رحلة طويلة مباركة قطعها الشيخ أحمد ميان التهانوي رئيس قسم القراءات بجامعة دار العلوم الإسلامية بلاهور بباكستان في رحاب القرآن الكريم ، متعلماً ومعلماً له ، حتى أصبح من أساتذة القراء على المستوى الدولي. تخرج الشيخ التهانوي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة بنجاب بمدينة لاهور الباكستانية ، وشارك في الكثير من المسابقات الدولية لحفظ القرآن الكريم في باكستان ، ماليزيا ، ليبيا ، مصر ، المملكة العربية السعودية ، وتجول داعياً في كثير من بلدان العالم من خلال عدد من المؤسسات والهيئات الدعوية والإغاثية الإسلامية. (الجزيرة) التقته خلال مشاركته في تحكيم مسابقة الملك عبد العزيز الدولية لحفظ القرآن الكريم التي عقدت مؤخراً في دورتها السادسة والعشرين في مكةالمكرمة ، فكان هذا الحوار : * من المعروف عنك كثرة رحلاتك وجولاتك للكثير من دول العالم ، فما هي أهداف هذه الرحلات ، وهل كلها في سبيل التجويد والقراءة ؟ - إن الله عز وجل بيّن في كتابه الحكيم أربعة أهداف أساسية لبعثة نبيه الخاتم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، وذلك في قوله تعالى :{ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ، فالهدف الأول من هذه الأهداف السامية تلاوة القرآن الكريم ، وقد جعلت هذا الهدف غرض حياتي ، ولا أزال أقوم بأداء فريضة تعلم القرآن وتعليمه وإحياء سنة حسن استماعه ، والنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - تلا القرآن على أصحابه رضي الله تعالى عنهم ، واستمع إلى تلاوتهم إياه ، وإقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل من نقتدي به ، فإنني أبذل كل جهودي في عقد محافل القراءة في كل قرية ومدينة داخل باكستان أو خارجها ، وأقوم بكل ما يسعني في تأسيس مدارس حفظ القرآن وتجويده. * ومتى بدأت هذه الجهود المباركة ؟ - بدأت هذه الرحلة منذ تأسيس جمعية باسم (اتحاد القراء) في عام 1978م ، التي عقدت محافل تلاوة القرآن الكريم في جميع أنحاء باكستان ، وخلال ذلك قمنا بتوجيه عامة الناس إلى حسن تلاوة القرآن الكريم ، وقمنا بتشجيع الأطفال والشباب على حفظ القرآن الكريم بالتجويد والترتيل ، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أتشرف بالعمل في ميدان تعليم وتعلم القرآن الكريم. * إن افتراق المسلمين وتشتتهم فيما بينهم أدى إلى ضعف شوكتهم ، وانحطاطهم في العالم كله ، فما الذي يمكن القيام به لتوحيد صفوف المسلمين وجمع كلمتهم ؟ - إن الهدف الأساسي من عقد حلقات القرآن هو جمع المسلمين على مائدة واحدة لاستماع القرآن الكريم فقط ، وذلك هو الأمر الذي يَعُم جميع المسلمين ، فالمقرئ بتلاوته للقرآن الكريم أمام عامة الناس يهدم أصنام اللون والجنس والعصبية للسان أو المسلك أو الطريقة ، لأن تلاوة القرآن الكريم تمحو جميع هذه الفوارق وتزيلها من المجتمع المسلم ، وذلك لأن القارئ من أي بلاد كان أو إلى أي جنسية ولون انتسب ، لا يتلو إلا القرآن الكريم ، وذلك هو القدر المشترك بين جميع المسلمين. * ما رأيك فيما يردده بعض العاملين في مجال الغناء من أن الموسيقى غذاء الروح ؟ وأين ذلك من قوله تعالى :{ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } ؟ - إن نفوس المسلمين منورة بنور الإيمان ، بمحبة نبيهم الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، ويقتضي ذلك أن يكون الشيء الذي يمد أرواحهم ويغذيها لطيفاً ، أما الموسيقى فهي محركة للعواطف الشهوانية ومجلبة للوساوس الشيطانية ، فإذا هي غذاء للأرواح النجسة الخبيثة ، لا للأرواح الطيبة الزكية ، في المقابل فإن تلاوة القرآن الكريم غذاء للروح الإنسانية ، إذ لا يوجد شيء ألطف منها ، وأنسب لها ، يقول سبحانه وتعالى :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، ويقول عز وجل :{ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } ، فإن حسن تلاوة القرآن واستماعه خير غذاء للقلوب والأرواح. * لكن ما رأيكم في أن هذه الموسيقى أصبحت جزءا من ثقافة المسلمين في هذا العصر ؟ - الله تبارك وتعالى سمَّى عباده المؤمنين عباد الرحمن ، ويقابلهم عباد الشيطان ، وعباد الرحمن يستمدون ثقافتهم مما أنزل الرحمن على عباده المؤمنين ، وهذه الثقافة تدل على إخلاصهم ، وصدقهم ، وحيائهم ، وخيرتهم ، أما المسرحيات والأفلام والموسيقى فليست من ثقافة المسلمين ، بل هي حضارة الأمم الكافرة ، أما المسلمون فلا يليق بهم أن يجعلوا هذا المجون والسفور والأفلام العارية أو الداعية إلى الضرب والقتال من ثقافتهم ، وإنما ثقافتهم وحضارتهم إسلامية تستمد أسسها وميزاتها من شريعة الإسلام ، فأرى أن ثقافة المسلمين تلاوة القرآن الكريم بقراءتها العشر ، واستماعه ، والمحافظة على الرسم العثماني للكتاب المصحف الشريف ، ومن ثقافتهم أيضاً أن تلهج ألسنتهم بحمد ربهم الكريم ، ويحافظوا على فن البناء الإسلامي ، ويقوموا بكل ما يدعم شوكة المسلمين ، ويعتزوا بسلفهم الصالح ، وكل ذلك في نطاق حدود الشريعة الإسلامية. * نود أن تحدثنا أين تعلمت القراءة والتجويد وإلى أي بلدان سافرت في هذا الصدد ؟ - حفظت القرآن الكريم عن ظهر الغيب بتوفيق من الله سبحانه وتعالى في السنة العاشرة من عمري ، وأكملت أخذه على طريقة حفص من الجامعة دار العلوم الإسلامية في عام 1963م ، وفي تلك الأيام نلت الوسام الذهبي في إحدى المسابقات الوطنية ، وتخرجت من الجامعة الأشرفية بلاهور في عام 1969م ، وبعدها أكملت دراستي الدينية حتى حصلت على الليسانس من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، ثم الماجستير والدكتوراه من باكستان. * ومن أهم أشهر أساتذتك ؟ - من أساتذتي المعروفين فضيلة الشيخ محمد إدريس الكاندهلوي والشيخ رسول خان ، والشيخ المفتي جميل أحمد التهانوي ، والشيخ عبيد الله ، ومن القراء الكرام المقرئ عبد العزيز الشوقي ، والمقرئ إظهار أحمد التهانوي ، والشيخ عبد الفتاح المرصفي من مصر ، وغيرهم من كبار أساتذة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، ولا أزال مشغولاً بتعليم وتعلم القراءات والتجويد منذ عام 1970م ، وتعلمت القراءات السبع في 1980م ، وفي عام 1981م بعثت إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لتعلم المزيد من القراءات على منحة دراسية من قبل دولة باكستان ، واتصلت بإذاعة باكستان منذ عام 1960م ، ونلت جوائز عديدة ، وفزت بمكانة راقية ملموسة في المسابقات العديدة داخل باكستان وفي المسابقات العالمية المنعقدة في بلاد ماليزيا وليبيا ، وعينت حكماً للمسابقة العالمية لحفظ القرآن وتجويده في جامعة الأزهر في عام 1990م ، ومسابقة الملك عبد العزيز الدولية بمكةالمكرمة في عام 2002م ، واعتبر أن تعييني كحكم في هذين المركزين الشهيرين للقراءة والتجويد مصدر اعتزاز وافتخار لباكستان ولله الحمد. * من أهم أشهر تلامذتك الذين يسيرون على دربك في نشر القرآن وتعليمه في جميع أنحاء العالم ؟ - الحمد لله أن لي تلامذة كثيرين يقومون بأداء واجب تعليم القرآن الكريم ، وتدريس القراءات السبع ، أو يهتمون بعقد محافل لحسن قراءة القرآن الكريم ، واستماعه في معاهد حكومية أو مدارس دينية في جميع أنحاء العالم ، ومن أشهر هؤلاء التلاميذ البارزين المقرئ عبد الرحمن والمقرئ عبد الحنان في مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة ، والمقرئ عبد الظاهر بمكةالمكرمة ، والمقرئ فاروق أعظم في دولة قطر ، والمقرئ افتخار في أمريكا الجنوبية ، والحمد له أن عدد تلامذتي أكثر من أن يحصى عددهم ، وأغلبهم انتشروا داخل باكستان وخارجها لخدمة كتاب الله الحكيم ونشر تعاليمه. * نستمع للقرآن الكريم بقراءاته المختلفة خلال بعض المحافل لتلاوة القرآن الكريم فهل تلقي ضوءاً على هذه القراءات المختلفة ؟ - من المعلوم أن القرآن الكريم نزل بسبعة أحرف ، وأن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - علم أصحابه الكرام هذه إياهم وفقاً للطريقة التي تم بها تعليمهم ، وأن الصحابة الكرام رضي الله عنهم أدوا هذه الأمانة العظيمة إلى تلامذتهم ، وأن هذا الاختلاف سواء كان اختلاف قراءات أو لهجات ثابت بالسند المتصل ، ومن أشهر قراء الصحابة الكرام الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ، وعبد الله بن مسعود ، حذيفة بن اليمان ، أبو موسى الأشعري ، زيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، وغيرهم من كبار الصحابة رضي الله عن الجميع ، وقد اشتهر عشرة أئمة للقراءات ، وعشرون راوياً لها ، ولا تزال القراءات المروية عنهم تدرس إلى يومنا هذا ، وقد جمع هذه القراءات والروايات المتنوعة الإمام الداني والإمام الشاطبي والإمام ابن الجزري في كتبهم وقصائدهم. * ما هي الخطوات التي اتخذتها لخدمة طلاب الجامعة دار العلوم الإسلامية والتي تعمل بها حالياً ؟ - لقد عينت باحثاً بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بعد التخرج منها في عام 1985م ، ولكني اضطررت للرجوع إلى باكستان نظراً لإلحاح القائمين بأمور الجامعة هناك ، وبالأخص مدير الجامعة ، وقمت بتوفيق الله سبحانه وتعالى بمساعدة أخي الكبير مدير الجامعة الشيخ مشرف علي التهانوي بإنشاء جامعة دار العلوم الإسلامية من جديد ، وتعديل مقرراتها الدراسية حتى يتم للطالب المتخرج منها تعلم العلوم الدينية والدنيوية العصرية مع إكمال علوم التجويد والقراءة ، فمقررات جامعة دار العلوم الإسلامية شاملة مستوعبة لحفظ القرآن الكريم ، وتجويده بالقراءات العشر ، والدراسة الدينية النظامية الخاضعة لنظام المدارس العربية والدراسة الحكومية ابتداء من المرحلة الابتدائية إلى الماجستير ، ولذلك تعد الجامعة دار العلوم الإسلامية من أشهر وأبرز مدارس باكستان وخريجو هذه الجامعة يجمعون بين حسنيي الدنيا والآخرة.