تتباين المجتمعات الإنسانية في نظرتها للكون والحياة، ويبدو الأمر طبيعياً ومقبولاً. لكن المجتمعات تتباين أيضا في آليات نظرتها تلك، وفي الأبعاد المكانية والزمانية للنظرة. من الممكن أن تتشابه المجتمعات الإنسانية في حرصها على أن تحقق مستوى رفيعاً من العيش الكريم، لكنها من غير شك تختلف كثيرا في قدرتها على تحقيق ذلك. ولعل من أهم مركبات النجاح أو الفشل في هذا المشروع المجتمعي الإنساني، مدى قدرة المجتمعات على استقراء المستقبل والنظرة إليه نظرة علمية واضحة وصحيحة. ويتطلب هذا الأمر امتلاك مهارات فائقة، وتسخير طاقات وإمكانات متعددة، وذلك بعد امتلاك المجتمع للشعور اللازم لعملية استباق الأحداث وفهمها والاستعداد الجيد للتعامل معها. إن التغيرات الكبرى التي يشهدها العالم الإنساني المعاصر تكاد تفصح عن الدور الخطير جدا والمهم الذي يمكن أن تؤديه عملية الاستبار تلك. وقد يكون من باب الجدليات الدخول في تفاصيل هذا الموضوع، ولكن لعله من المستقر، أنه يمكن إرجاع المشكلات الظاهرة اليوم في المجتمع البشري إلى موازين قوى دولية ومحلية تقوم على عدة محركات أسس من أهمها قدرة تلك القوى على إجراء عمليات استبار واستشراف للمستقبل، منذ عقود زمنية كان (اليوم الحاضر) فيها مجرد مستقبل منتظر. وباعتبار أن مجتمعنا السعودي أحد المجتمعات الإنسانية، فإنه يخضع بالضرورة للقاعدة نفسها. فما يحدث اليوم في عدد مركبات المجتمع ليس إلا نتائج لتفاعلات سابقة وآنية، محلية أو دولية، ليس المهم فيها ما يحدث من تغيرات وتطورات على عدة أصعدة، لأن ذلك يبدو طبيعيا وجزءا رئيسا من سُنّة كونية قوامها التغير والتحول، لكن الأهم في هذا الإطار هو إلى أي مدى تكون استجاباتنا لما يحدث عندنا ومن حولنا استجابات مجدولة معلومة سلفا لدينا؟، أو على أقل تقدير معلوم كثير من مركباتها لدينا منذ زمن مضى؟. ولأن الإجابة على هذا التساؤل مدعاة لتفاصيل كثيرة، فقد آنسُ بتركها لكل من يقرأ هذا التساؤل ويكون أصلا في استجابة معينة من استجاباتنا لحوادث الأيام. والأصل أن يكون لدينا استراتيجيات واضحة وطموحة ودقيقة جدا، نستطيع من خلالها أن نتنبأ بمتغيرات الأشياء، وبمصائر الأحوال، ذلك أن غياب الرؤية الاستراتيجية سيغرق المجتمع في منهجية ردود الأفعال، وبذلك يصبح الفعل ورد الفعل رهينين لبعضهما، وتغيب مع ذلك مصلحة كبرى تتمثل في القدرة على معرفة ما الذي يمكن أن يحدث خلال أمد زمني متوسط أو طويل، مما تشيع معه ثقافة المجهول، وترقّب اللامعلوم. إن كان المجتمع قد اخترق عبر شيء من مركباته، فقد يكون اختراقه أيسر وأمضى عبر نقص المعلومات عنده حول ما تصير أو تؤول إليه الأمور. (*) عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام