مازال كثير من الناس يعيش على حس الطفرة ، حتى أولئك الناس الذين لم يعيشوا الطفرة .. من الواضح أن الطفرة لم تكن مجرد تجربة مرت علينا وانتهت ، يبدو أنها تحولت إلى ثقافة تقود حياة كثير من الناس وتوجه سلوكياتهم وخاصة في مجال الاستثمار .. والطفرة للذي لا يعرفها جيدا هي فترة من عمر هذه البلاد لاح فيها الثراء ، حتى اصبح بإمكانك أن تشم رائحة الفلوس في جيوب الفقراء والمعدمين ، (لاحظ أنني قلت رائحة) استمرت عدة سنوات غيرت من نظرتنا للناس والعالم ، ثم انقشعت كل الروائح وانكشف أخيراً أن الأغنياء هم الأغنياء والفقراء هم الفقراء ، لم تتغير اللعبة الأزلية ، ورائحة لم تأت إلى ذهني كصورة أدبية في لحظة كتابة هذا المقال ، وإنما هو تشبيه طريف سمعته من رجل مسن ، يشبِّه رائحة الثراء في الطفرة برائحة الدسم الذي تتركه الكعابة في مخابئ الأطفال ، من شمهم قال هاذولا توهم قايمين من على مفطح ، وواقع الحال يقول انهم للتو خرجوا من مخربة. تركت فترة الطفرة انطباعا مازال قائما يؤكد أن فرصة الثراء تلوح دائماً في الأفق ، لا أتذكر سعوديا واحدا بلغ الحلم لم يكن يملك مؤسسة أو شركة أو دكانا أو مشغلا أو مخبزا إلى جانب وظيفته الحكومية إذا كان لديه وظيفة. عندما وقعت شركة اتحاد اتصالات عقد العمل في المملكة ذهلت من المبلغ الذي دفعته ، وجلست أكسر حسابهم نيابة عن محاسبهم تحت إلحاح سؤال واحد هو : كيف ستسدد الشركة الوليدة قيمة العقد ثم قيمة التجهيزات ثم كيف ستربح بعد كل هذه المصاريف ؟ ما جاء على بالي أننا سوف نتضارب في أروقة البنوك لكي نسدد عنهم معظم مصاريفهم. كل يوم نسمع أن المساهمة غطيت كذا مرة ، ومع ذلك عندما تمر من جانب بنك يخالجك الإحساس أن البنوك أصابتها أريحية مفاجئة فبدأت توزع مخزونها من الفلوس على الناس. وفي الجانب الثاني عندما تفتح اي جريدة ستشك انك تقرأ جريدة صدرت في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي ، مع فارق الألوان التي تزخرف إعلانات المساهمات العقارية التي تمتد على صفحات كاملة من الجريدة .. الاندفاع المحموم للمضاربات في أسواق المال والعودة الغاشمة للمساهمات العقارية ، تؤكد لي أن الاعتقاد إذا تشكل في عقل الإنسان مهما كانت تفاهته يصبح أكثر أهمية وأكثر مصداقية من الحقيقة ، حتى ولو كانت منتصبة أمامك تلمسها كما تلمس الصخر . معظم المندفعين للمساهمة في شركة الاتصالات الجديدة مازالوا يعانون من خسائر محترمة في سوق الأسهم ، ومع ذلك باعوا ما لديهم ليساهموا في الشركة الجديدة ، وكل من تجاوز الأربعين من العمر يعرف حق المعرفة أن المساهمات العقارية في فترة الطفرة انتهت بكوارث مالية على من تورط فيها ، ويعرف أن وزارة التجارة لم تغير أيّاً من قواعد اللعبة العقارية وقوانينها ، كما يعرف أيضاً أن هذه الأرباح التي يعلن عنها في الجرائد والتي تصل في بعض الأحيان إلى ستين في المائة ، ليست إلا الطعم الذي سيجر الأسماك الضعيفة إلى الشبكة ، لكن المعرفة شيء والاعتقاد شيء آخر تماماً ، الوعي الفردي شيء والهوس الجماعي شيء آخر. فاكس 4702164