لايزال كثير من المسلمين يجهلون الحكمة من العبادة في الإسلام، ويجهلون الحقيقة التي يجب أن تفضي إليها في أنفسهم، والترجمة التي يجب أن تتمثل في حياتهم وسلوكهم من أثر الأداء الصادق والمخلص لهذه العبادات. يؤدي كثير من المسلمين جميع عباداتهم على أكمل وجه فلدينا المسلم الذي يحرص على الفرائض في المسجد جماعة، ويؤدي النوافل ويعتمر ويحج مراراً وتكراراً، ومع ذلك نجد أن هذه العبادات لاتنعكس على سلوك بعض هذا النوع من المسلمين ولاتثمر فيهم فقد تجده سيئ الخلق غير صبور، سيئ الظن بالناس، غضوب لايعرف الحلم والتسامح، وقد يذهب هذا النوع من المسلمين إلى الحج وفي ذمته للناس حقوق مادية ومعنوية فلا يفكر في أدائها ظناً منه ان الله سيغفر له كل ذلك. وإذا كثر في عالمنا الإسلامي هذا النوع من الناس فالعيب ليس في العبادات وإنما في الناس الذين لم يستطيعوا الربط بين العبادة والسلوك، ولم يترجموا هذه العبادة إلى سلوك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لا صلاة له) وفي نص آخر:( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً) رواه البراء عن ابن عباس. إن من يتأمل عشرات الآيات والأحاديث سيجد مدى ارتباط صفاء العقيدة وقوة الإيمان بالأخلاق والسلوك والمعاملات، فقد ربط الله تعالى أعلى درجات الإيمان وهي التقوى بالعدل والعدل سلوك ومعاملة في قوله: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولايجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة. وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) (الترمذي) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق) (البخاري الأدب المفرد). وقد فهم الصحابة معنى ترجمة العبادة إلى سلوك فحرصوا على حسن الخلق مع الناس، عن أم الدرداء قالت: قام أبو الدرداء ليلة يصلي، فجعل يبكي، ويقول: (اللهم كما أحسنت خَلْقي فحسِّن خُلُقي) حتى أصبح فقلت: يا أبا الدرداء ما كان دعاؤك إلا في حسن الخلق، فقال: يا أم الدرداء إن العبد المسلم يحسن خلق حتى يدخله حسن خلقه الجنة ويسيء خلقه حتى يدخله سوء خلقه النار) (البخاري الأدب المفرد). لايكفي المسلم ليتقبل الله صلاته أن يكون محافظاً عليها خاشعاً فيها ثم يخرج يدوس على الناس بأطراف أصابعه من الكبر أو مؤذياً قاسياً لايرحم ولايلين وقد لان قبل دقائق في منتهى الخشوع والخضوع طالباً رحمة الله. يقول الله تعالى في حديثه القدسي لأمثال هذا المسلم الغظ: (إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصراً على معصيتي، وقطع نهاره في ذكرى، ورحم المسكين، وابن السبيل، والأرملة، ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتي، وأستحفظه بملائكتي، أجعل له في الظلمة نوراً، وفي الجهالة حلماً، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة). وهكذا تكون الصلاة خلقاً وسلوكاً ومعاملة لا تنتهي بنهاية أدائها وإنما تبدأ بسريان مفعولها في حياة المسلم. والصوم أيضاً عبادة سلوكية أكثر منها امتناعاً من الطعام والشراب، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة ان يدع طعامه وشرابه) أبوداود والصوم كما عرفه صلى الله عليه وسلم تدريب للمسلم على الالتزام بأدب السلوك والمعاملات مع الناس، وذلك في قوله: (الصوم جنة إذا كان أحدكم صائماً، فلايرفث ولايجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل إني صائم إني صائم) أبوداود. وإذا كان رمضان مدرسة الثلاثين يوماً في التعود على ضبط السلوك مع الناس فإن الحج هو الامتحان النهائي الكبير في جامعة الإسلام، فلا يقوم عليه إلا من اجتاز اختبارات الالتزام عقيدة وسلوكاً في الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات ليستطيع الوفاء بمتطلبات هذه الشعيرة العظيمة (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)(البقرة197). والنتيجة والجائزة في هذا الامتحان السلوكي الكبير أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في أكثر من حديث فقال (من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه) (مسلم كتاب الحج) أي ان يغفر لك كل ماتقدم من ذنبك شريطة ألا تكون حاملاً معك حقوقاً مادية أو معنوية لمسلم لم تؤدها. والجزاء العظيم يعلنه رسول الله: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) (السابق). وهذا الدين لايزرع اليأس في النفوس، فهو دين الأمل والتفاؤل والنفس الطويل، فهذا رسول الله يبشر المقصرين والمذنبين والحريصين على الغفران (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)(السابق). ومع ذلك فإن بعض المسلمين من أصحاب العبادات لايعتدل سلوكهم بصلاة ولا صيام أوزكاة أو حتى حج ويصرون على الإفلاس بالمعنى الذي حدده رسول الله للمفلس حين قال: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ماعليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار) (مسلم). وبهذا يقود الإفلاس الخلقي والسلوكي عند المسلم إلى محصلة صفر في حصيلة العمر الإيمانية. يروي أبو هريرة رضي الله عنه، قال رجل: يارسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها غير انها تؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله: هي في النار. وقال إن فلانة يُذكر من قلة صيامها، وصلاتها إلا أنها تتصدق ولا تؤذي جيرانها فقال رسول الله: هي في الجنة. وهذا درس بليغ للمسلمين الذين يتكلون على عباداتهم وحدها ويظنون أنها ستدخلهم الجنة دون الالتزام بما تهدي إليه من سلوك وحسن خلق مع الناس لايغفره الله سبحانه وتعالى بصلاة أو صيام أو زكاة أو حج، فأداء العبادات في الإسلام مهما أكثر منها الإنسان لا تسقط حقوق الغير المعنوية والمادية، ولم يعط الله وهو أعدل الحاكمين لنفسه الحق في ذلك إلا إذا عفا صاحب الحق، ويغفر مادون ذلك لمن يشاء.