لم تكن الليبرالية محل إجماع بين المفكرين الغربيين، فقد رفضها هويز، وعظم من شأن سلطة الدولة، حتى أولئك الذين تبنوا الفكرة - وهم الأكثرية - اضطربوا في تحديد نطاقها ورسم حدودها، بعد أن لمسوا كثيرا من الخلل في التطبيق. فالحرية المطلقة التي تدعو إليها الليبرالية تتعارض مع قيم أخرى، كالعدالة والمساواة، بل وحريات الآخرين، لذا فقد حاول (جون ستيورات ميل) أن يجد معادلة توفق بين الليبرالية والديمقراطية، فلم يسمح بتقييد حرية فرد ما، إلا لمنع ضرر واضح يلحق بالآخرين، نتيجة تصرف هذا الفرد.. وقد ميز جون ميل بين الحيز الخاص والحيز العام، فأعطى الفرد حرية مطلقة في الحيز الأول، وسمح للدولة بأن تتدخل فقط فيما يتعلق بالحيز الثاني. فهذا التقييد للحرية بهذا التقسيم، يتنافى مع الحرية المطلقة والاستقلالية التامة، لكن الفكر الليبرالي أدرك أهمية هذا التقيد، وإلا فلن تكون الليبرالية حلاً صحيحاً، متلائماً مع حاجات الفرد قبل حاجات الجماعة، فحرية الفرد لا يصح أن تكون سبباً في شقاء الفرد الآخر، كما لا تصح أن تكون سبباً في إلغاء حرية الفرد الآخر فما من حرية مطلقة ينادى بها للفرد، إلا وفيها إلغاء لحرية فرد آخر!! فهذا الشعار الجميل في مظهره، يحمل في تطبيقاته مشاكل كثيرة، شعر بها وعاشها دعاتها وشعوب أوروبا، ولذا اضطروا، كما رأينا، إلى قيد: عدم الإضرار بالآخر. فالحرية جميلة، والقيد لا بد منه، لكن الخلاف حول معنى (الحرية)، وحد القيد المحدد للحرية، وإذا كان الفكر الليبرالي يرى الحل الديمقراطي هو الأمثل والبديل المناسب للملكية القسرية، فإن التجربة الديمقراطية أثبتت أنها ليست إلا وجهاً جديداً للحكم الملكي الدكتاتوري! فالسلبيات التي كانت تنشأ عن الحكم الملكي عادت في ظل حكم الأغلبية، فما الذي يمنع الأغلبية أن تمارس طغيانها الخاص، كما مارس الحكم الملكي طغيانه الخاص؟! والتجربة أثبتت أن رقابة المجتمع في ظل الديمقراطية، لم تفد شيئاً ذا بال، فالمشاكل متفاقمة، والتلاعب مستمر، وإذا ذهب وجه ديمقراطي منتخب بإسقاطه لطغيانه، جاء وجه آخر، يمارس نفس الدور، في حلقة مفرغة، ودورة مستمرة لا تنتهي.وقد شعر بهذه المشكلة كبار الليبراليين والقانونيين: فقد أدرك ملّ أن مشكلة تسلط طغيان الأكثرية أو من يمثلها في النظام الديمقراطي، والحل الدستوري (عبر القوانين وإصلاح المؤسسات، وإنشاء المحاكم العليا، وتعدد الأكثريات من خلال النسق التعاقبي للانتخابات الخ..) لا يحل المشكلة كلياً.. حتى لو تأكدنا أن الديمقراطية دستورية، يبقى، في نهاية المطاف، الدستور وتقرير أحكامه في يد الأكثرية! وقد أدرك (توماس جيفرسون) 1743 - 1826 هذه الحقيقة قبل (ملّ) (وتوكفيل) و(توماس جرين) 1836 - 1882 و(كونستانت) وغيرهم ممن أدركوا طبيعة هذه المشكلة وأبعادها.. ففي نص القانون الذي يحمي حرية العبادة (كتبه جيفرسون عام 1779، وصدقه المجلس الاشتراكي لولاية فرجينيا في العام 1786) ورد في الفقرة الأخيرة ما معناه: نحن ندرك في هذا المجلس، الذي انتخبه الشعب لاشتراع القوانين، أن لا سلطة لنا على المجالس اللاحقة، التي سوف تنتخب بعدنا، ويكون لها صلاحية قانونية، ولا نستطيع أن نجعل هذا القانون الذي اشترعناه اليوم غير قابل للنقض في المستقبل، وإن نحن فعلنا ذلك فلا يكون هذا صفة قانونية ملزمة، ولكننا نعلن أن كل من ينقض هذا القانون أو يلغيه أو يحد منه، إنما ينتهك حقوقاً للإنسان طبيعية). وقول (جيفرسون) هذا يشير بوضوح إلى أنه أدرك أن الضمانة لا تكون في النهاية إلا بوعي المواطنين وبحكمتهم وأخلاقيتهم.. ولم يجد جيفرسون في يده حيلة سوى العودة إلى مفهوم حقوق الإنسان الطبيعية. فهذه شهادة الليبراليين بعجز هذه المجالس النيابية الديمقراطية الليبرالية عن حفظ حقوق الإنسان الطبيعية، لو فرضنا أنها في إحدى الدورات ضمنت هذه الحقوق، إلا أنه لا ضمان في دوامها في المجالس التالية. مثل هذه الفكرة يجب أن نطرحها حول مشروعية الدستور الوضعي لماذا يفرض علينا أناس ماتوا أفكارهم ومعتقداتهم، التي ربما تناسب عصرهم ولا تناسب عصرنا،؟ سيقول قائل إن من حقنا تغيير الدستور.. هذا لا يحدث، لأن فئة المنتفعين بالقوانين الغبية تستميت في الدفاع عنه.. كما أن تغيير الدستور على فترات متقاربة سيزيل قداسته واحترامه من عقول الناس، لانه سيبدو كمجموعة مهلهلة متناقضة من الأفكار المنتقدة.. أعتقد أن هذا هو أحد الأسباب المهمة التي جعلت الحكومات العلمانية في الدول العربية تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. مع أن هذا لا ينطبق على الواقع الذي يطبقونه، وذلك حتى يكسبوا الدستور صفة الثبات والقداسة في عقول الناس، بربطه بفكرة عقائدية!! باحث في الشؤون الدولية ومدير العلاقات العامة مركز الدراسات العربي الأوروبي- باريس e-mail:anaa [email protected]