كشفت وثائق أفرج عنها أرشيف مجلس الأمن القومي الأمريكي بعد مرور 30 عاما على اندلاع حرب السادس من أكتوبر 1973 عن نجاح مصر وسوريا في إخفاء نواياهما بشن حرب بفضل خطة خداع وتمويه ذكية، كما كشفت الوثائق عن دور المملكة العربية السعودية العربي القومي والمشرف تجاه الحرب عندما هدد العاهل السعودي الملك فيصل بفرض حظر على النفط في غياب أية تسوية للنزاع العربي- الإسرائيلي، وتشجيعه قرار الرئيس السادات بشن الحرب. كما تنقلنا الوثائق إلى الهجوم المشترك للقوات المصرية والسورية على القوات الإسرائيلية في سيناء ومرتفعات الجولان، واستمرت الحرب التي اشتهرت باسم «حرب أكتوبر» حتى الأيام الأخيرة من أكتوبر عندما فرضت واشنطنوموسكو بالتعاون مع الأممالمتحدة وقفا لاطلاق النار على الأطراف المتحاربة. وتقدم «الجزيرة» إلى قرائها الكرام الحلقة الأولى من سلسلة حلقات عن أسرار تلك الوثائق الخاصة بحقبة تاريخية مهمة في تاريخ الأمة العربية والصراع مع الكيان الصهيوني. تأثير الحرب أثرت هذه الحرب بصورة جوهرية على العلاقات الدولية ليس فقط بوضع الوفاق الأمريكي- الروسي في ذلك الوقت تحت المحك بل بإجبار الولاياتالمتحدة أيضا على إدراج الصراع العربي- الإسرائيلي على صدارة جدول أعمال سياستها الخارجية. كما أدى التهديد بزعزعة الاستقرار الإقليمي وحدوث أزمات طاقة واحتمال نشوب مواجهة نووية بين القوتين العظميين إلى دور أمريكي حتمي مباشر في المنطقة لم يكن هناك أي مفر منه. ومنذ خريف 1973، بدأت واشنطن في لعب دور محوري في جهود ماراثونية، وإن كانت متقلبة، لمعالجة الأهداف الأمنية والإقليمية المتعارضة لكل من العرب والإسرائيليين، ومؤخرا، أفرج أرشيف مجلس الأمن القومي الأمريكي عن مواد أرشيفية وثائقية لمعلومات غاية في الأهمية بشأن السياسات والمفاهيم والقرارات والمبادرات الأمريكية التي اتخذت قبل وأثناء وبعد نشوب الحرب. وكشفت الوثائق، من بين أمور أخرى، عن جوانب وتطورات رئيسية مثل الأهداف المصرية والسورية من حرب أكتوبر وعلاقات القوتين العظميين مع الأطراف المتحاربة وفشل المخابرات الأمريكية والإسرائيلية في التنبؤ بنشوب الحرب وذلك طبقا لما قاله رأي كلاين رئيس استخبارات وزارة الخارجية قبل 30 عاما صعوبة تنبؤنا بنشوب حرب يرجع جزئيا إلى عملية غسيل مخ هائلة من جانب الإسرائيليين الذين لم يسلموا هم أنفسهم من عملية الغسيل ذاتها. ودور موسكووواشنطن في تصعيد القتال وإخماده وتأثير شخصيات رئيسية مثل كيسنجر والسادات على مجريات الأحداث. إحداث صدمة الوثيقة الأولى مذكرة من مجلس الأمن القومي (مطلع مايو 1973) عن مؤشرات لنوايا عربية بشن أعمال عدائية. في مستهل ربيع عام 1973، صرح الرئيس المصري الراحل أنور السادات للمراسل الصحفي لمجلة نيوزويك وكان يدعى أرنود دي بورتشجريف بأن الوقت قد حان لإحداث صدمة. لكن أحدا في ذلك الوقت لم يكن يعتقد أن السادات يخطط للحرب، كان الرئيس المصري قد اتخذ بالفعل في أكتوبر 1972 قرارا حاسما فعليا بشن حرب، مع إخفاء ذلك سرا. المملكة وسلاح النفط وشهد ربيع 1973 بوادر زعزعة هائلة للاستقرار في الشرق الأوسط: إذ لاحت أزمة طاقة، إثر تلميحات سعودية بأن المملكة ربما تستخدم سلاح النفط في حالة غياب أي تسوية في الشرق الأوسط فضلا عن قيام الكيان الصهيوني في ذلك الوقت بشن غارات على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، علاوة على ذلك، كانت مصر ودول عربية تقوم في ذلك الوقت بتحركات عسكرية كنذر لعمل عسكري محتمل، وكان محللون من مجلس الأمن القومي الأمريكي قد شاركوا في إعداد هذه التقارير عن رصد تحركات عسكرية مصرية- سورية مختلفة التقطتها ورصدتها أجهزة المخابرات الأمريكية مثل تحريك صواريخ أرض-جو، قاذفات القنابل، وإعلان حالة التأهب القصوى في صفوف القوات الجوية العربية وغيرها مما أشار إلى أن تلك الدول «تستعد لحرب». ضغوط نفسية غير أن المخابرات الأمريكية لم تكن، مع ذلك، متأكدة بأن مثل هذه التطورات تشير إلى وجود نوايا حقيقية بشن هجوم إذ ظنت أنها مجرد حيلة لممارسة «ضغوط نفسية» على تل أبيب وواشنطن، وخلصت إلى نتيجة مفادها أنه مهما كانت نوايا القادة المصريين والعرب في تلك المرحلة، فإن نمط تصرفاتهم لا يوفر لهم أساسا عقلانيا لشن هجوم في موعد مبكر. لم يكن السادات ليتخذ قرار الحرب في غضون ستة أسابيع تالية قبل مناقشة الأممالمتحدة. وفي أواخر شهر مايو، وبعد أسابيع قليلة من إعداد هذا التقرير، أعد روجر مريك، وهو محلل في إدارة استخبارات وأبحاث تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية تقريرا تنبأ فيه بنشوب أعمال حربية مصرية- إسرائيلية بنسبة أكثر من 50% في غضون ستة شهور. وأثار هذه التقرير الذي لم يتم إدراجه في قائمة التقارير السرية في ذلك الوقت اهتماما أكبر لدى مسؤولي وزارة الخارجية في تفعيل خطوات كانت تستهدف تسهيل مفاوضات عربية- إسرائيلية. إسماعيل-كيسنجر الوثيقة الثانية «أيه» مذكرة عن محادثة هاتفية جرت بين محمد حافظ إسماعيل وهنري كيسنجر في 20 مايو 1973، وذلك في تمام الساعة العاشرة والربع صباحا. الوثيقة الثانية «بي» مذكرة من كيسنجر إلى الرئيس نيكسون في الثاني من يونيو 1973 بشأن اجتماع مع حافظ إسماعيل في 20 مايو. وفي أواخر شتاء وربيع 1973، عقد كيسنجر عددا من الاجتماعات السرية بشأن نزاع الشرق الأوسط في نيويورك وفرنسا مع محمد حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي للسادات. وبحث كيسنجر وحافظ في أول اجتماع لهما في فبراير مجموعة من الموضوعات منها العلاقات المصرية- الإسرائيلية وتأثير مثل هذه العلاقات على القضية الفلسطينية. غير أن هذا الاجتماع لم يثمر شيئا إيجابيا بعد أن سربت الصحافة أنباء عن اعتزام واشنطن تزويد إسرائيل بمقاتلات فانتوم أو الشبح إف-4، وهو تطور أثار بالطبع غضب المصريين. الخطوة خطوة ! وحاول كيسنجر إقناع حافظ بأن سياسة الخطوة خطوة التي تنتهجها إدارته لإيجاد تسوية ستدفع إسرائيل على الأرجح إلى التعاون بصورة أكبر مع السياسة المصرية التي تصر على إيجاد تسوية شاملة لحدود 1967. غير أن حافظ إسماعيل كان متشككا إذ كان يساوره القلق من أنه بمجرد اتخاذ خطوة، مثل توصل مصر وإسرائيل إلى اتفاق مبدئي بشأن سيناء، ستفقد واشنطن اهتمامها بالقضية برمتها. وأجرى كيسنجر وحافظ اتصالات أخرى لكنهما لم يتقابلا مرة أخرى قبل اندلاع الحرب.تحريك الجمود الدبلوماسي ومهما كانت الاحتمالات الدبلوماسية الفعلية، فإن السادات كان قد قرر بالفعل القيام بعمل عسكري بصورة جوهرية لكسر الجمود الدبلوماسي وحمل واشنطن على إبداء الاهتمام بقضية الشرق الأوسط. وطبقا لما قاله أحمد ماهر السيد أحد مساعدي إسماعيل والذي حضر الاجتماعات «ماسمعناه من كيسنجر لن يرد لنا عن طريق المفاوضات ما خسرناه في ميدان القتال». بمعنى آخر، فإن واشنطن لن تقدم الكثير من العون طالما أن مصر هي الطرف المهزوم.لابديل عن الحرب وهكذا، كان على مصر أن «تفعل شيئا». إذ رأى إسماعيل أن الحرب أصبحت البديل المقبول لدى القاهرة لتحريك الأمر الواقع في الوقت الذي كان فيه كيسنجر يرى أن الحرب خيارا سيئا قائلا: «العمل العسكري سيجعل الوضع أكثر سوءا». وفي كل الأحوال، فإن أيا مما قاله كيسنجر لم يشجع السادات على تغيير قراره بشن الحرب، والمفارقة أن إسماعيل نفسه ربما يكون هو الذي عارض القرار النهائي بشن الحرب. الوثيقة الثالثة هنري كيسنجر، مذكرة إلى نيكسون، اجتماع الرئيس مع نظيره السوفيتي ليونيد بريجينيف يوم السبت الموافق 23 يونيو 1973 في تمام الساعة العاشرة والنصف مساء في ويسترن وايت هاوس، سان كليمينت، كاليفورنيا. الوفاق الأمريكي- الروسي توجت مرحلة الوفاق الأمريكي- الروسي عام 1973 باجتماع قمة بين نيكسون وبريجينيف في كامب ديفيد وويسترن وايت هاوس في يونيو، وفي الوقت الذي تواصلت فيه، وإن كان ببطء، المرحلة الثانية من مفاوضات الحد من الأسلحة الاستراتيجية.. لم يحرزاجتماع القمة أي تقدم يذكر في هذا المجال رغم أنه كشف النقاب عن اتفاقية مثيرة للجدل بشأن منع نشوب حرب نووية. خطورة الوضع وخلال اجتماعات كاليفورنيا، أعرب بريجينيف لكل من نيكسون وكيسنجر ليلة 23 يونيو عن قلقه البالغ إزاء الوضع المتأزم في الشرق الأوسط.. وبينما كان السوفيت لا يعلمون بعد بقرار السادات حتى أكتوبر، أكد بريجينيف بإصرار خطورة الوضع بين إسرائيل والعرب، وقال الزعيم السوفيتي في معرض تحذيره من احتمال نشوب حرب ما لم تتدخل واشنطنوموسكو لتشجيع الأطراف المعنية للجلوس على مائدة المفاوضات إن على القوتين العظميين وضع نهاية لحالة الحرب القائمة. ودفع بريجنيف أيضا بأهمية التوصل إلى اتفاق مبادئ يتضمن، مثلا، توفير ضمانات بانسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية لكن نيكسون لم يكن مهتما، رغم إدراكه بخطورة الوضع، باتخاذ قرارات في تلك الليلة. وهكذا كان يبدو أن مبادئ بريجينيف تتعارض مع سياسة الخطوة خطوة التي ينتهجها كيسنجر.ويبدو أن كيسنجر (ونيكسون أيضا على الأرجح) كان مستاء من طرح بريجينيف قضية الشرق الأوسط للنقاش بدون إشعار مسبق واستعداد من الجانب الأمريكي لبحثها. مبادرة روجرز الوثيقة الرابعة مذكرة «الخطوات التالية حول الشرق الأوسط» من وليم روجرز وزير الخارجية إلى الرئيس نيكسون في 28 يونيو 1973. خلال صيف 1973 ساند روجرز مبادرة دبلوماسية مهمة بشأن أزمة الشرق الأوسط، كان من المتوقع بعد إعادة انتخاب نيكسون رئيسا للولايات المتحدة مرة ثانية في انتخابات نوفمبر 1972 أن يعين كيسنجر في منصب وزير الخارجية، لكن روجرز رفض أن يترك منصبه لمدة ستة شهور على الأقل لانه لا يريد أن يهدي كيسنجر «انتصارا» على طبق من ذهب وهي مبادرته السلمية. وشهدت السنوات الأربع من عام 1968 حتى 1972 أسوأ أداء في تاريخ الخارجية الأمريكية نظرا لان نيكسون وكيسنجر عمدا إلى تهميش دور روجرز ووزارة الخارجية في قضايا سياسية رئيسية مثل الصين وفيتنام والعلاقات الأمريكية- السوفيتية. ورغم ذلك، كان نيكسون قد منح روجرز حرية العمل للنظر في ما يتعلق بسياسة الشرق الأوسط وواصل الوزير الأمريكي اهتمامه بإيجاد وسائل لتسوية النزاع العربي- الإسرائيلي (رغم أن كيسنجر تعمد كثيرا إحباط مبادرات روجرز). مباحثات سرية وعقب انتهاء قمة نيكسون- بريجينيف، قام روجرز بمحاولته الأخيرة لتسوية نزاع الشرق الأوسط حيث اقترح إجراء مباحثات سلام سرية بين مصر وإسرائيل.. إذ كان روجرز يؤمن بضرورة أن تكف مصر وإسرائيل عن الحديث عن التفسيرات الخاصة بكل منهما لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي صدر في أعقاب حرب يونيو 1967، وذلك لشعوره بأن نذر الحرب تخيم على المنطقة وقلقه من نشوب مواجهة بين القوتين العظميين وإمكانية قيام العرب بحظر صادراتهم النفطية. كانت مبادرة روجرز لاتزال في المهد غير أن نيكسون لم يكن يريد من وزير خارجيته أن يمضى قدما في هذه المبادرة بزعم أن الإدارة الأمريكية تنتظر أن تسمع المزيد من بريجينيف. ولكن الحقيقة هي أن كيسنجر كان قد بدأ «يختزل» دور روجرز في ما يتعلق بقضية الشرق الأوسط كي يتولى هو بنفسه هذا الملف، ولذا تعمد نيكسون وكيسنجر إحباط جهود روجرز. وفي نهاية المطاف، اضطر روجرز إلى تقديم استقالته من منصبه في أغسطس 1973.. فهل كانت مبادرته الأخيرة التي اقترحها ستمنع الحرب التي اندلعت بعد أسابيع من استقالته؟!. خطط نيكسون الوثيقة الخامسة مذكرة بين كيسنجر والسفير الإسرائيلي لدى واشنطن سمحا دينيتتس في العاشر من سبتمبر 1973 الساعة السادسة وثلاث دقائق مساء. زادت الضغوط على كيسنجر ونيكسون للتحرك دبلوماسيا في الشرق الأوسط، ورغم إذعانهما فإنهما وجدا أنه لا توجد أية حاجة للتحرك على وجه السرعة. في الخامس من سبتمبر 1973، وخلال مؤتمر صحفي، أعلن نيكسون أن إدارته لديها خططا مهمة بالنسبة لمفاوضات الشرق الأوسط: لقد وضعنا ذلك في صدرأولوياتنا.. بهدف تحقيق بعض التقدم تجاه تسوية النزاع. وبعد بضعة أيام من تصريح نيكسون، شرح كيسنجر في اتصال هاتفي له مع دينيتس حيث جمعتهما علاقة وثيقة بأن الاتجاه السائد هنا لعمل شيء ما أصبح هو الغالب الآن، وبينما كان كيسنجر يعتقد أنه من المهم بدء مفاوضات واستمرارها والبحث عن أفكار بشأن خطوات أولية، مثل طرح اقتراح بشأن القدس أو تسوية مع الأردن، فإنه لم يكن لديه أية مشكلة في تأخير العمل الدبلوماسي.. إذا كان يشعر بأنه لا توجد ضغوط فورية تدفع واشنطن في هذا الاتجاه. تمزيق العرب ولكن ومن أجل تخفيف أي ضغوط مهما كانت وتعزيز ثقل الولاياتالمتحدة لاقصى حد، أبلغ كيسنجر السفير الإسرائيلي برغبته في إيجاد السبل الكفيلة لإحداث انقسام بين العرب وتمزيق وحدتهم، بما يعني إبعاد السعوديين من حلبة الصراع وإجهاد العرب الآخرين. ربما يكون كيسنجر قد استهدف من وراء إبلاغ دينيتس بهذه الأهداف تخفيف معارضة إسرائيل للدخول في مفاوضات، ولكن ربما أدى ذلك أيضا إلى نتيجة عكسية بتشجيع تل أبيب على المضي في تصلبها وعنادها. الوثيقة السادسة مذكرة تفاهم حول اتصال هاتفي بين كيسنجر وزاهدي في 15 سبتمبر 1973. لم تنقطع الاتصالات التي كان يجريها كيسنجر عبر قنوات خلفية مع المصريين بشأن إيجاد تسوية لنزاع الشرق الأوسط حتى قبل الأسابيع التي سبقت نشوب الحرب. جرت الاتصالات هذه المرة بوساطة سفير إيران الأسبق لدى واشنطن أردشير زاهدي الذي كان قد اجتمع مع أشرف غربال مساعد حافظ إسماعيل في سويسرا حيث أظهر زاهدي للمسؤول المصري مذكرة تفاهم أعدت في البيت الأبيض تلخص موقف الولاياتالمتحدة تجاه التفاوض حول التسوية بأسلوب كل خطوة في وقتها، وذلك بهدف إقناع إسرائيل بعدم رفض المقترحات التي تقدم لها.ولشكه في احتمال أن كيسنجر يسعى لتوريط مصر في عملية تفاوض لا تلوح لها أية نهاية في الأفق، لم يتحمس غربال لمذكرة أو وثيقة البيت الأبيض التي عرضها الوسيط الإيراني زاهدي على غربال في سويسرا. الوثيقة السابعة برنت سكاوكروفت مساعد مستشار الرئيس للأمن القومي يسلم كيسنجر رسالة من رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير في الخامس من أكتوبر 1973. لم تدرك أجهزة المخابرات الإسرائيلية ولا الأمريكية أن حربا أصبحت وشيكة في مطلع أكتوبر 1973. لقد افترض جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) والقيادة السياسية بأسرها في تل أبيب أن الجيش الإسرائيلي قادر على ردع أي هجوم، وبناء على هذه الافتراضية قلل أمان من شأن احتمال نشوب صراع مسلح حتى عام 1975 عندما تمتلك مصر وسوريا قدرات جوية أفضل على الأقل، علاوة على ذلك، كان الجيش والقادة السياسيون الإسرائيليون يتظاهرون ويتفاخرون بالتفوق التام عسكريا على العرب. طفت على السطح الشائعات بأن الحرب تدق طبولها بداية من ربيع 1973 وخلال سبتمبر من العام نفسه، بدأ جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلي في جمع تحذيرات محددة تتعلق بنوايا مصرية- سورية لشن حرب في المستقبل القريب. تحذير الملك حسين! إلى جانب ذلك، قام العاهل الأردني الراحل الملك حسين في أواخر سبتمبر 1973 بتحذير مائير بأن القوات السورية تتخذ وضع هجوم، ورغم أن هذه التطورات أثارت قلق الإسرائيليين، فإن جهاز أمان استبعد وقوع حرب كبرى. وفي الرابع من أكتوبر أي قبل يومين من نشوب الحرب، رصد الإسرائيليون عددا من المؤشرات بأن الحرب وشيكة منها بدء ترحيل عائلات الخبراء السوفيت من مصر وسوريا إلى بلادهم، وحذر مصدر سري رفيع المستوى المؤسسة المركزية الإسرائيلية للمخابرات والأمن (الموساد) باحتمال تعرض إسرائيل لهجوم مشترك ورصد الاستطلاع الجوي الإسرائيلي زيادة في عمليات نشر مختلف الأسلحة على طول جبهة قناة السويس. وفي اليوم التالي، أي الخامس من أكتوبر، أكد جهاز أمان أن هناك احتمالا ضعيفا لاندلاع حرب في الوقت الذي نقلت فيه مائير مخاوف إسرائيلية بشأن حرب إلى واشنطن. وبينما كان كيسنجر في نيويورك لحضور الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، تلقى نائبه سكاكروفت رسالة طارئة من مائير في ساعة متأخرة من مساء اليوم نفسه. طبول الحرب أصبحت الاستعدادات المصرية والسورية ظاهرة بصورة ملحوظة للغاية بدرجة جعلت مائير وأعضاء حكومتها يتعجبون مما إذا كانت حكومتا القاهرة ودمشق تتوقعان هجوما إسرائيليا أو أنهما تريدان أن يكون لهما السبق في شن عملية عسكرية. وطلبت رئيسة الوزراء الإسرائيلية من كيسنجر أن يبلغ العرب والسوفيت بأن تل أبيب ليس لديها أي نوايا عدوانية، ولكن إذا بدأت مصر أو سوريا هجوما، فإن إسرائيل سترد عسكريا وبكل حزم وقوة. العميل السوفيتي الوثيقة الثامنة برقية بتاريخ 26 أكتوبر 1973 من قسم رعاية المصالح الأمريكية في مصر إلى وزارة الخارجية بواشنطن حول رأي السوفيت في أسباب وتوقيت قرار القاهرة بشن الحرب. في الأسابيع التي سبقت الحرب، كان السوفيت يرون أن الوضع يزداد خطورة، لكن مثل الأمريكيين والإسرائيليين لم يعتقدوا أن الحرب محتملة.. ومع ذلك، بدأ السوفيت في إجلاء أسر الخبراء من مصر بعد أن تسربت إليهم أنباء باتخاذ السادات قرار الحرب، رغم أنهم لم يعلموا بتوقيت بدء الهجوم على الإطلاق. وبينما الحرب بدأت تلوح نذرها، التقط دبلوماسيون أمريكيون بالقاهرة سرا مثيرا حول معرفة السوفيت سلفا (عن طريق عميل بالمخابرات السوفيتية) بأن الحرب وشيكة. وكان العميل السوفيتي ليو يرداشنيكوف يعمل تحت ستار مساعد مدير مكتب وكالة تاس السوفيتية للأنباء بالقاهرة. الملك فيصل والسادات زعم يردراشنيكوف أن حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي للسادات كان من بين آخرين أعلنوا معارضتهم للحرب بحجة أن سياسة التقارب تعمل في صالح مصر، كما زعم السوفيت أيضا أن السادات أبلغ العاهل السعودي الملك فيصل في أغسطس 1973بقراره لشن حرب على إسرائيل وأن الملك فيصل شجع السادات. وألقى يردراشينكوف الضوء أيضا على تاريخ معرفة السوفيت بقرار السادات، زاعما أن السادات قام في الثالث من أكتوبر بإبلاغ السفير السوفيتي فلاديمير فينوجرادوف بأن الحرب وشيكة. غير أن موسكو لم تعلم توقيت وقوعها حتى صباح السادس من أكتوبر 1973. الوثيقة التاسعة برقية بتاريخ 6 أكتوبر 1973 من السفارة الأمريكية لدى إسرائيل إلى وزارة الخارجية بواشنطن: قلق جولدا مائير بشأن هجوم مصري- سوري محتمل اليوم. لم يكن كيسنجر، تلقى فيما يبدو، رسالة مائير حتى صباح اليوم التالي حيث أرسلت نسخة منها إلى السفير السوفيتي دوبرينين للاطلاع على المخاوف الإسرائيلية. ثم بعث كينيث كيتينج السفير الأمريكي لدى إسرائيل رسالة أخرى بها معلومات محددة أكثر وصلت إلى الخارجية الأمريكية في وقت ما قبل السادسة من صباح السادس من أكتوبر قال فيها الإسرائيليون يعتقدون أن مصر وسوريا ستشنان هجوما مشتركا في غضون ست ساعات.. مصدر رفيع في إسرائيل، (مصري يعمل عميلا مزدوجا) نقل للإسرائيليين تحذيرا بأن الحرب ستبدأ اليوم. واجتمعت مائير التي صدمت وباغتها احتمال نشوب حرب بمستشاريها حيث قالت لهم ربما نكون في مشكلة، فحثها مستشاروها بأن تصدر الأمر بشن هجوم استبقائي لكن رئيسة الوزراء الإسرائيلية طمأنت السفير الأمريكي بأنها لن تمتثل لرأي مستشاريها، لأنها على حد زعمها لا تريد أن تكون البادئة بإراقة الدم. إعلان التعبئة وقررت مائير، بدلا من توجيه ضربة إجهاضية، إعلان حالة التعبئة بين مائة ألف جندي، وكانت عملية سيئة التنظيم استغرقت أياما طويلة. وفي تمام الساعة الثانية بعد ظهر السادس من أكتوبر 1973، شن المصريون والسوريون بدعم من خطة خداع ناجحة هجومهم. وكما قال بعد ذلك اللواء المصري طلعت أحمد مسلم بأن عناصر المفاجأة كانت مكتملة تماما بسبب خطة الخداع العربية وفشل الإسرائيليين في فهم أو استيعاب ما كانوا يرصدونه بأعينهم على طول جبهة القناة. دبلوماسية الهاتف الوثيقة العاشرة رسالة من الوزير كيسنجر أرسلها من نيويورك إلى الرئيس نيكسون بالبيت الأبيض في تمام الساعة التاسعة صباحا بتوقيت واشنطن في السادس من أكتوبر 1973. كان جوزيف سيسكو مساعد وزير الخارجية يوقظ رئيسه برسالة من كيتينج السفير الأمريكي في تل أبيب في الساعة السادسة من صباح السادس من أكتوبر، وكما تكشف هذه الوثيقة، أخذ كيسنجر على الفور زمام السلطة وانخرط في ما وصف بدبلوماسية الهاتف إذ شرع في إجراء سلسلة من الاتصالات الهاتفية وإرسال برقيات ورسائل يحث فيها جميع الأطراف على ضرورة ضبط النفس. وفي صباح اليوم نفسه اتصل كيسنجر بنيكسون الذي كان (متواجدا في فلوريدا آنذاك) بعد أن أجرى سلسلة من الاتصالات المهمة، منها اتصاله بالسفير السوفيتي في واشنطن، طالبا منه أن يحث قيادته في موسكو على إثناء القاهرة ودمشق عن موقفهما، ثم اتصل بالملحق الإسرائيلي شاليفنا صحا إياه بإبلاغ حكومته في تل أبيب بضرورة عدم القيام بشن هجوم استباقي. وبعد أن تلقى تطمينات إسرائيلية بالامتناع عن توجيه ضربة إجهاضية، قام كيسنجر بإبلاغ دوبرينين ووزير الخارجية المصري الزيات بأن إسرائيل لن تكون البادئة أبدا بتوجيه ضربة لمصر وسوريا. ولم يقر كيسنجر أبدا بأنه أوصى إسرائيل بعدم البدء بتوجيه ضربة استباقية، رغم أن مذكراته تحتوي على معلومات مؤكدة بشأن هذه النقطة. الوثيقة الحادية عشرة برقية من البعثة الدبلوماسية الأمريكية لدى الأممالمتحدة إلى السفارة الأمريكية في إسرائيل بتاريخ السادس من أكتوبر 1973. بعث كيسنجر البرقية، في إطار جهوده لمنع الحرب، إلى السفير كيتينج ليطلعه بالجهود التي يقوم بها لضمان حمل العرب والإسرائيليين على ضبط النفس وتقديره لموقف مائير بأنها لن تأمر بشن هجمات اجهاضية. الحياد الأمريكي ! الوثيقة الثانية عشرة برقية من وزارة الخارجية الأمريكية إلى السفارتين الأمريكيتين لدى الأردن والمملكة العربية السعودية، رسالة من كيسنجر إلى الملك فيصل والعاهل الأردني الملك حسين في السادس من أكتوبر 1973 أيضا. حاول كيسنجر وحرب أكتوبر تدور رحاها، أن يثبت أن بلاده محايدة إذ اتصل بعدد من القادة العرب الذين كان يعتبرهم معتدلين مثل الأردن والمملكة العربية السعودية من بين زعماء آخرين. وفي رسالته التي أعدها لكل من الملك فيصل والملك حسين، أشار كيسنجر إلى جهوده لمنع الحرب، طالبا المساعدة منهما، بدون جدوى، في حث السادات والاسد على ضبط النفس. وخلال بضعة أيام بدأ كيسنجر يعود إلى قنوات الاتصال الخلفية مع كل من حافظ إسماعيل والاسد. (يتبع في الحلقة القادمة)