كانت تتوكأ على عصاها.. غارت عيناها فوق الوجنات الشاحبة، والسنون لم ترحم وجهها الحزين.. فقد تركت على بصماتها تجاعيد الزمن، وفي حنايا ضلوعها آهة حزن تخترق حبال صوتها.. تمشي الوهن، وإذا تعبت استراحت في ممر القسم الذي باتت تعرف كل شيء فيه..! ولا أشك أنها تعرف بقية الأقسام داخل المستشفى.. فقد وشكت أن تُكمل السنتين وهي تنتظر عودة ابن لن يعود..!! استوقفني حزن تلك المرأة التي يرقد الأسى على وجهها.. وعيناها المتعبتان من البكاء تشردان عبر مساحات الحرمان.. وامتد الألم في أعماقي، فلمجرد إحساسها بألم أرقدها في المستشفى لبضعة أيام للاطمئنان.. أصبحت أعواماً من الحرمان..!! كل ذلك لماذا؟! هل ماتت ضمائرهم..؟! أم رجاء رعاية صحية فائقة..؟! وإن كان ذلك لماذا لم يزوروهم.. ولماذا لم يوفروا لهم الرعاية الصحية في أحضان منازلهم؟؟؟ والأمرُّ من ذلك كله أنهم يمددون بقاءهم في المستشفى؟؟!! أسئلة كثيرة تدور في خلدي ومشاكل عديدة لم أكن أسمع عنها، ومظاهر اجتماعية أصبحنا نعايشها وتحزننا، ونكتف أيدينا بصمت لساننا الذي أجبرته الظروف أن يكون أخرس من هول ما يرى ويسمع.. من المحزن جدا أن نرى عدداً ليس ببسيط من المسنين وهم يلازمون الأسِرَّةَ البيضاء في المستشفيات وقد قتلتهم الوحدة وقضى عليهم الهدوء الكئيب دون زيارة أومتابعة من قِبَل أبنائهم.. ومن المحزن أكثر أن يكون هذا الموضوع شبه ظاهرة استفحلت لتكون ثمرتها الامتناع والهروب من استلام المريض المسن حتى بعد شفائه وانتهاء مدة علاجه بالمستشفى، حتى ان بعضهم يمكث السنين..!! والمحزن أكثر عندما نكتشف ما وراء القناع لذلك الابن البار بوالديه..!! إن الذي يترك أباه أو أمه داخل المستشفى بدلا من دار المسنين ليهرب من العقوق والعيب عندما يُسأل أين والدك أو والدتك.. فذلك العقوق نفسه وإن اختلف المكان..؟!! ودارت بي دورة الحياة.. عندما كنت بالأمس برعما قد احتضنته الحياة بأكناف الطبيعة.. وتفتحت عيناي وأنا بين يدي الأمومة العاطفة.. ونظرات الأبوة الحانية.. ومداعبة الأخوة الصادقة.. في بقعة من بقاع هذه الأرض.. كنا أسرة تعيش في بيت صغير ترفرف السعادة على جوانبه.. وتسكن ذكرياتنا كل شبر فيه.. ففيه ذقنا براءة الطفولة ورعاية الأسرة.. وبساطة الحياة.. وطيب المعاشرة.. وكان يحلو لنا السمر عندما يملأ أرجاء الغرفة صوت جدي وهو يروي لنا حكايات ونوادر عمن سبقونا.. تلف بي عاصفة من الحيرة عندما أنظر إلى وجه جدي الذي تملؤه التجاعيد فأُسلى عنها بمتابعتي للحكاية.. وعندما أضطجع على فراشي وتأتي جدتي وتلعب بشعري وهي تحكي لي وتقص عليَّ حتى أنام فتداهمني الحيرة وتكتظ في داخلي مجموعة من الأسئلة عندما تنتقل عيناي بين تقاسيم وجهها وعندما أرفع نظري إلى رأسها الذي غاب عنه السواد إلى الأبد.. فأسألها لماذا هذه التجاعيد التي تملأ وجهك الحاني العطوف فترد عليَّ قائلة، وقد أثقلت الزفرة كاهل كلماتها: إنه العمر قد مضى بنا وألحق بنا، وأن ما ترونه من تجاعيد قاسية هي تضاريس القدر الذي نحتها على ملامحنا.. كما تشاء الأعمار..! وتطفو كلماتي على محيط ذاتي عندما عجزت عن فهمها.. وسارت عجلة الحياة فترعرعنا وأصبحنا فتية.. وغاب وجه الجد والجدة عن هذه الأرض ولم يزل غير ذكراهم والدعوة بالرحمة لهم واسترجاع حكاياتهم.. ومضينا في منعطفات الحياة ونحن نرعى آباءنا ونحملهم على أذرع من الحنان والعطاء رداً لما صنعوه من أجلنا، وقد أنجبنا أطفالا وأحفادا لآبائنا.. واعتنينا بهم ورعيناهم بما حظينا به من حنان.. وبعدما أزف رحيل آبائنا وأمهاتنا وتواروا خلف حبيبات التراب.. بعد أن زرعوا الخير في طريقنا وتوجت توجيهاتهم حياتنا.. دارت عجلة الحياة وسرت السنون تلو السنين، وغزا الشيب مفرق الشعر، وبدأت عوامل القدر تنحت على ملامحنا آثار أعمارنا بعد أن توالت الأمراض.. وسقم الحال.. ولم يعد للصحة فزع.. وقد أصبح للقدمين معين ثالث يعينهما على الدهر حينها توغلت كلمات جدتي وغاصت في أعماق ذاتي عندما عشتها وقد طُعنت في السن..!! وبعدها بدأت أدير حلقة الذكريات في ذاكرتي التي يطغى عليها النسيان غالباً.. حينها ترقرقت الدموع في مقلتيَّ ورفعت يداي بالدعاء وقد انهمرت الدموع في انحناءات ملامحي.. راجية الله أن أجني خير ما زرعت.. وما ألتمس من أبنائي وأحفادي سوى بسمة صافية.. وكلمة صادقة طيبة.. إلى أن يأخذ الله أمانته.. وتكتمل دورة الحياة.. * شيء في الوجدان.. لنا أن نتخيل لو لم يكن هناك موت بعد كل ميلاد.. منذ عهد أبينا آدم عليه السلام.. ونحن على هذه الكرة الأرضية.. باستمرار مراحل النمو وبتوالد الأجيال إلى جيلنا هذا..!! فيا ترى..؟! ماذا بعد الشيخوخة..؟! وكيف يكون شكل الحياة..؟! إنها نعمة الله ورحمة بعبادة.. إذ جعل الموت راحة للمسنين من عناء الدنيا.. وسعة لغيرهم من الأنام.. وإن أحزننا هذا..!!