بوركت جهود معالي وزير الحج الأستاذ إياد بن أمين مدني، وجميع العاملين في الوزارة في تنظيم وتطوير ندوة الحج، التي تعتبر بحق أحد منافعه التي يشهدها الناس كل عام على شاشات التلفاز السعودي، ويتعارف المشاركون فيها من جميع دول العالم الإسلامي على بعضهم البعض، ولقد دُعِيتُ هذا العام من قبل سعادة أمين عام الندوة مستشار وزير الحج الدكتور أبوبكر باقادر لحضور هذه الندوة في الفترة من 5 - 7-12- 1424ه بفندق الانتركونتيننتال بمكةالمكرمة، فسررت بذلك أيما سرور، فإن لي مع الحج ذكريات لا أنساها أبداً حينما كنت أعدّ برنامجاً وثائقياً تلفزيونياً في موسم حج كل عام، ويترجم إلى عدَّة لغات؛ لبثه إلى دول العالم، وهو عبارة عن موجز لجهود حكومة خادم الحرمين الشريفين- أيده الله- في هذا الموسم العظيم ومدته لا تتجاوز نصف الساعة، ولكن إعداده وتسجيله وإخراجه كل ذلك كان يأخذ مني ومن الزملاء العاملين معي جهداً ووقتاً كبيرين ولم نكن نشعر بالتعب أو الملل أو الكلل، بل بالمتعة ورضاء الضمير أولاً وقبل أي شيء. كيف لا والكل مستنفر في موقعه بجميع قطاعات الدولة!! وتستمر ذكريات الحج، فأجد في موسم الحج نفسه ما يمكن أن يكون قالباً لعدد من المواضيع والقضايا، وأبرزها قضايا البيئة، فقد توفرت على قراءة رسالة ماجستير للأستاذ محمد علي مكي باللغة الإنجليزية عن مكةالمكرمة واقتصادها وسكانها بجامعة نفر كولورادو الأمريكية وكذلك دراسة مصلحة الأرصاد وحماية البيئة (سابقا) الرئاسة العامة للأرصاد (حالياً) بالتعاون مع مركز أبحاث الحج (سابقاً) معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج (حالياً) وجامعة القاهرة عن أيام التشريق، وكان لهاتين الدراستين أثرهما في إثراء برنامج تلفزيوني عن بيئة الحج أعددته باللغة الإنجليزية خلال دراستي بالولايات المتحدةالأمريكية وتم الحديث عن البرنامج وتقديمه بفيلم عن الحج ضمن برنامج تقارير البيئة في وسائل الإعلام وكان ذلك عام 1981م. إن ما يمكن أن يوصف به موسم الحج في الدراسات والتقارير الأكاديمية والإعلامية انه موسم فريد من نوعه تمتاز به المملكة العربية السعودية التي شرفها الله بخدمة ضيوف الرحمن، ولقد كان للتجربة الطويلة التي قطعتها المملكة في هذا المجال الأثر البارز . على سبيل المثال في تحويل مركز أبحاث الحج إلى معهد يضم عدداً من التخصصات المتعلقة بخدمة ضيوف الرحمن بشكل لا يوجد له مثيل في العالم كله، بحيث يدرس الطالب أحد هذه التخصصات ويجد عملاً له بعد ذلك حينما يتخرج حاملا الدبلوم الذي أتمنى على المعهد أن يطوره يوما ما إلى بكالوريوس تمنحه جامعة أم القرى، تمشياً منها بدعم سياسة التعليم العالي بتخريج الطلبة المتدربين وليسوا النظريين فقط، ويشمل التدريب بالطبع - التقنية الحديثة في المجالات العملية وأهمها مجال المعلومات. وذكرى ثالثة تربطني بموسم الحج، فمنذ أن أفتى العلماء بإهداء الأضاحي إلى العالم الإسلامي، أنشأ البنك الإسلامي للتنمية أحدث المسالخ في منى وأخذت الطائرات تنقل هذه الأضاحي إلى دول العالم الإسلامي وأنا أتابع ذلك من خلال عرض التلفاز ومن ألطف ما جاء في هذا الشأن تنويه معالي الدكتور احمد محمد علي بأن المسلمين الذين يتلقون هذه الهدية من المملكة يعتبرونها مباركة ويقايضوننا بهدية مماثلة، وهنا نلحظ سمو معنى هذه الهدية (الأضحية) وشعور المسلم في شتى أنحاء المعمورة ببركتها وانه يتقبلها على هذا الأساس وليس على أساس الحاجة!! وإن من أهم الذكريات مع الأيام العشرة الأولى لشهر ذي الحجة والتي أقسم الله عز وجل بها في كتابه العزيز فقال: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هي أدب الحج، فمنذ الجاهلية والشعراء يتعرضون لفتن تحدث لهم في الحج، فالذي يتعفف يرزقه الله حكمة وشعرا نابضا مثل النابغة الذبياني الذي أصبح شاعرا بعد الأربعين من عمره بعد تعرضه للفتنة مع صاحبته (سعاد) كما سمّاها.. وكانت بمثابة انطلاقة لشعره المتدفق.. ولا يتسع المجال هنا للحديث عن تجارب الشعراء كعمر بن ربيعة - مثلاً - ولكن لعله من الأوفق الوقوف عند إصدار وزارة الحج (أدب الحج) في الندوة الإسلامية الكبرى لموسم حج عام 1422ه، والذي ضم عدة مباحث ودراسات قيّمة منها: 1- أدب الحج في المغرب العربي: نماذج من الرحلة الحجية المعاصرة في المغرب، للدكتور سعيد بن سعيد العلوي. 2- أدب الحج في المشرق العربي للدكتور يوسف حسن العارف. 3- ظروف النقل البحري والحجر الصحي في أدب الحج المغربي خلال القرن التاسع عشر، للشيخ محمد الأمين البزاز. 4- مشاكل الحجاج، للسيد علي قاضي عسكر. 5- الحج في الأدب التركي - العثماني بين الحقيقة والمجاز، إعداد إحسان فضلي أو غلو. 6- أدب الحج في غرب إفريقيا، للدكتور حميد بوباي. 7- تجربة الحج في الأدب الإسلامي السواحلي، للأستاذ الدكتور محمد بكاري. 8- أدب الحج في القارة الهندية، للأستاذ الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم. 9- الحج في أدب مسلمي جنوب شرق آسيا، للدكتور سوهيرين محمد صالحين، ترجمة حسام الشيخ حسن فقيه. 10- الحج في اليابان، للأستاذ الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم. 11- أدب الحج في الحجاز والجزيرة العربية من العصر الجاهلي وحتى نهاية العصر الأموي، إعداد د. إبراهيم بن عبدالعزيز الجميح. 12- الدور الثقافي للحج زمن سلاطين المماليك (648ه - 329ه) للدكتور سليمان عبدالغني مالكي. 13- الحج ومكةالمكرمة في كتابات المكيين، للدكتور أبوبكر أحمد باقادر والأستاذ حسين محمد بافقيه. 14- أوروبيون في الحرمين، للدكتور عبدالله عقيل عنقاوي. 15- أدب الحج: كتابات ورحلات النساء للحج، للدكتور أحمد عبدالرحيم نصر. 16- القصيد النبوي: رحلة في المكان والزمان والوعي، (شعر جمال الدين الصرصري الحنبلي الأنصاري نموذجا) للأستاذ الدكتور محمد رجب النجار. 17- شعر الشيخ عبدالغني النابلسي في مكةالمكرمة والمدينة المنورة، للشيخ الدكتور مروان قباني. وعلى الرغم من أن هذه الدراسات وغيرها مما لم يشمله العرض هنا تخصصت جميعها في دراسة أدب الحج الذي يطلق عليه الدكتور يوسف العارف مصطلحا يعني كل ما يتعلق بكتابات الأدباء والمفكرين الذين أدوا فريضة الحج وزاروا الأماكن المقدسة ورصدوا ما شاهدوه وما سمعوه من قيم وأحداث وتواريخ اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية وثقافية وصحية وغيرها، على الرغم من ذلك لم تحتو هذه الدراسات على نصوص شعرية - بصفة خاصة - اللهم إلا ما ورد في أدب الحج في القارة الهندية للدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم الذي أبدع فيه بإيراد نصوص لشعراء هنود مثل خطيب قادر بادشاه الذي قال: نمضي هذه الأيام صوب الكعبة المشرفة نلبي دعوة الحق أين نحن من هذه النعمة العظمى ما أسعدنا بحظنا وما أسعدنا بنصيبنا وكذلك دراسة الدكتور إبراهيم الجميح عن أدب الحج في الحجاز والجزيرة العربية والذي أورد شواهد شعرية لمعنى الحج مثل قول الشاعر: وأشهد من عوف حلولاً كثيرة يحجّون سب الزبرقان المزعفرا وقول الشاعر الآخر: كأنما، أصواتها بالوادي أصوات حجٍ، من عُمان، عادي ومن نماذج الشعر الجاهلي أورد الدكتور الجميح شعراً لفضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي يقول فيه: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن أهلها فأزالنا صروف الليالي والجدود العواثر وكنا ولاة البيت من بعد نابت نطوف بذاك البيت والخير ظاهر فسحّت دموع العين تبكي لبلده بها حرم آمن وفيها المشاعر وتبكي البيت ليس يؤذى حمامه يظل به آمنا وفيه العصافر ويقف الباحث عند مشاعر النابغة الذبياني في الحج واعتذاره لصاحبته (لأنه في رحلة مقدّسة لا يحل له فيها لهو النساء) فيقول: قالت: أراك أخا رحل وراحلة تغشى متالف لن ينظرنك الهرما حياكِ وُدٌ: فإنا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد عزما مشمّرين على خوص مزممة نرجو الإله ونرجو البرّ والطعما أما نماذج الشعر الإسلامي في الحج، فمن أروع ما أورده الدكتور الجميح، قول حسان بن ثابت وهو يبكي الرسول - صلى الله عليه وسلم: وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها لغيبة ما كانت من الوحي تعهد وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت ويقتصر بحث الدكتور إبراهيم الجميح بشموليته على تخصيصه للحج في الأدب الإسلامي عصر النبوة والراشدين والأموي، وليته أكمل العصر العباسي وما تلاه من عصور في دراسة قادمة، لأهمية ذلك للقارئ والباحث معاً. وتأتي دراسة القصيد النبوي للأستاذ الدكتور محمد رجب النجار واختياره شعر جمال الدين الصرصري نموذجا تأتي جزءا - كما يصرح الباحث - من دراسة أكبر كتبت بوحي من مناسبة ندوة الحج ستصدر قريبا بعنوان (القصيد النبوي، رحلة في المكان والزمان والوعي). ويوضح الباحث منهجه في هذه الدراسة بعدة أمور أهمها: 1- رؤية بانورامية للسياق السوسيوتاريخي، سياسي، ثقافي، نفسي الذي ازدهر فيه المديح النبوي، ويجيب الباحث الدكتور النجار بذلك عن سؤال حيوي: لماذا ازدهر فن المديح النبوي في الأعصر المملوكية؟ حتى أصبح الفن الشعري الأول، برغم وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ أكثر من ستة قرون. 2- القصيد النبوي من حيث البنية والوظيفة، وهذه البنية مكونة من ثلاثة عناصر قارة هي: - العنصر التكويني الأول: النسيب النبوي. - العنصر التكويني الثاني: التصور الملحمي/ البطولي للرسول صلى الله عليه وسلم. - العنصر التكويني الثالث: الاعتراف وطلب الخلاص. ولعل الصرصري عارض قصيدة البردة لكعب بن زهير، في القصيدة أورد منها الباحث بيتاً هو: وأنت نبي الله حيا وميِّتا وإنك فينا بالهدى لرسولُ وليس القصد من هذا المقال تتبع كل ما جاء في دراسة الدكتور النجار، فلذلك موضع آخر، ولكن الشيخ الدكتور مروان قباني لا تقل دراسته عن شعر الشيخ عبدالغني النابلسي أهمية عن دراسة الدكتور النجار، ولعل الفرق بين الدراستين هو التاريخ، فبين الصرصري والنابلسي زمن طويل إذ إن رحلة النابلسي كانت في 1105ه - 1664م.. ولنا أن نتساءل لماذا لم توظف ندوة الحج - لو أمكن - التقارب التاريخي بين هذه الدراسات؟ ففي ذلك فوائد عديدة أهمها التواصل التاريخي في الأسلوب الشعري أو النثري للأدباء وعدم الإحساس بالفجوة بين الدراسة والأخرى، أو بين الأديب والآخر، وهذه ملاحظة أسوقها إلى الأستاذ الدكتور أبوبكر باقادر فهو أقدر على الإجابة عن هذا السؤال. وبصفة عامة يمكن القول: إن النصوص الشعرية والنثرية التي وردت في الدراسات المنشورة في ندوة حج عام 1422ه سواء الجاهلي أو الإسلامي منها كانت ذات قيمة أدبية كبيرة، يميزها الصدق الموضوعي والصدق الفني معاً، وقد خلت من كذب الشعراء وادعاءاتهم مثل عمر بن أبي ربيعة الذي نفاه الخليفة عمر بن الخطاب فيما بعد إلى عدن لكذبه في النسيب وادعائه أنه محور اهتمام النساء جميعاً. هذا بإجمال ما يمكن تسجيله من ذكريات مع منافع الحج وندوة عام 1422ه وفي الحلقة القادمة سنتناول - إن شاء الله تعالى - ندوتي عامي 1423ه و1424ه والله ولي التوفيق. (*) الجزيرة: هذا المقال نشرنا الحلقة الأولى منه في الأسبوع الماضي دون إكمالها، ثم نشرت الحلقة الثانية كاملة، وها نحن ننشر الحلقة الأولى كاملة بما في ذلك إعادة نشر الجزء الذي سبق نشره من الحلقة الأولى.