثكنة من الزعيق والخطب الرنانة والشعارات والأخبار السرية المسربة عن كهوف الاعتقال ومعتقلات التعذيب، وردود الفعل الفورية والخرقاء الخالية من الروية والتفكير والإحساس بعمق المسؤولية اتجاه الشعوب ومستقبلها. غالبية هذه الأنظمة قد تهاوت أو هي في طريقها بعدما اختلست من العالم نصف قرن من الخرافات والخزعبلات، وطنطنة الصفوف وانضباط المهاجع وزعيق.....