المملكة تختتم مشاركتها في الدورة الوزارية للتعاون الاقتصادي والتجاري "الكومسيك"    ترمب يوجه كلمة عاطفية للأميركيين في اللحظات الأخيرة    المرصد الإعلامي لمنظمة التعاون الإسلامي يسجل 2457 جريمة لإسرائيل ضد الفلسطينيين خلال أسبوع    خسائرها تتجاوز 4 مليارات دولار.. الاحتلال الإسرائيلي يمحو 37 قرية جنوبية    شتاء طنطورة يعود للعُلا في ديسمبر    يعد الأكبر في الشرق الأوسط .. مقر عالمي للتايكوندو بالدمام    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل المصري    "إنها طيبة".. خريطة تبرز 50 موقعًا أثريًا وتاريخيًا بالمنطقة    أمير الشرقية يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الملك عبدالعزيز الملكية    الموافقة على الإطار العام الوطني والمبادئ التوجيهية للاستثمار الخارجي المباشر    الاستخبارات الأمريكية تكثف تحذيراتها بشأن التدخل الأجنبي في الانتخابات    منتدى "بوابة الخليج 2024" يختتم أعماله بإعلانات وصفقات تفوق قيمتها 12 مليار دولار    رابطة محترفان التنس..سابالينكا تحجز مقعداً في نصف النهائي.. ومنافسات الغد تشهد قمةً بين إيغا وجوف    كيف يعود ترمب إلى البيت الأبيض؟    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يرأس اجتماع المؤسسة الثقافية الإسلامية بجنيف    محافظ الخرج يستقبل مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    انعقاد مؤتمر الأمراض المناعية في تجمع عالمي وطبي    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    الطائرة الإغاثية السعودية ال19 تصل إلى لبنان    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    مركز مشاريع البنية التحتية بالرياض يشارك في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر بالقاهرة    فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    إشكالية نقد الصحوة    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    إعادة نشر !    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    «DNA» آخر في الأهلي    سلوكيات خاطئة في السينما    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    تنوع تراثي    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    مسلسل حفريات الشوارع    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    أمير تبوك يستقبل القنصل البنجلاديشي لدى المملكة    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غيض من فيض .. المنكر والسطو يتكاملان!!

من الأمور المسلم بها أن يكون للرسالة الإعلامية تأثير ناتج عن نشرها أو إذاعتها أو عرضها، ثم يكون هناك رد فعل يتمثل في صداها الذي أوجب الرد إما بالقبول أو الرفض، وتكون هناك أيضاً تغذية استرجاعية لهذا الرد أو ذاك.. الخ.
ومن بين ثنايا التعريفات اللغوية لبعض ألفاظ القرآن الكريم، يجد الباحث أمامه -مثلاً- مظاهر إعلامية لهذه الألفاظ، قد تبرز أمامه دون الحاجة إلى ممارسة تدريب عملي لها في فصل دراسي، لأنه - أي الباحث - يكون مرسلاً للرسالة مقروءة أو مكتوبة أو مرئية، وحينما يرى تأثيرها ونتيجة هذا التأثير على المستقبِل - بكسر الباء - ويُحار في رد فعله، ويلجأ بذلك إلى التأمل واعتبار هذا التأمل مجتمعاً لدراسته وبحثه المتواصلين عن حقيقة ما يحدث، ويقرأ هنا وهناك، ثم يتدبر معاني ألفاظ القرآن العظيم، فيجد ضالته بكرم من الله وفضله وتوفيقه. وسبب ذلك مرده إلى أن مضمون الرسالة أو محتواها كان آية وآيتين أو أكثر من كتاب الله عزّ وجلّ، حيث يقول: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفأنبئكم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} سورة الحج (72).
يكاد يجمع اللغويون على تعريف (المنكر) بأنه كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول فتحكم بقبحه الشريعة..(1) كما أنهم يقفون أمام الفعل (نكر)، (أنكر)، فيعرفونه بمعنى التغير، وذلك في قوله تعالى:{نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} سورة النمل (41)، أي غيروه إلى شكل تنكره ولا تعرفه (2)، حيث إن تنكير الشيء من حيث المعنى جعله لا يعرف.. وتعريفه جعله بحيث يعرف (3).
وقد وقف هذا الفريق من اللغويين عند هذا الحد من معنى التغير في لفظ المنكر ولم يكتشفوا أبعاداً أخرى تعطيه صفة المعاصرة والاستمرارية لأن القرآن لا يبلى على مرور الزمن ولا تنتهي عجائبه، وإنما اقتصر كل من الأصفهاني ومحمد إسماعيل إبراهيم على المعنى الشرعي، ومعنى التغير الحادث في قصة عرش بلقيس ملكة سبأ.
أما ابن منظور، فله شأن آخر فيه تعريف المنكر، نضع في أيدينا على (البعد الإعلامي) للكلمة وهو ما يهمنا في هذه المقالة، ومراحل تعريفه هي:
أ- النكر: التغير، زاد في التهذيب من حال تسرك إلى حال تكرهها منه.
ب- النكير: اسم الإنكار الذي معناه التغيير، وفي التنزيل العزيز:{ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} سورة الملك (18)، أي إنكاري.. الخ (4).
فيمكن - والحالة هذه - أن يكون المصطلح الإعلامي المناسب لهذا المعنى لكلمة (المنكر) أي بمعنى التغير في (الوجه) من حال حسنة إلى حال سيئة بدليل الفعل (تعرف) الابصاري في الآية الكريمة، وهذا التغير علامته تلون الوجه وامتقاعه بلون أصفر - مثلاً - يدل على بهت ودهشة حادثتين، بل وأنشداه في صاحبه، أو أن العلامة تظهر في الامتعاض والتكشير.. الخ. هذا بالإضافة إلى العلامات الحركية كما في قوله تعالى: { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} سورة هود (5)، وقوله سبحانه :{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } سورة لقمان (7)، ومن العلامات أيضاً - القول، كما قال تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} سورة الأحقاف (7)، مما لا يتسع المجال لتفصيله هنا.
والإنكار الحادث في وجوه الكفرة هو نتيجة عدم التأثر والتأثير المحمودين للذكر، فهم لا يخشون الله إنما هم أشقى خلقه، قال تعالى :{ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى {9} سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى {10} وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى {11} الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} سورة الأعلى (9- 12) ، وقال سبحانه: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى {14} لَا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} سورة الليل (14-15)، والنار في السورتين (الأعلى - الليل) هي التي أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم بإخبار الكفار عنها في قوله السالف ذكره: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ} سورة الحج (72).
وإذا ما تأملنا قوله {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } فإنه يذكرنا بقوله سبحانه: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } سورة الأنعام (26)، وقوله عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} سورة طه (124). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} سورة الأحقاف (3)... فأفعال التجنب والنهي والنأي والإعراض هي صفات أشقى خلق الله، وقد أمر سبحانه بالإعراض عنهم قائلاً: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} سورة النجم (29), بل أمر تعالى بعدم طاعتهم بقوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} سورة الكهف (28).
أما أسباب ذلك فكثيرة، منه ما ورد في قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} (25) سورة الأنعام والشقاء قرين التخبط، ولو كان في المرتع الممرع.. ثم الشقوة الكبرى في دار البقاء (5).
وبالنسبة للسطو الذي لا يمكن الإقرار به من قبل أي إنسان حتى ولو لم يكن يدين بالإسلام، فلا يعتبر نتيجة اعتداء ما، وأي اعتداء هذا؟ أهو في تلاوة آيات الله البينات على هؤلاء الأشقياء، الذين لا يمكن - بأي حال من الأحوال - أن يتخذوه سبباً وذريعة للسطو على القارئ لآيات الله، التالي لها عليهم للتذكير أو للاحتجاج بها على مسألة من المسائل؟ ولكنها الفجوة القائمة بين الفريقين والمتمثلة في ثقافة كل منهما هي سبب المشكلة. وبقية آية سورة الأنعام رقم (26) تفسر لنا هذا الموقف {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، وهؤلاء ينهون الناس عن الإيمان بالقرآن، ويبتعدون عنه بأنفسهم، فلا ينتفعون ولا يدعون غيرهم ينتفع به وما يضرون بذلك الصنيع إلا أنفسهم، وما يشعرون بقبح ما يفعلون (6).
ويتفق اللغويون على تعريف السطو بأنه الوثب والصولة والقهر بالبطش، والسطوة لمرة واحدة، والجمع: سطوات، وسطا عليه وبه سطواً وسطوة: صال.. أما قوله تعالى {يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ، فسره ثعلب فقال: معناه يبسطون أيديهم إلينا، قال الفراء: يعني أهل مكة كانوا إذا سمعوا الرجل من المسلمين يتلو القرآن كادوا يبطشون به... (7).
ولا يختلف الحافظ ابن كثير عن اللغويين فيما ذهبوا إليه في تفسير معنى (المنكر) و(السطو) فهو يقول في تفسير آية الحج موضوع البحث: (أي إذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات في توحيد الله وأنه لا إله إلا هو وأن رسله الكرام حق وصدق {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء (8).
لقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم ملوك وعظماء الأمم بآيات الله البينات، ففي كتابيه إلى كل من المقوقس عظيم القبط في مصر وهرقل عظيم الروم - مثلاً - مع مبعوثيه حاطب بن أبي بلتعة ودحية الكلبي، في ذينك الكتابين، ضمّن صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} سورة آل عمران (64).
فلم يتغطرسون ويتعالى المقوقس بل وادَع - بفتح الدال - نبي الهدى وبعث إليه بالهدايا وهنا يمكن ملاحظة نشوء العلاقات الدولية بين المسلمين وأهل الكتاب بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} سورة البقرة (256).. كذلك هرقل لم يثب على مبعوث رسول الله ويبطش به، ولو نتبه إلى عبارة (أسلم تسلم) لأسلم كما يقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، ولكنه آثر ملكه واحتفظ بالرسالة النبوية الموجودة حتى الآن لتشهد هي وغيرها من الرسائل على صحة ما يذهب إليه المؤرخون والمفكرون المسلمون وزيف ما يدعيه أمثال الفريد بتلر في كتابه (تاريخ مصر) .. والذي ليس هذا موضع تفصيله. هذا في حين أنه لم يضمن - أي النبي صلى الله عليه وسلم - كتابه إلى كسرى الآية نفسها لأنه وثني وليس كتابياً، ولكن ضمنه نص شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فما كان موقف كسرى حفيد كسرى الأول (أنوشروان) إلا تمزيق الرسالة فتمزق ملكه {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} سورة الأنعام (26)، لأنه نهى ونأى عن الاستجابة لما تضمنه الكتاب الذي سلمه له عبد الله بن حذافة السهمي مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم والذي ينطبق عليه هو وأضرابه من المبعوثين قوله تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} سورة الأحزاب (39)، وقد كان تمزق ملك كسرى استجابة من الله عزّ وجلّ لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم ويكفي أن الكتاب تضمن نص الشهادة والدعوة إلى الإسلام!!
إن هذا السياق التاريخي للأحداث يفسر لنا موقف كسرى من الرسالة النبوية، وقد كاد أن (يسطو) بالنبي صلى الله عليه وسلم حينما بعث إليه مبعوثين اثنين للإتيان به إليه. أما المقوقس وهرقل فاحتفظا بالرسالة واحترما النبي الجديد فبورك في ملكهما، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بأقباط مصر خيراً، لأن فيهم نسباً وصهراً. بسبب زواجه من مارية القبطية التي أنجبت له ابنه إبراهيم.
كل هذا نعرفه، لكن الشيء المثير للدهشة حقاً هو أن نجد في أيامنا هذه أشخاصاً يلبسون زي كسرى ويتحلون بأخلاقه... ومن هم؟ إنهم كل من ينطبق عليه وصف الكفر بالمعنى اللغوي أي كتمان الحق، حيث يتكامل المنكر، بظهور علاماته على الوجوه الشقية، مع السطو الواثب من مكامن الحقد والحسد ليعززه لا ليزيله، حسب ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإزالته، حيث قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وأمثلة هؤلاء الأشقياء تزيد من الفجوة بينها - بثقافتها المادية - وبين الثقافة الإسلامية التي توازن بين المادة والروح.
وإذا كان الأمر بتغيير المنكر بالمعنى اللغوي الأصلي السالف الذكر، قد أمرت به السنّة المطهرة، فإن القرآن الكريم قد امتدح الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فقال سبحانه وتعالى: {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} سورة التوبة (112) وأمر تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} سورة آل عمران (104)، وقال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} سورة لقمان (17)، وهذا هو المقصود بالحكم بقبح المنكر في الشريعة الإسلامية (9)، كما أن التالين لكتاب الله قال فيهم سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ {29} لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} سورة فاطر (29-30).
والمنكر من الناحية الإخبارية، أنبأنا القرآن العظيم بشأنه عن كفار بني إسرائيل بأنهم {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} سورة المائدة (79). كما أن (القول) ذو شأن عظيم من الناحية الإعلامية بأنواعه وضروبه المختلفة في كتاب الله الكريم، ومنها (المنكر من القول) قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ} سورة المجادلة (2)، ولنا أن نقف ونتساءل هنا: لماذا وردت صيغة القول المنكر بتقديم الصفة النكرة على الموصوف وبينهما حرف الجر (من) ولم ترد كبقية ضروب القول مثل: {قَوْلاً مَّعْرُوفًا}، {قَوْلاً مَّيْسُورًا}، {قَوْلاً سَدِيدًا}، {قَوْلاً كَرِيمًا}،{ قَوْلاً بَلِيغًا} ... الخ، وكان معظمها منصوباً على المفعولية لفعل الأمر (قل)؟
إن الإجابة تدعو للتأمل، فحرف الجر (من) يعني البعض وبداية الجملة مع عطفها على ما قبلها هي (إن) التوكيدية وتأتي (لام التوكيد) في الفعل (يقولون) لتجسيم المنكر في قول هؤلاء الذين يظاهرون من نسائهم، فالتقديم هنا - والله أعلم - يقصد منه الالتفات وشد الانتباه إلى أهمية استقباح الظهار الذي يعتبر بعضاً من تحريم الرجل لزوجته على نفسه، أو طلاقه لها، وليس كل التحريم أو الطلاق، ولهذا تجوز الكفارة إذا عاد الرجل لما قال. أما عدم وجود الفصل بحرف جر بين الصفة والموصوف، فلأن الأمر مستحب هنا لقول هذه الأقوال والتي صنفها القرآن الكريم لفئات اجتماعية متعددة، فالقول المعروف - مثلاً - إحدى فئاته النساء، والقول الميسور لليتامى، والقول الكريم للوالدين والقول البليغ للمنافقين.. الخ، والله أعلم.
إن النتيجة المترتبة على موقف الكافرين من الدعوة إلى أو المعرضين عن القرآن الكريم، قد تقدمت الإشارة إليها بأن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهؤلاء منبأ إياهم - بأن النار هي موعدهم. وبالإضافة إلى ذلك نجد (الإنكار) منسوباً إلى الذات الإلهية - في مجال الإخبار عن نتيجة هذا الموقف، قال تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} سورة الحج (44)، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} سورة سبأ (45)، وقال عز وجل: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} سورة فاطر (26)، لقد كان كسرى آنوشروان عبرة لمن أراد أن يعتبر، فلا يمزق آية من كتاب الله أو يهملها فلا يستفيد منها أو يدع غيره للاستفادة منها علمياً وعملياً فيكون (كسرى) المعاصر الذي وصل إلى أعلى درجات العلم والتقدم فلم يفد من ذلك شيئاً.
ولقد نص القرآن الكريم على الاستفهام الإنكاري في مخاطبة المسرفين، فقال عزّ وجلّ: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} سورة الزخرف (5) ، ويأخذ ابن كثير برأي قتادة ويصفه باللطف في المعنى (وحاصله أن الله تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم إن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل يأمر به ليهتدي به من قدر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته) (11).
ويعتبر (القول الموصول) الذي ورد بالصيغة الفعلية موجهاً للمؤمنين بكتاب الله هو المثل الرائع للفت انتباه الغافلين عن الذكر الحكيم، قال سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {51} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ {52} وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ {53} أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {54} سورة القصص (51-54)، ثم ماذا أيضاً من شأن هؤلاء المؤمنين؟ إنهم إذا ما سمعوا (اللغو) أو (التشويش) كان حالهم كما وصفهم خالقهم بقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} سورة القصص (55).
إن (ظاهرة اللغو هي ظاهرة إعلامية يقصد منها التشويش على القرآن الكريم، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} سورة فصلت (26).
وهذا ما يمكن اعتباره في المصطلح الإعلامي الحديث (بالتغذية الاسترجاعية الدالة على المنكر الظاهر في وجوه هؤلاء الكفرة وحركاتهم والمساندة للسطو).. إنهم جميعاً (كسيروات) بل إنهم أيضاً (الكسروات) الجاهليون الجدد، والعياذ بالله منهم جميعاً، إنه نعم المولى ونعم النصير وهو الهادي إلى سواء السبيل.
الهوامش
1- انظر كلاً من :
أ- الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، تح: نديم مرعشلي، دار الفكر، بيروت؟، ص 526 - 527 .
ب- محمد إسماعيل إبراهيم، معجم الألفاظ والأعلام القرآنية، دار الفكر العربي القاهرة 1418ه - 1998م ن ص 541 .
2- محمد إسماعيل إبراهيم، السابق، ص 541 .
3- الراغب الأصفهاني، السابق، ص 527 .
4- ابن منظور، لسان العرب المحيط، إعداد: يوسف خياط، نديم مرعشلي، ج3، دار بيروت، ط: 2 -3 ص 716 .
5- د. سعد المرصفي ، المسؤولية الاجتماعية في الإسلام، ط1، مكتبة المعلا، الكويت 1418ه - 1988م، ص 167 .
6- د. عبدالقادر حاتم، الإعلام في القرآن الكريم، فادي برس، لندن، 1415 - 1985، ص 211 .
7- محمد إبراهيم، السابق، ص 214، وانظر كذلك: الراغب الأصفهاني، السابق، ص 238، ابن منظور، لسان العرب، ج2، ع: 1 -2، ص 415 .
8- الحافظ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ص 234 - 235.
9- الراغب الأصفهاني، السابق، ص 526 .
10 - حسنين محمد مخلوف، تفسير وبيان كلمات القرآن الكريم، ط 4، دار الفجر الإسلامي، دمشق، بيروت، 1418 - 1998، ص 337، الآية 44 من سورة الحج.
11- محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، ج3، ط5، دار القلم، بيروت، 1416ه - 1986م، ص 150 - 151. وقد اعتمد الصابوني على: المختصر : 3/ 285 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.