أشرت في مقالة الأسبوع الماضي إلى بعض العلامات الواضحة الدالة على وصول الصهاينة إلى قمة النفوذ في العالم وبخاصة الدول الغربية التي بلغت ما بلغت من تقدّم علمي تقني وتطور اقتصادي فعّال. ومن تلك العلامات أنه يمكن أن يسبَّ عيسى - عليه السلام- ويقدح في عرضه عبر أفلام وكتابات في تلك الدول المسيحية، ولايمكن أن يُنتقد زعماء الدولة الصهيونية على ما يرتكبونه من جرائم ضد الشعب الفلسطيني، إنساناً وأرضاً وتراثاً. فكل من يطمح إلى الزعامة في المجتمعات الغربية، أو يرجو أن يستمر في الزعامة إن كان قد وصل إليها، فعليه أن يظهر ولاءه ومحبته لأولئك الزعماء المجرمين من الصهاينة. ومن المعلوم أن أقوى دولة في العالم الآن هي الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأنها أصبحت عاد هذا الزمان تستعرض عضلات قوتها متبنّية مقولة عاد الأولى: مَن أشد منا قوة؟ وتبطش بالآخرين الذين يفكّرون -مجرّد تفكير - بعدم تقديم آيات الخضوع لها، متغطرسة جبّارة لكن من المعلوم، أيضاً- والمؤلم حقاً- أن تلك الدولة المتغطرسة الجبّارة في تعاملها مع العالم كله متصهينة الإرادة والتصرّف. ولقد أدرك هذه الحقيقة، وأوضح أبعادها، أصحاب ضمائر حيّة من داخل المجتمع الأمريكي نفسه. ومن هؤلاء بول فندلي في كتابه المشهور: مَن يجرؤ على الكلام؟ وديفيد ديوك في مقالته المطولة التي عنوانها: (الإرهاب الصهيوني ضد العرب وأمريكا). وقد ورد في تلك المقالة: ان الخائنين للولايات المتحدة (ويعني بعض الساسة الأمريكيين) قد سمحوا لدولة إرهابية أجنبية أن تسيطر على الحكومة الأمريكية وقد يظن بعض القراء أنه منافس للعقل أن أؤكد أن دولة أجنبية تسيطر على أمريكا لكن ينبغي أن ينظر إلى حقيقة أن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي وليام فولبرايت قد قال (إن إسرائيل اليوم تسيطر على مجلس الشيوخ في الولاياتالمتحدة) بل إن رئيس أركان القوات المسلحة السابق جورج براون قال: (يمكن أن نقول للإسرائيليين إننا لا نستطيع أن نحصل على موافقة الكونجرس لتأييدكم فيما تريدون، فيقولون لنا : لا تقلقوا بالنسبة للكونجرس فنحن نكفيكم إيّاه إن هؤلاء من بلد آخر، لكنهم يستطيعون أن يفعلوا ما يقولون، إنهم -كما تعلمون- يملكون البنوك في هذا الوطن، كما يملكون الصحف). ولقد وقف الساسة الأمريكيون، راضين أو مضطرين، جمهوريين أو ديمقراطيين، -على وجه العموم- إلى جانب المجرمين من زعماء الكيان الصهيوني، على أن هذا الوقوف مع المجرمين الصهاينة بلغ أقصى حده بشاعة في الوقت الحاضر، فالإدارة الأمريكية الواضحة التصهين تقف بدون حدود مع شارون وعصابته مع أنه من أكبر الإرهابيين الدمويين في العالم. وسجله حافل بالجرائم ضد الإنسانية منذ ما يزيد على نصف قرن ابتداءً بما ذكرته صحيفة هآرتز عن المذبحة التي ارتكبها مع جنوده عام 1953م في بلدة قبية عندما أبادوا سبعين فلسطينياً معظمهم من النساء والأطفال ومروراً بمذبحة صبرا وشاتيلا الرهيبة عام 1982م التي كان هو المسؤول الأول عن ارتكابها كما قررت هيئة رسمية من داخل الكيان الصهيوني نفسه، وانتهاء بما يرتكبه هو وزبانيته من جرائم فظيعة أمام عيون العالم وأبصارهم. لكن هل يُستغرب أن يصل نفوذ الصهاينة في أمريكا إلى ما وصل إليه وهم من هم براعة في التخطيط والتنفيذ لكل ما يخدم أهدافهم الشريرة؟ وهل يستغرب أن يصل ذلك النفوذ إلى ما وصل إليه وقد وجد أصحابه التربة الخصبة لنمائه بكون تاريخ الدولة الأمريكية ذاته سجلاً من عمليات إرهاب مرتكبة ضد الآخرين ابتداءً بما ارتكبه قادتها ضد سكان أمريكا الأصليين ومروراً بالقيام بالكثير الكثير من جرائم مخابراتها المركزية ضد شخصيات وطنية وأنظمة منتخبة في مجتمعات مختلفة من العالم؟ هل يتحرر الشعب الأمريكي من سيطرة النفوذ الصهيوني على مقدراته ليرى الحق حقاً فيناصره، ويرى الظلم ظلماً فيهب لإيقافه؟ وهل يتحرر الشعب الأمريكي من سيطرة النفوذ الصهيوني ليرى أن ما يدفعه من ضرائب لدولته تذهب لخيره بدلاً من ذهاب قسم منها لدعم كيان إرهابي يرتكب أشنع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني وذلك بإمداد هذا الكيان بالمال والسلاح والمساندة السياسية في المحافل الدولية؟ هناك أصوات أمريكية ترتفع منادية بالوقوف مع الحق والعدل، ومطالبة بالسعي الحثيث للتحرر من نفوذ قوى الشر، التي لا تريد إلا بقاء نفوذها مسيطراً على وجوه حياة المجتمع الأمريكي المختلفة. لكن تلك الأصوات يقابلها عنفوان تلك القوى الشريرة، وتزايد أعداد المتصهينين الذين يطلق عليهم اسم المحافظين الجدد، والذين يحتلون المراكز العليا في الإدارة الأمريكية الحالية. ومن هؤلاء المتصهينين من هو أكثر اندفاعاً في مؤازرة الصهاينة المجرمين من بعض الصهاينة أنفسهم. أكثر المتصهينين تصهينوا بناءً على عقيدة دينية آمنوا بها، وللعقيدة الدينية أثرها الفعّال في تحديد المواقف السياسية، وإن وُجد كتّاب عرب ومسلمون غير عرب عشيت أبصارهم عن رؤية الحقائق كما هي، وعميت قلوبهم عن إدراك الأمور على طبيعتها، فسخّروا أقلامهم، ونذروا أصواتهم، لنفي أي أثر للدين في تحديد المواقف. بل راحوا يسخرون ممن يقولون: إن للدين أثراً في دفع الغرب- وفي طليعته الآن أمريكا - إلى محاربة المسلمين ومساندة الصهاينة في ارتكاب جرائمهم ضد الشعب الفلسطيني. بل إن منهم من راح يردد بأن أمريكا قامت بما قامت به في العراق لتحريره مع أن رئيس أركان قوات أمريكا نفسه ذكر أن احتلال العراق كان خدمة لإسرائيل وقوله هذا- وإن كان يزيد الأمور وضوحاً لمن لا يقبل إلا أقوال الأسياد- فإن سير الأحداث وحده كافٍ للتدليل على ذلك. أن يتحرر الشعب الأمريكي المغيّب وعيه إعلامياً من النفوذ الصهيوني المسيطر على مقدراته أمر لوحدث لكان معجزة من المعجزات الربانية ، أوهبة تاريخية فريدة من هبات الشعوب، ولو حدث ذلك التحرر في الدولة التي لها الهيمنة على مسيرة السياسة الدولية الآن لتحرر الغرب كله من عقدة الخوف من الصهاينة. هل للأمة الإسلامية، وبخاصة العرب منها، موقع في العير أو النفير في القضية المتحدّث عنها؟ إن إمكانات هذه الأمة، الغنية تراثاً وحضارةً، الكثيرة عدداً، الواسعة انتشاراً جغرافياً، إمكانات كفيلة بأن تقود العير والنفير، لكن هذه الإمكانات معطّلة مع الأسف الشديد، أو مسخّرة - بدرجة كبيرة - لمصلحة أعدائها، ولا ثقة راسخة موجودة بين بعض قياداتها وشعوبها، ولا بين دولة وأخرى من دولها، كيف يكون لها دور وتكون لها مكانة، وبعض أفرادها وبال شديد عليها؟ ألا يوجد بين أفراد متنفّذين فيها من يشدّ على أيدي قادة العدوان الأمريكي على أفغانستانوالعراق ويتغنّى بمدحهم على هذا العدوان؟ ألا يوجد بينهم من كذب على أولئك القادة المعتدين متهماً بلده بما دلّت الحقائق على كذبه؟ ألا يوجد من العراقيين أنفسهم من أغرتهم أهواؤهم الذاتية فراحوا ينوبون عن المعتدين المحتلين بتحمل العبء الأكبر من ارتكاب الجرائم بحق العراقيين مدمّرين بيوتاً على سكانها الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ؟ بل ألم تثبت الأيام أن كثيراً من الزعامات الفلسطينية المقاومة قد اغتالتها قذائف الصهاينة، المدعومين أمريكياً بناءً على معلومات أمدهم بها عملاؤهم من الفلسطينيين الخونة؟ لعلّ أنسب ما يمكن أن تختتم به هذه المقالة ما قاله الشاعر العظيم عبدالرحمن البواردي رحمه الله، وهو: يا هل الديره اللي طال مبناها ما بلاد حماها طول حاميها كان ما تفزع اليمنى ليسراها قلْ ترى ما وطا هاذيك واطيها ديرةٍ لي بلاها اليو برداها كيف تبرا البلاد وعيبها فيها؟