ان أهم سمات العولمة، وهي تحرير التجارة في السلع والخدمات والتدفق المتزايد غير المقيد لرؤوس الأموال عبر الحدود، لم تكن بأي حال تطورات حتمية، بل انها كانت أشبه بالمفاجأة للكثيرين ممن يدرسون الاقتصاد السياسي وهو الاقتصاد الذي يحوي العديد من الأمثلة على الحالات التي نجحت فيها جماعات المصالح القوية من دفع الحكومات الى اتباع سياسات تقيّد التجارة وتقلِّل من الدخل الوطني. ونادرا ما كانت التجارة الحرة تلقى تأييدا واسعا وقد حفل تاريخ التجارة بما يبعث على خيبة الأمل، حتى خلال العقود الخمسة الماضية التي كانت فترة لنمو مرموق في التجارة العالمية. وقد كانت الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة الجات التي وقعت في سنة 1947م في نظر كثير من الاقتصاديين تمثل حلا وسطا وقد حققت أكبر نجاحاتها في أوائل عقد الستينات. وبحلول عقد السبعينات كان هناك اتفاق عام على ان الجات اخذت تلفظ انفاسها. وفي منتصف عقد الثمانينات خلص كبار خبراء التجارة مرة أخرى الى ان الجات في حالة تفكك، وبدأ ان جولة لأورجواي لمفاوضات التجارة، التي بدأت في سنة 1986م محكوم عليها بالفشل. وفي سنة 1993م تحدث باتريك لو وهو من المسؤولين السابقين في الجات عن ضعف النهج متعدد الأطراف في العلاقات التجارية، وعن الموت القريب للجات وعزا تدهور الجات الى التصرفات التراكمية من جانب الحكومات. وفي سنة 1995م، وفي ذلك الوقت اعتقد الكثيرون ان امريكا سوف تتجاهل منظمة التجارة العالمية، وتستمر في ممارسة قوتها بصورة متفردة, لكن، تلك التوقعات كانت خاطئة، فقد قبلت امريكا أول حكم أصدرته منظمة التجارة العالمية ضدها وفي سنة 1997م، وعلى الرغم من انتشار التشاؤم بشأن احتمال التوصل الى اتفاق متعدد الأطراف حول الخدمات المالية، تم التوصل الى ذلك الاتفاق بالفعل. وفي عقد التسعينات، بدأ عدد من البلدان النامية في تحرير حسابات رأس المال لديه، في محاولة لاجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية. يقول هارولد جيمس رغم ذلك، اثيرت التساؤلات مرة أخرى حول الحكمة من تحرير التجارة وتحركات رؤوس الأموال؟! الحقيقة، انه كثيرا ما يصور الباحثون العولمة على انها عملية لا يمكن الرجوع عنها، أي انها طريق ذو اتجاه واحد نحو المستقبل, ولكن الدراسة المتأنية يمكن ان تؤدي الى نتائج أقرب الى الواقع. لذا، ينبع رد الفعل الحالي المناهض للعولمة من مصادر رئيسية، لكل منها اشباهه التاريخية، ومن ذلك:- * أن اقتصاد السوق والتغيّر الاقتصادي السريع لايلائمان الصفوة وهناك تشابه دقيق بين هذه الصفوة والفئات الارستقراطية في أوروبا فيما قبل عصر الصناعة. * أنه في فترة التحول التقني والاقتصادي السريع تكون رؤية من يخسرون أسهل من رؤية من يكسبون في نهاية المطاف، نظرا لصعوبة التنبوء بالمستقبل, كما حدث بالنسبة للنساجين، الذين كانوا يستخدمون النول اليدوي في القرن التاسع عشر في أوروبا, أي ان هناك دائما احتمال ان يتمرد الخاسرون. * ربما يكون دافع بعض من ينتقدون العولمة، الرغبة في فشل عملية التعاون المفيد لمختلف الأطراف، ليس لأن هذا الفشل يفيدهم، بل لأنه يضر بعض الأطراف الأخرى أصحاب المصالح. * موقف قشرة الموز، فنحن عندما ننزلق نسب العالم كله، اذ عندما تقع أحداث غير متوقعة وغير مربحة يلقي الكثيرون باللوم على النظام في مجموعه ويشرعون في البحث عن أنظمة بديلة. والانزلاق بسبب قشرة الموز يكون أحيانا أمرا يصعب تجنبه, ويمكن ان نتصور ان التوافق الاقتصادي الجديد سوف يواجه أزمات نقدية ومالية شديدة لا محالة لأن اقتصادات السوق اقتصادات نابضة بالحياة، لكنها تنطوي أيضا على عوامل تدعو للقلق. فقد أدت اضطرابات منتصف عقد التسعينات الى زيادة التشاؤم بشأن العولمة, وكما حدث في عقد الثلاثينات أصبحت الأموال الذكية خاضعة للسيطرة وليس لازالة الضوابط. وشرع بعض كبار المتعاملين في السوق في الدعوة الى فرض ضوابط على رؤوس الأموال, لذا، يبذل السياسيون باستمرار جهودا مكثفة للاهتداء الى طريق ثالث. لقد كان الكساد العظيم الذي انمى التجربة العالمية الأولى في العولمة، نتيجة لنقاط الضعف المالية التي اصيبت بها نفس المؤسسات التي انشئت لتوفير الحماية من تأثير العولمة. ختاما أقول: هل نحن نعيش الآن في عصر كساد حقيقي, واذا كان الأمر كذلك فقد يترتب عليه ارتداد كامل عن تحرير الاقتصاد. فالحذر الحذر ان العولمة في خطر، أو هي الخطر؟!!! * عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عضو الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية.