جرت عادتي على أن أنحي الصحف والمجلات في هذا الشهر المبارك شهر رمضان لأفرغ لما هو أجل منها ومن سواها من الكتب. وفي أواخر هذا الشهر المبارك من هذا العام 1425ه الموافق 2004م أنبأني ابننا الشيخ محمد بن راشد الخنين بوفاة أحد الأحباب وهو الشيخ الفقيه والخطيب والشاعر محمد بن عبدالله المبارك - رحمه الله - الذي توفي في 2 رمضان 1425ه. فلما انقضى شهر رمضان عدت إلى ما كنت فيه من قبله، ومن ذلك قراءة ما جمع من مقالات وأحاديث، وكان منها ما كتب عن الشيخ الصديق محمد بن عبدالله المبارك - رحمه الله - ومنه ما أمدني به ابننا الشيخ محمد بن راشد الخنين. ولقد عرفت حين بلغني هذا الخبر سر عدم مهاتفته - رحمه الله - في بداية الشهر الكريم حيث كان يبدأني في جميع المناسبات بالمهاتفة خلا هذا العام. قد تقول، ولماذا لم تهاتفه؟ والواقع أني كنت أشفق عليه في أيامه الأخيرة إذ كنت أحس أنه كان يثقل عليه الكلام، إلى كوني أعلل النفس بزيارته، وهو أمل لم يتحقق على الرغم من شوقي، وإلحاحه - رحمه الله - لقد كان - رحمه الله - لطيف المعشر عذب الحديث حلو المفاكهة على الرغم من كونه إماما لجامع الإمام فيصل بن تركي في الأحساء وعاقد أنكحة حيث يكون للتوقر مكانه المناسب عند من يقوم هذا المقام. ولقد كان رقيق القلب مرهف الحس والشعور، تسابق الدمعة عبرته حين ذكر الموعظة أو ذكر الراحلين من الأحباب والأخلاء، ومثل هذا يكون في الغالب شاعرا، وقد كان كذلك، وإن كان جل شعره في الإخوانيات وما أشبهها من سائر الأغراض. فعلى سبيل المثال كان للشيخ - رحمه الله - نصيبه من شعر الغزل، إذا ذكر ذلك عنده طَرِبَ له على الرغم من كون بعضهم يظنون أن من كان في مثل مقامه لا يصير إلى مثل هذا الغرض، وإن صار إليه فإنه لا يذيعه. فإذا كان البعض يظنون مثل هذا الظن، فإن الشيخ - رحمه الله - على خلاف ما كانوا يظنون إنه ينظم في كل الأغراض بلا تحفظ لكونه لا يأتي في مقاله بما يخرج على المفاهيم الإسلامية، ولذا يمكن القول :إن جميع شعره من باب الأدب الإسلامي. وقد لا يكون هذا مما خطر بباله، إلا أنه أتى على هذا النحو من النظافة والجمال الذي كان يطربنا حينما يسمعنا شيئا منه بعد إلحاحنا في الطلب. وحين يكون المقام للنصح والإرشاد والوعظ والتوجيه، فإنك تسمع منه حديث العالم المتبحر في علوم الشريعة واللغة على حد سواء، حتى إنك لتعجب من انثيال الأفكار السامية والألفاظ الملائمة لتلك الأفكار تجري على لسانه من غير تكلف ولا تعمل ولا تمحل، كأنما أعدها سلفا فهو يسوقها سوق المعد والمجد، وإن كان كلامه جاريا على البديهة، منقادا للارتجال في مسارب المقال عبر الأحوال. يتصدى للحديث، وكأنه قد أعد له عدته لا فرق في ذلك عنده بين منظومه ومنثوره. مواهب من الباري منَّ بها عليه لو أنه استثمرها في الإبداع والتأليف لكان له من الشأن أكثر مما حظي به، وما صرفه عن ذلك إلا المبالغة في التواضع، فليته لم يفعل، إذن لخلف من الآثار ما سيكون فيه نفع كثير. لقد جمع الشيخ محمد بن عبدالله المبارك من خصال الفضل والنبل ما سيظل مذكرا به كلما ذكرت هذه الصفات، وكلما ذكر ذوو النبل والشرف والمعروف. فلقد كان - رحمه الله - من الرجال المميزين في ذلك كله، فكان منصفا للناس من نفسه باذلا لهم كل ما في وسعه لا تراه إلا بشوشا منشرح الصدر مشيعا في النفوس البهجة والائتناس. هل كان في داخل نفسه كذلك؟ ربما وربما لم يكن كذلك، ولكنه يحمل نفسه على ما يشيع الفرحة في نفوس الآخرين، و إن كان في داخله يعيش خلاف ذلك حتى بعدما أدركه المرض فوهنت أعضاؤه ووهن لسانه لم تفارقه تلك الخلال فلقد كان يعمل الهاتف في الاتصال بالآخرين، وكان المفروض أن يتصلوا هم به لكونه في وضع يوجب تعهده والسؤال عنه، ولكنه كان إلى ذلك أسبق انقيادا لما ألفه وهو في كامل صحته. وكان - رحمه الله - يرتاح كثيرا لسماع الشعر وإلى تبادل الإخوانيات مع الآخرين، ومن ذلك ما كان بيني وبينه من محاورات كان منها هذه الأبيات التي أقبسها من قصيدتين وإنما قبست من هاتين لكونهما قد نشرتا في إحدى صحفنا. يا شيخ نام الهوى الإخوانيات من أجمل ما يصنعه الأدباء ولقد كانت بيني وبين الشيخ محمد المبارك من المداعبات ما قد يعد من هذا الباب ولذا خاطبته في هذه الأبيات مداعبا فضيتله بما يحسن الارتياح إليه ومن منا لا يرتاح إلى مثل هذا: عدنا لروض زهاه العلم والأدب زرناه في سالف غنيته نغما أوحت به باسقات في شمائلها أفياؤها رحبة الأكناف باردة كأنها مائسات الغيد في فرح منسفات على الأكتاف منسرحا كأنها من حرير الهند قد صنعت ياابن المبارك ماذا عن خلائق من فأنت أدرى وشيخ الشعر أعلمنا يا شيخ نام الهوى من بعد ما عبقت مالي وللغيد هل في القلب متسع قلبي أسير لم لا أصطفي بدلا دفنت فيها شبابا لو لطفت به مضى حميدا وخلاني على نصبي يا شيخ بانت أحاديث الشباب لنا نصغي إلى همسة الذكرى على ظمأ نجترها ذكريات تستبد بنا حينا تهيج بنا آهات مغترب لا شيء إلا أحاديث منمنمة فاشرب إذا إذا شتت آلا لست تمسكه وأنت في بلدة تنسي تذكر ما دار تعهدت الآداب من زمن ومعشر فضلهم يزهى به الحسب لم أدر أن كان في أعطافه الطرب شمائل القوم لم يخلص لها الكذب تميس من فوقها في فرحها العسب هاج القدود إلى تعطيفها اللعب ضفائرا حسنها يهفو له الهدب موج من السحر فياض به العجب غنيتهن قصيدا نفحه اللهب؟ والشعر أنفاس روح عضها السغب أشذاؤه وانطوى في دربه الخبب إلا لما يصطفيه الفكر والأدب منه فقد لفه القرطاس والكتب؟ لم أنتبذ كل ما يهفو له الطرب آه لمن هده في شيبه النصب! أشهى تعلاتنا والشيب يصطخب يغري بنا الآل حتى يهدأ اللهب نبكي ونضحك منها وهي تضطرب وتارة تنطوي في سعيها الحجب يحلو لدى الشيب من أنفاسها الشنب حتى ترشف أولا فهو منسكب قد فات فاهنأ ففيها يدفن اللغب يكاد من خصبها أن يورق الكرب وكان جواب الشيخ المبارك: (تشرفت بتناولي قصيدة في مجال الإخوانيات والمداعبات من شيخنا الدكتور محمد بن سعد بن حسين والذي شرف البلاد ليقوم بزيارة إخوانه وأحبابه في الأحساء، وتليت هذه القصيدة العصماء وهزتني لقوة مبناها ولطف معناها وهدفها السامي وقدرته الفذة على صياغة المطلوب مع حلاوة الأسلوب وأردت أن أرد له الجميل ببعض الأبيات المتواضعة. بيانكم صافح الأرواح أهلا وسهلا بكم نسمو وننتدب يا ابن الحسين هنا هجر تبادلكم تقوم مكبرة تشريفكم بلدا قصيدكم حيث شرفتم مرابعنا وهذه منك يا شيخي إلى بلدي قصيدكم في ربا هجر مرابعها وذكركم لبني هجر ومدحكم وشعرك الممرع الايقاع منطلق فيه الخيال له الأنغام طيعة بيانكم صافح الأرواح في شغف وما أشرتم إليه من جنوحك عن وإنك اخترت قرطاسا ومكتبة لبذلك العمر في تخليد مأثرة فأنت أهل لما يممت من خطط وإن أحياءكم في هجر أمسية جاءت لتوضح نور الدين في حجج شكرا لدكتورنا ابن الحسين بما شكرا لكم يا رجال الفكر حيث أتى لينهلوا سلسبيلا في حضورهم أدام ربي لنا هذا اللقاء بكم لدوحة العلم في هجر ولا عجب شوقا بشوق وأهلوها لكم تثب غمرتموها بفضل دام ينسكب صداه لا زال قد سارت به النجب وأهلها غرة ضاءت بها الكتب ونخلها وعيون الماء تضطرب لأهل ودلكم قد زانه أدب تمليه عين الرضا والمنطق الذرب فيه لواعج شوق سعيها خبب لسمعه أصغت الآذان والسحب ذكر الهوى حيث لاح الشيب والتعب فيها يراعك يملي ماله يجب جلى بها ترفع الأعلام والرتب بها لكم ترفع الأستار والحجب عن ديننا درر قد زانها ذهب يذوب في شمسها التضليل والكذب أسدى لنا وبما جادت به الخطب جمع غفير هنا يحدوهم الرغب في منتدى حفه الاجلال والأدب في حلبة لبنات الفكر تصطحب