كانت الأمم السابقة تعرف الأعياد لهواً ولعباً، وشراباً وطرباً، بل إن بعض الأديان القديمة كانت تتخذ أعيادها الدينية من مادة الإباحية المستهترة، والفوضى السافرة مثل أعياد (باكوس) عند قدماء اليونان، ثم الرومان، وكانت تتكرر أكثرمن مرة في العام، وكان يفرض على الرجال والنساء خلع جلباب العفة والحياء، والتحرر من قيود الغيرة والشرف، وإطلاق العنان لغرائزهم الحيوانية الدنيا إرضاءً لآلهتهم - كما يزعمون - حتى أن من تعفف عن المشاركة حكم عليه رؤساء الدين بالدفن حياً في مغارات بعيدة وسراديب مميتة. وفي الطرف الأقصى لهذه المادة نرى الروحية الزاهدة المنطوية المنزوية، وتكتفي في تجديد ذكرياتها المقدسة، إما بترديدها في داخل النفس، أو بالتعبير الخافت عنها في زوايا المعابد، ترتيلاً لبعض الدعوات، أو أداءً لبعض المراسم والإشارات!! ويجيء الإسلام بموازينه العادلة ومعاييره الدقيقة الفاضلة، فيلقي على فكرة الأعياد ضوءاً جديداً، يبعد عنها انحلال المادة وفجورها وعلى تزمت الروحية وفتورها يجمع في كلتا النزعتين من خير وسداد وينفي ما في كلتيهما من خلل وفساد، ثم يضيف إليها عناصر صالحة أخرى، ويؤلف من جملة ذلك صوراً حية جميلة في نطاق الطهر والكرامة والعفاف.. تلك هي فكرة الأعياد في الإسلام. فالصبغة الأولى لها روحية، لكنها روح صادق متوثب، يردد نشيداً يتردد صداه في أيام التشريق، وفي منى عند الجمرات على ألسنة الحجاج.. إنه شعار الانتصار الروحي في التجارب المقبلة: الله أكبر و لله الحمد. هذا العنصر الروحي الحماسي يطالبنا الإسلام بأن نبرز جوهره في مظهر الزينة والجمال وفي جو المتعة والرفاهية البدنية من غير إسراف ولا ابتذال، بل إن التقشف والحرمان.. مثلاً.. ضريبة محتومة في زمن الصوم والحج، فإذا جاء يوم العيد فلا تقل: قد حل ما كان محرما، ولكن قل: قد وجب ما كان محرماً وحرم ما كان واجباً!! نعم، لا صوم اليوم ولا حرمان من الطيبات {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}، ثم لا تقشف اليوم من الطيب والزينة، ثم لا تزمت ولا حرمان اليوم من اللعب واللهو البريء المباح. عن أنس - رضي الله عنه - قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ( ما هذان اليومان؟) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال:( قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر).. ويروي مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم عيد، وعندي جاريتان تغنيان، فلم يقل شيئاً ولكنه اضطجع على الفراش وحول وجهه، ثم دخل أبو بكر فانتهرني وقال: أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - دعها يا أبا بكر - إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا)، قالت عائشة: وكان السودان يلعبون بالورق والحراب، فلما سألت النبي قال لي: (تشتهين تنظرين)؟ قلت: نعم، فأقامني وراءه ورأسي على منكبيه وخدي على خده، حتى إذا مللت، قال: (حسبك)؟ ، قلت: نعم. واللهو السابق في الحديث ليس لهواً سائغاً مُرخصاً به فحسب، بل إنه متى صلحت فيه النية كان عملاً يندب إليه الإسلام، ويحض عليه كما يحض على الرماية والسباحة والعدو وركوب الخيل، وغيرها فهي تكسب صاحبها مضاء العزيمة، ومناعة البدن، فما أحرانا أن نحيي هذه السنن الكريمة في أعيادنا.هكذا تلتقي في أعيادنا الإسلامية روحيتها المنطلقة السامية، وماديتها النافعة الجميلة الطاهرة البريئة، على أن الإسلام لم يكتف في أعياده بهذين العنصرين حتى عززهما بثالث هو آكد للجميع عنده وأحبها إليه، ذلك هو المعنى الاجتماعي الإنساني الذي جعل به الأمة جسداً واحداً، لا بوحدة شعارها وشعورها فحسب، ولا بمظهر اجتماعها الباهر في شعائر الذكر والصلاة وكفى، ولا بهذا التلاقي الأليف الودود، والباشّ الباسم الذي ندب إليه كل مسلم يلاقي أخاه يوم العيد، ولكن بمعنى أقوى من ذلك كله، بنظام المشاركة المالية الفعلية التي شرعها في ذلك اليوم بين أعضاء الجماعة، ترفيها عن المعوزين منهم وإغناءً لهم عن ذل السؤال يومئذ، تلك هي شريعة الزكاة في عيد الفطر، وشريعة الضحية في عيد النحر ({فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى {14} وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ، صدق الله العظيم.