عندما بدأت المنظمات الفلسطينية نضالها ضد إسرائيل في السبعينيات والثمانينيات بقيادة منظمة فتح كان الهدف استرداد الحقوق الفلسطينية، وكان نضالها مشروعاً ومؤيداً من الدول العربية والإسلامية. وقد بدأت بعض الشخصيات التي تدّعي الثورية في تشكيل فصائل عسكرية تحت الأرض وفوقها، وقد تلقفتها بعض الدول العربية التي تعيش أحلام الثورية، وبدأت في استغلال هذه المنظمات لتحقيق مصالحها وسياساتها غير المشروعة في خلافاتها مع الدول العربية المعتدلة. وكان المناخ الدولي مهيأً لمثل هكذا منظمات حيث كانت الحرب الباردة في أوجها، فالاتحاد السوفيتي السابق كان يدعم الدول العربية الثورية بالإضافة إلى هذه المنظمات في مكايدة سياسية وعسكرية في مواجهة الدول الغربية والولاياتالمتحدةالأمريكية والدول العربية المعتدلة التي يصفونها آنذاك بالرجعية العربية. وبفعل هذه السياسات عاشت الشعوب العربية الواقعة تحت الأنظمة الثورية العربية بؤساً سياسياً واقتصادياً شديدين وكان شعار هذه الأنظمة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وانقسم الشارع العربي بين شعوب عاقلة هادئة تعيش أوضاعاً سياسية واقتصادية مستقرة وجيدة، بينما عاش القسم الآخر يقتات الشعارات والضجيج والثالوث المرعب، الفقر، المرض والجهل. وفي ظل هذه الظروف تضخمت بعض المنظمات الفلسطينية التي تدّعي الثورية، وبدأت تنفذ سياسات الأنظمة الثورية بالانحراف عن النضال الفلسطيني المشروع في مواجهة العدو الصهيوني إلى سياسات خطف الطائرات وموجة الاغتيالات للشخصيات العربية التي تنتمي للدول المعتدلة ثم امتدت إلى الدول الكبرى بخطف رعاياها وقتلهم. وقد وجد بعض زعماء الأنظمة العربية الثورية الذين اغتصبوا الحكم في بلدانهم وفي مقدمة هؤلاء العقيد القذافي الذي انتهج السياسات الهمجية التي تتعارض مع القانون الدولي والشرعية الدولية مجالاً بشعاً (استحلاه) اقتناعاً منه أن تلك السياسات تجعل له قيمة وسطوة على مستوى العالم حيث قام عبر مخابراته بتفجير الطائرات الأمريكية والفرنسية وهدم الملاهي الغربية على رؤوس روادها الغربيين، وأخذ يتدخل في الشؤون الدولية، متكئاً على مناخ الحرب الباردة الذي كان سائداً آنذاك. وبتفكك الاتحاد السوفيتي وانهياره ومن ثم اختفائه باستقلال الدول التي كانت تُشكِّل جميعها هذا الاتحاد، وهدم سور برلين، وبقاء روسيا وريث الاتحاد السوفيتي دولة كبرى تمارس السياسة العاقلة بعيدة عن شعارات الشيوعية والحرب الباردة. وفي ظل هذه الظروف الدولية بقي (العقيد القذافي) ظهره إلى الحيطة عارياً مكشوفاً وعندما سقط الصنم (صدام حسين) أدرك القذافي أن ساعة حسابه قد اقتربت، وأن رأسه اقترب من حد السيف، أُصيب بلوثة عقلية زادت على ما كان يعانيه من أمراض نفسية في غاية السوء. لهذا التفت إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا لعلهما يشفعان له بالبقاء في مقابل أن يسلِّم لهما ليبيا الشعب والثروة والمقدرات، وقد استلمت الدولتان الثمن كاملاً غير منقوص وهو صاغر غير مكترث بالشعب الليبي وما تحويه الأراضي الليبية من ثروات بددها على امتداد السنوات الماضية في المؤامرات ضد الدول العربية والإسلامية والأجنبية دون أن يحصل على شيء، ومع ذلك فإن الرجل الذي يفتقد إلى العقل والواقعية والفطنة استمر في ممارسة مسرحيات سياسية مراهقة ضد الدول العربية الكبيرة، وهي دول لا تقيم له وزناً، أو تنظر له باحترام لكون سياساته الحمقاء كلها تصب في صالح الدول الغربية والولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، وفي هذا السياق أخذ يتبرأ من العرب شعوباً وحكومات ويهدد بالانسحاب من جامعة الدول العربية، وأخيراً كشفت وسائل الإعلام الأمريكية والعربية عن مؤامرة (العقيد القذافي) لاغتيال صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس الحرس الوطني، هذه المؤامرة التي قالت عنها وسائل الإعلام إنها بتدبير وإدارة العقيد القذافي. فإذا ثبت صحة هذه المعلومات المتعلقة بهذه المؤامرة الدنيئة، الخسيسة والقذرة، فإن الدول العربية على وجه التحديد، والدول الغربية والولاياتالمتحدةالأمريكية التي تقول إنها حريصة على سلامة النظام الدولي والشرعية الدولية مطالبة جميعها بموقف قوي ضد هذا العقيد. فهذا الرجل مهووس بالزعامة، يعيش جنون العظمة بصورة تتعدى اللا معقول وهو في واقع الأمر يفتقد إلى إمكانيات القيادة والزعامة ولا يصلح أن يكون رئيس مجلس بلدي في صحراء لا يوجد فيها بشر. فهو على تضاد تام مع مصالح البشرية، رجل لا يؤمن بحقوق الإنسان، ولا يرى إلا نفسه، دموي، غريب الأطوار، وجد نفسه حاكماً فتسلط على مقدرات شعب كريم يبددها على المؤامرات شرقاً وغرباً، يصف معارضيه من الشعب الليبي المسالم بالكلاب الضالة. هذا (العقيد) لم يجد نظاماً عربياً يحدد له مساراً بعيداً عن مصالح الأمة العربية فهو على عداء دائم مع مصالحها وقيمها وأخلاقياتها وحضارتها الكبيرة. وفي هذا السياق فإن مجلس التعاون لدول الخليج العربية مطالب بموقف رسمي واضح وجاد كمنظومة سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية واحدة، فالذي يتهدد أحد زعماء المجلس كمن يتهددهم جميعاً، فالموقف المطلوب إذا ثبتت مؤامرة العقيد بمحاولة اغتيال ولي العهد السعودي ينبغي أن يتعدى بيان الإدانة والشجب والرفض إلى ما هو أبعد من ذلك بإعلان قطع العلاقات السياسية والاقتصادية بشكل تام مع الحكومة الليبية وتحريك موقف رسمي جماعي لطرد القذافي من جامعة الدول العربية، وعلى المستوى الدولي مطالبة مجلس الأمن باتخاذ موقف محدد وواضح تجاه القذافي بهدف دفع القضية إلى محاكمته كمجرم حرب، لتخليص الأمة العربية والشعب الليبي والسلم العالمي من شرور هذا الطاغية. أما الدول العربية المنضوية تحت لواء جامعة الدول العربية فإن عليها الكف عن احتضان العقيد الليبي، والابتعاد عن سياسة التوسط (وبوس اللحى) وأن يكون لها موقف رسمي وأخلاقي وقانوني في مواجهة العقيد القذافي. إن سياسات هذا الرجل عبر تاريخه تصب كلها في صالح أعداء الأمة العربية فأثناء حرب اكتوبر عام 1973م كانت الأمة العربية موحدة في مواجهة العدو الصهيوني وقطعت المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج العربية البترول عن الدول الداعمة لإسرائيل، كان القذافي يُصدِّر بترول الشعب الليبي لأمريكا وأوروبا ويقوم إعلامه بحرب نفسية ضد مصر وسورية ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أثناء حربهم المشروعة لاسترداد الأراضي العربية المسلوبة، وعندما كان الصرب يذبحون المسلمين في البوسنة والهرسك في حرب عنصرية كان القذافي يمد الحكومة الصربية بالبترول ويدعمها لممارسة ذبح المسلمين هناك. لم يشترك القذافي في مؤتمر قمة عربية إلا وسعى لتفجير لقاءات القمة وإفشالها، بمعنى آخر فقد جنّد نفسه، واستغل ثروات الشعب الليبي لتدمير الأمة العربية وأنظمتها السياسية، وفي نفس الوقت يمارس لعبة ذبح الشعب الليبي في داخل ليبيا وخارجها. إن على الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا والدول الأوروبية مسؤولية أخلاقية وقانونية وسياسية، هذه الدول مطالبة على امتداد العالم برعاية الشرعية الدولية وألا تكون مصالحها الاقتصادية فوق مصالح الشعوب وحمايتها من رجل ثبت عبر سنوات حكمه أنه يُهدد الأمن والسلم العالميين. إن مصداقية أمريكا وبريطانيا وغيرهما من الدول الأوروبية على المحك، فإذا ثبتت مؤامرة القذافي باستهداف حياة ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز فإن هذه المؤامرة تتعدى شخص الأمير إلى شخصيات زعماء العالم أجمع.. فمن يحاول اغتيال زعيم عربي عُرف بمواقفه الإسلامية والدولية النزيهة والقوية فإنه سوف يحاول مرة أخرى مع غيره من زعماء العالم. ينبغي على أمريكا وأوروبا اتخاذ مواقف قوية واضحة تتناغم مع الشرعية الدولية والقانون الدولي لمحاكمة القذافي كمجرم حرب أما إذا لم تفعل ذلك فإن الشعوب العربية والإسلامية سوف ترفضها وتصدق من يقولون إن الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الأوروبية لا يهتمون إلا باستنزاف ثروات الأمة العربية والإسلامية وتدميرها إسلامياً فحسب.