ومهما اقتربنا أو افترقنا في وجهات النظر فإن نتائج الانتخابات تدل على أن الشعب الأمريكي يعيش حالة من الإحباط والتردد واليأس واللامبالاة، إذ لو حسم أمره، لكان كل من يحق له الانتخاب متمتعاً بحقه في التصويت، ولكان أحد المرشحين مكتسحاً للآخر، ولست مع الذين يحتجون بأن (بوش) فاز بالأصوات الشعبية، بحيث فاق خصمه بأكثر من ثلاثة ملايين صوت، وهي التي لم يحصل عليها مع (آل جور) ، وهو قد فاز بالولايات أيضاً، ففوزه في نظر المحتجين مضاعف، ولست مع الذين يأنسون بارتفاع نسبة الناخبين عن ذي قبل. تلك الرؤى وإن كان لها ما يبررها، إلا أنها رؤى تواجه برؤى أخرى تفلُّها، وقد تضعف من قيمتها، ولقد قيل إن السباق إلى (البيت الأبيض) تجاوز التنافس الشخصي إلى التنافس الحزبي، فالشعب الأمريكي فاضل بين الحزبين، ولم يفاضل بين المرشحين، والقائلون بهذا ينظرون إلى ظفر الحزب الجمهوري بأكثر المقاعد التشريعية، والمعروف من خلال تعاقب الحزبين أن اهتمامات (الجمهوريين) خارجية، وذات نفس إمبراطوري، فيما تجيء اهتمامات (الديمقراطيين) داخلية، وذات نفس تحرري، يتعلق بالأحوال الشخصية، وليست السمة على إطلاقها، ولكنها قائمة ومتداولة، ولو أخذت فترات (ريجان) و(البوشين) : الأب والابن بإزاء فترتي (بيل كلنتون) لكان أن تجلت الفوارق الجذرية التي قد لا يرصدها إلا من دقت ملاحظاتهم وبعدت نظراتهم. و (بوش) الذي يستقبل فترة رئاسية ثانية، بفضل (الحزب) أو (الدين) أو (الحرب) الملوحة بشبح (الفتنمة) تواجهه إشكاليات، لم تحصل لمن سبقه، أخطرها: تخفيف حدة التصدع المخيف في الوحدة الموقفية الأمريكية من فلسفة الانتخابات واتجاهاتها، والخلوص من مآزق التدخلات العسكرية المأساوية التي ضاعفت الخسائر البشرية والمادية وأضعفت السمعة، وتخليص النظام العالمي الجديد من عقدة الولاء المطلق لأمريكا، والتخلص من نعرة القوة ونشوة القطبية، وتحديد مفهوم الأمن القومي، بحيث لا يشمل (إسرائيل) والأطماع ومواطن النفوذ، وفك الاختناقات الاقتصادية، والعودة الطوعية لسلطة المؤسسات العالمية، وحماية قراراتها واحترامها، وفوق كل ذلك تحقيق أفكار الدستور الأمريكي ومُثُله، وتمثله عقيدة ومنهج حياة، كما هي مفصلة في كتاب (مورتمرج أدلر) (الدستور الأمريكي أفكاره ومثله) ، وكل واحدة من هذه الإشكاليات تحتاج إلى فريق عمل يختلف عما سواه، ولا أحسب فريق الصقور المندفع بقادر على أن يحسم هذه الأولويات الملحة، ولا أحسبه مستعداً لنقل القضايا من ميادين الحرب إلى قاعات المناقشة. إن انتصار (بوش) المتواضع في الفترتين مؤشر اضطراب وتردد في الفكر الأمريكي، وخوف من عقابيل الحروب التي كاد ينفرد بها (الحزب الجمهوري) وفريق الصقور الذي ظهر استئثاره بالحقائب المهمة بعد موجة الاستقالات، واستبداده في التصرف إلى حد جعل الكتّاب والمحللين الأمريكيين يوغلون في الذم، والسخرية والتخوف، وتلك سابقة غير معهودة من قبل، وحين نستدعي الفترتين الرئاسيتين ل (كلنتون) نلفيهما قد شهدنا ضربات خاطفة، مع ما تحقق من فائض فاق الأربعمائة مليار دولار، فيما تجاوز العجز في فترة (بوش) الستمائة مليار، إضافة إلى حرب خاسرة: على الصعيدين الحسي والمعنوي. وقد يتفاقم تصدع الذهنية الأمريكية بعد فشل الحكومة في محاربة الإرهاب، وذهاب السمعة، واستفحال الكره العالمي، ليكون بداية حرب ثقافية على الأقل، وكل حرب أهلية أو اضطراب داخلي، لا يمكن أن يأتي من فراغ، وفوق هذا فإن أصحاب القرار في المؤسسة الأمريكية يتعرضون بممارساتهم التوسعية والعسكرية لأسباب سقوط الإمبراطوريات، فكل الإمبراطوريات أنهتها الحروب التوسعية وتصعيد العداوات، ومن تعقَّب أسباب سقوط الدول وجدها ربيبة الظلم وغطرسة القوة، والشعب الأمريكي المختلف حول أهلية المرشحين بهذا القدر لن يدع الأمور تمضي كما يريد الحاكم بأمره، إن هذا الوضع غير السوي ينطوي على حرب شرسة: ثقافية وسياسية. ولن يطفئ لظاها إلا شخصية تنتزع الثقة, وتكتسح الخصم من أول يوم. أما أسلوب الضربات الترجيحية فإنها تشكل عذابات للضمير الأمريكي المرتبك، وحين لا يكون الانتصار كاسحاً، يعيش الطرفان حالة من الإحباط، وبراعة الأحزاب في دراسة النفسيات، وإتقان الفن الدعائي يأتي بالعجائب، ولكن تكافؤ الفرص والإمكانيات تكون كما سباق الجريمة، كلما خرج المكافح بأسلوب حاذق جاء المجرم بحيلة أحذق، وهكذا. والحزب الجمهوري لا شك أنه ببراعته وتجربته استثمر أخلاقيات اليمين المتطرف، لكسب العاطفة الدينية، وبخاصة أنه سيقف ضد مشروعين قذرين: (مشروع الشذوذ) و (مشروع الإجهاض) . إلا أن أولويات الشعب الأمريكي فيما رأى، تتجه صوب شيئين آخرين هما: (الاقتصاد القوي) و (الأمن القومي) . وهو ما لم يكن من أوليات الرئيس (بوش) وحزبه، وبخاصة أنه يعيش حالة الحرب الخاسرة على كل الصعد، وهي حرب تصب في صالح الصهيونية وتفقد أمريكا زعامتها النزيهة للعالم، وإن صمت الكبار، وشايع الصغار، فيما تتضاعف ديون الدولة بمئات المليارات، ولمَّا يستفد (بوش) وإدارته من المعالجات الحكيمة التي مارستها الحكومات الأمريكية السابقة، وحققت لها ولحلفائها مكاسب لا تخطر على البال، دون إراقة الدماء، أو تعميق للكره، فهذا (هنري كيسنجر) مهندس أعنف الحروب الباردة ينجح في فرض إرادة حكومته في قبول طريق السلام، وتنفيذ أخطر اللعب السياسية، ولقد جسد بعض ذلك في كتابه (درب السلام الصعب) ومن قبله (روبرت مكنمارا) في كتابه (ما بعد الحرب الباردة) والذي ذهب فيه إلى أن الأمن الحقيقي هو المؤسس على (قواعد القانون) الذي يحكم علاقات الأمم، ولا يحتاج إلى ضربات وقائية أو استباقية، وهو ما لم يأخذ به (بوش) ، وكذلك كتاب الرئيس (ريتشارد نيكسون) (السلام الحقيقي) ، وكم أتمنى لو تمكن (بوش) من استظهار هذا الكتاب الذي يعد عصارة تجربة رئاسية عظيمة، لم يكتب لها الاستمرار، بسبب ممارسة بسيطة، أعطيت أكبر من حجمها، فأسقطت أحكم وأنجح رئيس معاصر، إن فائدة هذا الكتاب قائمة على الرغم من ذهاب (الاتحاد السوفييتي) الذي يضرب به الرئيس الأمثال. والذين يتحسسون عن أسباب نجاح (بوش) بالانتخابات في ظل أوراقه الخاسرة، تضطرب مفاهيمهم وتختل مقاييسهم، فهل كان (بوش) بطلاً قومياً انتصر لأمته يوم أن ضُربت قوتها: الاقتصادية والعسكرية؟ أم كان مغامراً ينكبّ عن ذكر العواقب جانباً؟ إن مواجهة (بوش) للإرهاب لم تكن متأنية ولا محدودة، ولا مدروسة، ومن ثم أصابت أقواماً ليسوا مع الإرهاب، فضلاً عن أن يكونوا فاعلين له، إن خسارة (بوش) بهذه المغامرة الخطرة، وبما مهد لها من تصريحات استفزازية ومواقف حدية، وخطابات اشمأز منها العالم الإسلامي، وتوقع منها كارثة عالمية، حتى لقد استساغ الكتّاب الأمريكيون أن يقولوا عن (بوش) وفريقه: إنهما الوجه الآخر للإرهاب، أو أنه و (ابن لادن) وجهان لعملة واحدة، ومثل هذا القول ينطوي على خطورة ذهنية، لأنه لا ينطلق من فراغ. وتداعيات هذه الأقوال تحيل إلى خروج (بوش) على الأعراف السياسية، وقفزه على المؤسسات العالمية، لقد غامر في خوض حرب شرسة، أدت إلى فراغات دستورية في دولتين منهكتين من قبل، فهو في أفغانستان يطارد أشباحاً ويصب جام غضبه على الكهوف والمغارات والأودية ومنابت الشجر، وتلك الحرب مدانة عالمياً، وإن سايرها البعض رهبة لا رغبة، ولا أحسب الشعب الأمريكي من الغباء بحيث ينظر إلى (بوش) على أنه بطل قومي، وأن هذه البطولة مكنته من الفوز. ولقد عمد البعض إلى تلمس الروح العدوانية السلطوية الإبادية عند الشعب الأمريكي، واتخذ طريق الفلسفة التحليلية الاسترجاعية، جاء ذلك في مستهل كتاب (هيكل) الأخير عن أمريكا، وفي ذلك تمحل طريف، لقد خاض (بوش) حربين مجانيتين، فقَدَ فيهما المال والرجال والسمعة، ولم يكن العائد متكافئاً مع ما أنفقه من مال، وما أزهقه من أنفس، وما قضى عليه من بنية تحتية، ستظل أطلالها شاهد بشاعة ووحشية، ولا أحسب تلك المغامرة غير الإنسانية إلا معجلة بالوجود (الصيني) و (التكتل الأوروبي) ليكونا بديلين عن (الاتحاد السوفييتي) المنهار، وسوف يعجل الخصم الإسلامي بظهورهما، كما عجل من قبل بسقوط (الاتحاد السوفييتي) ، وكل مستخف بالقوة الإسلامية المعنوية والبشرية لا يمكن أن يظفر بقيادة العالم، وبظهور الأنداد تفقد أمريكا لذة القطب الواحد، ثم لا يكون لعمليتي (المحو والإثبات) أي قيمة، وبالفعل فإن القول بجلب الديمقراطية والحرية وتخليص الشعوب من تسلط الحكام، تكشفت عن خدعة ممجوجة، لا تثبت أمام الحقائق الدامغة، وإن انطلت على البسطاء من الناس والمتسطحين من الكتبة، وما أضر بقضايا الأمة إلا المختصمون حول الضحية، والعدول عن المعتدي، وتلك الخليقة من مؤشرات قابلية الاستعمار، ومن المؤلم للناخب الأمريكي أن تتحرك أقوى آلة عسكرية في العالم لمواجهة أمتين إسلاميتين منهكتين، تحت أغطية زائفة، كمكافحة الإرهاب، أو منع سباق التسلح، أو تعزيز الأمن القومي، أو تغيير الأنظمة أو إصلاحها، والحق أن تحريك تلك الأساطيل المرعبة ما كان إلا لحفظ التوازن بين دول المنطقة و(إسرائيل) ، واحتواء المغردين خارج السرب بالقوة، وهل أحد يقبل أن يكون دون إسرائيل في القوة، وهي لا تشكل نصف سكان عاصمة عربية واحدة ك(القاهرة) . وحين نسلم بأن (بوش) ليس بطلاً، وإنما هو مغامر بقوته وسمعته ومجازف بعلاقاته مع الأصدقاء والحلفاء، فإن طائفة أخرى ترى أن فوزه بوصفه الرئيس المتدين الأخلاقي الذي لن يعرض أخلاقيات الشعب الأمريكي لدعوات الشاذين جنسياً والمتوحشات الداعيات إلى الإجهاض، وهذا التعويل الساذج يواجه بفوز (كلنتون) لفترتين رئاسيتين، وهو رجل لا أخلاقي، لا في سلوكه، ولا في اهتماماته لدى الناخب الأمريكي. وحين نسقط السببين السابقين، أو حين يسقطان أمام ضربات الحقائق، تبقى حيثيات واهية، لا تستحق الاستعراض، لعل من أهمها اللعبة الإعلامية التي زرعت الرعب في قلب الأمريكي من ضربات الإرهاب في عمق الأراضي الأمريكية، و (بوش) الذي كذب على الأمة الأمريكية بمبررات التدخل العسكري في (العراق) لم يحاسبه الرأي العام الأمريكي على كذبته، وهو قد أرهق (كلنتون) في كذبة إنسانية، لأنه أراد المحافظة على صفاء العلاقة الزوجية، وأرغم (نيكسون) على الاستقالة في أعقاب عملية (التصنت) ، والسبب بسيط، ذلك أن وراء الأكاذيب (لوبيات) تضخم ما تشاء، وتهون ما تشاء، للإبقاء على ما تريد، ونفي ما لا تريد، والشعب الأمريكي عاطفي، يلهث وراء الإعلام، وأحسب أن كلاً من (ماكس سكيدمور) و (مارشال كارتر دانك) بحاجة إلى إعادة النظر في كتابهما (كيف تُحكم أمريكا) ، ذلك أن الحاكم المستبد هو (اللوبيات) و (جماعات الضغط) و (اليمين المتطرف) الذي يمثله جماعة الصقور، ولم يكن شيئاً غير ذلك، وإن كانا قد تحدثا عن (مجموعة أصحاب المصالح) وتأثير جماعات الضغط في السياسة. إن الفترة الثانية ل (بوش) ستكون رهينة المجازفات العسكرية في الفترة الأولى، وهي فترة ستسبب له ولحكومته وللعشب الأمريكي الكثير من المتاعب والكثير من الخسائر: المعنوية والحسية. لقد أومأ (روبرت مكنمارا) إلى جرائر خمس وعشرين حرباً دائرة في العالم خلال عام 1988م وكانت ممولة من القطبين. إن من يقرأ كتابه يتصور أنه يتحدث عن فترة (بوش) الأولى، وأياً ما كان (المحو والإثبات) و (خطابات الكسب) و (كسب الخطاب) فإن الشعب العربي بحاجة إلى أن يرتد إلى الداخل في عملية مكاشفة شجاعة مع النفس، وتقويم منطقي للواقع والمستقبل، ومراجعة جريئة للمناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعلامية، وبحاجة ماسة إلى تنازلات في الآراء والتصورات والمواقف ليكون في مستوى الأحداث الرهيبة القائمة والمرتقبة، وهي أحداث لا يستخف بها إلا خلي يتصور الثبات في الأحوال، وبخاصة أن أمريكا ومن ورائها الصهيونية العالمية ترى أن الأمن القومي ذو ثلاث شعب: (أمن قومي) و (أمن صهيوني) و (أمن مصلحي) . وأن الضربات الاستباقية والوقائية ستطول كل من تسول له نفسه التأثير على الأمن القومي بمفهومه الجديد، ولابد -والحالة تلك- من اتخاذ موقف متقارب، ينطلق من الواقع، ويحسب للإمكانيات حسابها، لعل ذلك يحد من تدهور العلاقات العربية العربية، وعلاقاتهم مجتمعين مع الآخر، ويفكر بالتخلص من بدائية المؤسسة السياسية واستبدادها، ثم يصوغ خطاب المواجهة، لتجميع الأشلاء، وتنقية الأجواء، واحتماء الاعتداء في زمن الصمت العالمي المداري إلى حد الخوف، ولا بد أن يكون من أولويات الصياغة الدفاع عن الإسلام ومؤسساته الدعوية والخيرية بوصفه القوة المعنوية التي لا تقهر، والمشروع الحضاري الذي لا يتسع للعنف، وليس في يد الأمة ورقة رابحة إلا الخطاب الإسلامي الوسطي التسامحي الجانح للسلام، الخطاب الذي يستبعد العنف، ويتخلص من مأزق المفاضلة والتصدير، وليس الطائفي الحزبي الثوري التصادمي المتشنج، ولن يتحقق الاعتراض الشجاع من الدول الكبرى، حتى يسمعوا أصواتاً عربية متداعية، تمثل حضارة تشاطر العالم في بناء الأمن والاستقرار العالمي، فالإسلام لا يريد للإنسانية أن تعيش الخوف والتسلط والعبودية والاستبداد، الإسلام ينطلق من تكريم بني آدم أولاً، ثم دعوتهم إلى ما يحييهم ثانياً، وإبلاغ كل سامع لكلام الله مأمنه، إنه خطاب إنساني حضاري ينبع من فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأي خطاب قطري أو طائفي أو قومي سيكون في النهاية لقمة سائغة للآخرين.