لقد كان الدافع من اصدار هذا الكتاب النقدي «مفاتيح القصيدة الجاهلية» للدكتور عبدالله بن أحمد الفيفي الأستاذ بكلية الآداب المشارك بجامعة الملك سعود هو اعطاء القارئ مفاتيح أساسية يستطيع من خلالها أن يلج إلى القصيدة فيقرأها قراءة تصفها في سياقها الثقافي.. وفي هذا اللقاء الذي أجرته «ثقافة الجزيرة». مع الدكتور الفيفي حول كتابه الاستقبال * ما مدى استقبال القراء لهذا الكتاب على المستويين الأكاديمي والعام؟ - الكتاب محكّم علميا من قبل المجلس العلمي بجامعة الملك سعود، ونادي جدة الأدبي الثقافي - الذي تولى نشره والذي دأب على اصدار مثل تلك الكتب التي لا يفهمها كل القراء بسهولة، وفي انتاجية قارئ جديد مختلف - يتولى توزيعه في الوطن العربي وربما خارجه، وما تزال تصلني رسائل منذ صدر 2001 من أقطار الوطن العربي، من متخصصين وطلبة جامعيين، يطلبونه مني شخصياً، وهذا كاف لطمأنة أي باحث على علمية عمله ومقروئيته، على أن للقارئ مطلق الحق في أن يقرأ ما يشاء وأن يرى ما يرى، ومن «ألّف فقد استُهدف»، كما فهم القدماء، أما حين يكتب هذا القارئ، فمن حقنا عليه حينئذ أن يقول خيراً أو ليصمت! وما يقصد بالخير هنا الموضوعية المتجردة والإنصاف، ذلك أن بعض الأحكام - على كل حال - لا تبدو إلا صادرة عن موقف تحيّزي سابق، فما أن يأنس القارئ من عنوان كتاب ما اختلافاً عن المعتاد أو خروجاً عن الالف، حتى يمتشق حسامه قبل أن يمتشق ذهنه للقراءة ثم الحكم، انطلاقاً مما ينبغي للحكم من حيثيات. مساءلة * كذلك يتساءل بعض القراء عن بعض المصطلحات المستعملة في الكتاب، من قبيل استعمال كلمة «فرش» بدل «مقدمة»؟ ثم هل القصيدة الجاهلية غارقة في الفلسفة حينما تبحث عن مصطلحات: «الوجود»، «العدم»، «الحياة»، «الموت»؟ - بودّي أولاً أن أعرف مَن بعض القراء هؤلاء؟! على أي حال، هذه ثالثة الأثافي، حينما يتصدّر كاتب ليقول حول النقطة التي أثرتموها مثلاً: «الغريب أن «مفاتيح القصيدة الجاهلية» حتى في المصطلحات التي ظهر بها لم يكن بالمألوف من أدوات التعبير.. فالمقدمة في هذا الكتاب اسمها «فرش» وهي إن كانت ذات دلالة خاصة إلا أنها من التعابير التي لا طعم ولا جرس لها.» (جريدة «عكاظ»، الثلاثاء 1423ه الموافق 17 سبتمبر 2002م) أليس هذا ما قيل؟! وهكذا، فالرجل يتطلب بالإضافة إلى: العادة، وسهولة المسلك، ويسر المدخل، والمألوف، ما له: «طعم»، وله «جرس»،وأعتذر إليه عن تلبية كل هذه الطلبات؛ لأن طلبات الزبائن - ولا سيما في النقطتين الأخيرتين، حول الطعم والجرس - غاية لا تدرك! فاختلاف أذواق الناس في الطعوم والأجراس أشد تعقيداً من اختلاف أذواقهم في ما يقرؤون أو تباين عقولهم في ما يحسنون الفهم، غير أن القدماء كانوا قد أراحونا من خضمّ هذا المعترك، حين علّمونا أن «لا مشاحّة في المصطلح»! وعندي أن «مقدمة» غير «تقديم»، وهذان يختلفان بدورهما عن «فرش» أو «تمهيد» أو «مدخل».. الخ «أحجية جديدة تحتاج إلى شرح، لا يتسع له المقام!» ومهما يكن من شيء، فأظن - والله أعلم - أن الشبهة المثارة حول بعض المصطلحات ما كانت لتثور لولا الظن أنها خزعبلات حداثية كإحدى خزعبلات هذا الكتاب، المليء بالأحاجي، والرموز، مع أن الأحاجي تغري كثيراً من الناس بالإطلاع والتأمل، علماً بأن مصطلح «فرش» مثلاً ليس بمصطلح جديد فضلاً عن أن يكون من اختراع مؤلف «مفاتيح القصيدة الجاهلية»، بل هو مصطلح قديم، ولو رجع القارئ إلى كتاب كالعقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسي «642 - 823ه» لوجده يكرر استعمال مصطلح «فرش» خمساً وعشرين مرة للإشارة إلى مقدمة كل كتاب من كتب «العقد» البالغة خمسة وعشرين، بالرغم من أن مؤلف العقد هو الأندلسي، المؤرخ، الفقيه، العالم بالعربية، البارع في الكتابة والشعر، العروضي، صاحب المنظومة المعروفة في علم العروض وجرس الشعر، وهو الموسيقي الذي نسب إليه ابن بسام والصلاح الكتبي وابن خلدون أنه أول من نظم في الموشح الأندلسي. ومع هذا فإن أحداً - فيما نعلم - لم يقذفه بالغموض ولم يعترض على استعماله ذلك المصطلح بحجة الطعم والجرس! وهذا يعيدنا إلى القول إن بعض النَّقدة لا يقرؤون لا في القديم ولا في الحديث. وتلك مفارقة حينما يتصدى للكتابة كاتبٌ لا يقرأ أصلا! أما الشق الثاني من السؤال المتعلق بمصطلحات «الوجود»، «العدم»، «الحياة»، «الموت»، فهذه لا تنم عن غرق الجاهليين في الفلسفة- كما يشير السؤال- وإنما هي قضايا وجودية صاحبت الإنسان - بوصفه مخلوقاً عاقلاً متفكراً - في كل زمان ومكان. وكانت تمثل أسئلة ملحّة على ذهن الإنسان العربي ونفسه غابت عنها لديه اجابات مقنعة قبل مجيء الإسلام. وقد عبّرت القصيدة الجاهلية عن هذه الأسئلة المؤرقة للعربي إذ ذاك بطرائق شتى، من تصوير الأطلال، ثم الظعائن، والمرأة، ثم الناقة أو الفرس، ثم الماء والمطر، إلى غير هذا - لكن تلك هي الأقانيم الرمزية الرئيسية في بناء القصيدة الجاهلية، وكل عنصر منها يحمل معادلاً موضوعياً لفكرة من تلك المشار إليها في السؤال، بيد أن القراءات المعتادة قد اعتادت أن تقرأ شعر الجاهليين وكأنما قاله مسلمون! * إذن ما المفاتيح الأساسية التي وددت من خلال كتابك «مفاتيح القصيدة الجاهلية» أن يمتلكها القارئ حينما يقرأ القصيدة الجاهلية؟ - هي جملة من المفردات تتعلق بالثقافة العربية الجاهلية، التي تجاهلها يؤدي إلى رمي الشعر العربي القديم بعامة - والجاهلي بخاصة - بالغموض أو الاستغلاق أو التفكك، أو تأويله تأويلات لا صلة بينها بين اشارات النصوص، وذلك كمفتاح الطلل، المرأة، الغزال، المهاة، الفرس، الثور الوحشي، الناقة، الظليم، الدرّة، البيضة، أو جدلية الموت والحياة، وهي مفردات تتردد في الشعر الجاهلي، وكأنه قصيدة واحدة، وعدم فهم خلفيات تلك المفردات وامتداداتها الرمزية يجعل القارئ عاجزاً عن فهم رسالة النص الحقيقية، بل قد وجدت، في بحوث لي أخرى، ان هذا الوعي - ذا العلاقة بتاريخ تطور الدلالات في اللغة العربية - هو السبيل الوحيد للتعاطي بعمق مع كثير من نصوص التراث العربي عموماً ذي الصبغة الأدبية، والتفصيل في هذا يطول، فمن الخير إحالة القارئ إليه في الكتاب نفسه. حفريات الفاو * هل ساهمت حفريات الفاو والمكتشفات الميثولوجية في الكشف عن أسرار القصيدة الجاهلية؟ - كتاب «مفاتيح القصيدة الجاهلية» يزعم ذلك، لقد وجدت الآثار - بمعنى اللوحات والنقوش والتماثيل - بمثابة قصائد أو معلقات مجسدة، تنطق بما قاله الشعراء، ولكن عند قراءتها قراءة شاعرية لا ظاهرية! ولذلك زعمت في كتابي أنه ازاء المنهجيات القرائية - من تقليدية مقتصرة على الشرح أو حديثة متكلفة للتأويل - تأتي المكتشفات الأثرية والميثولوجية في الجزيرة العربية، التي أخرجتها في السنوات الأخيرة حفريات الآثار - وبخاصة الجهود القيمة التي قام بها قسم الآثار بجامعة الملك سعود، بريادة «الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري» - لتضعنا أمام وثائق غاية في الأهمية، بما تقدمه من معطيات حيّة وملموسة عن حياة العرب قبل الإسلام، وعن مزاجهم الحضاري فالفني والتعبيري، ولعل الآثار المكتشفة كانت إلى اليوم قيمنة - لو حُلِّلَت ونوظرت بآثار العرب القولية - أن تُحدث ثورة معرفية، قد تقلب المفاهيم التقليدية السائدة عن العصر الجاهلي، وتُحتم إعادة قراءة جوانب شتى من تراثه، ذلك التراث الذي يُكتفى عادة في الحكم عليه بمرويات متأخرين عنه، وأخبار نَقَلة بعيدين عن عصره وبيئته، أو تخمينات ناقد مُحْدَث يَعْمَهُ في شطحاته التحليلة، لكن مشكلة العرب المزمنة العامة عدم التعاون ،فهناك دائماً شك وخوف وضرب من احتكار المعلومات والأفكار، فإذا كان مثلاً علي البطل، رحمه الله، قد اعتذر قبل حوالي عشرين عاماً بأن مغاليق الشعر الجاهلي ينتظر تفسيرها أن تكشف أرض الجزيرة العربية عن آثارها، فها هي تي الجزيرة اليوم قد لفظت بعض أسرارها، لكن البشر أحياناً لا يفعلون! وفي تقديري أن عدم التواصل بين قسمين في كلية واحدة يدلّ بجلاء عما هي عليه الحال بين دولتين عربيتين، سابقاً والآن وإلى ما شاء الله! ومع هذا فلا بد من القول إن الحفريات الاستكشافية ما تزال تتركز الآن في المناطق الوسطى تقريباً من المملكة، أي أن الآثاريين اليوم يعيدون مدار بحث اللغويين القدماء، مهملين أطراف الجزيرة، لأسباب تتعلق بصعوبة البحث في تلك المناطق التي قد تحمل من الآثار ما لا يقل - إن لم يفق - ما عُثر عليه في المناطق الأيسر، وإذا كان لي أن أحدِّد بعض ما أعرف، فسأقول: إن منطقة جبال فيفاء في جنوب المملكة - على سبيل المثال - لم تزل بكراً، مع مؤشرات كثيرة على ما تنطوي عليه من أسرار مهمة، لا تتعلق بتاريخ الجزيرة وحدها بل بعلاقاتها مع بلدان الجوار في آسيا أو أفريقيا، ومثل هذه البحوث لا يمكن أن تنجز سوى بخطط وطنية بعيدة المدى، تسهم فيها أكثر من جهة، إذ كيف يمكن للباحث السعودي مثلاً مناقشة آراء كمال الصليبي حول جنوب الجزيرة وما يزعمه من علاقتها بتاريخ إسرائيل، وذلك في كتابه «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل» أو غيره، ما لم تكن لديه حصيلة علمية يستند عليها من تاريخ تلك البقاع، مما كان يمكن أن تسعف به مكتشفات الآثار، ومن هنا فمكتشفات الآثار يمكن أن تسهم لا في الكشف عن أسرار القصيدة الجاهلية وحدها، بل في الكشف عن أسرار أخرى كثيرة عبر التاريخ. * وهل استقرأت الآثار المكتشفة في محاولتك القرائية للقصيدة الجاهلية؟ - تقييم ذلك متروك للقارئ! أما أنا فأعتقد أنني قد اجتهدت في الرجوع إلى كل ما توفر عن آثار المملكة من كتب أو معروضات، بل ما كان عن آثار خارج المملكة، ولا سيما في العراق واليمن، وقدّمت لذلك قراءات منبثة في مواضعها من الكتاب، حيثما وجدت لها ارتباطاً بالشعر الجاهلي، ولا أبالغ إذا قلت إن كل صفحة من الكتاب كانت تقف على تحليل الأثر الشعري بالأثر الآثاري وبالعكس، حسب مقتضى السياق، وإن ظلت الغاية في النهاية «القصيدة الجاهلية»، وقائمة المراجع وحدها مؤشر أولي إلى الجانب الآثاري الواسع في عملي، ناهيك عن غير المنظور في العمل من مشاهدات وزيارات وتسجيلات وتحليلات شخصية. * قد تثور إشكالية حول منهجك في الكتاب، حيث تعتمد على الآثار من جهة وتنتقد المنهج الجغرافي في قراءة الشعر من جهة أخرى؟ هل لك أن تفسر موقفك؟ - تلك الإشكالية كانت ستنشأ فيما لو كنت أعني ب«الآثار» الأماكن والديار، وفق مصطلح «الآثار» القديم، غير أنني أشير به إلى بقايا الحضارات من الفنون والرسوم والرموز، التي تعكس جميعها انساقاً طقوسية، مثلما كان الشعر - من وجهة نظري - يعكس في تلك العصور كذلك انساقاً طقوسية، ومن ثَم فأنا آخذ تلك الآثار بقيمها الرمزية لا بمشخصاتها الكيانية المكانية، وأجرى عليها التأويل في ضوء الشعر، أو قل :أجري على الشعر التأويل في ضوء معطياته الرمزية، وبذا يفسّر أحد الأثرين الآخر «الشعر/ والرسم أو النقش.. الخ» وهكذا فأنا أستقرئ الآثار والجغرافيا استقراء تأويلياً شعرياً، يتفق مع ما أعتقده في طبيعة الثقافة الجاهلية العربية - فضلاً عن الثقافة الشعرية الجاهلية العربية، وهو منهج يختلف على طول الخط مع المنهج الجغرافي الوثائقي، الذي يطابق بين المكان في الشعر والمكان في الواقع! وبالتالي تنتفي الإشكالية المشار إليها في السؤال. * ما أهم ما توصلت إليه في بحثك؟ - توصل البحث إلى جملة من النتائج، تمكن الإشارة إلى أهمها في النقاط الآتية: أ - تلك السلسلة من المفاتيح، المشار إليها في اجابة سابقة، التي رأيتها سبيلاً إلى مقاربة الشعر الجاهلي، وهي مفاتيح تؤكد على صلة القصيدة الجاهلية بطبيعة الحياة العربية قبل الإسلام. ب - لقد بدت معلقة امرئ القيس مرآة لتساؤلات الفكر والروح إذ ذاك - تعكس نظرة إنسان العصر الجاهلي القلقة إلى الصراع الوجودي في الكون، بين بواعث الحياة ودواعي الفناء، معبراً عنها عبر نقلات خمس بين لوحات المعلقة: «الأطلال - الأنثى - الليل - الفرس - المطر»، حيث تدور القصيدة دورتها من الأطلال إلى الأطلال، حينما لا يمسي الماء نفسه (وهو عنصر الحياة الأول) خيراً كلاً وخصباً ونعمة، إلا بما هو في الوقت ذاته دمار وهلاك ونقمة وأطلال أيضاً، وجدير بالتأكيد أن «قفا نبك» قد جاءت تحمل أهم رموز القصيدة الجاهلية النمطية الرئيسية، في بناها الجزئية والكلية، ومن ثم سجل الدارس كذلك أن الإحكام في شبكة علاقات النص الإشارية في «قفا نبك» - بأسرارها النصوصية والرمزية والأسطورية - هو خير ما يمكن الركون إليه لتوثيق انتماء مثل هذه القصيدة إلى شاعر جاهلي اسمه «امرؤ القيس» شُهر لدى العرب بطبقته الفنية الأولى. - إن مراعاة جذور الصور الميثولوجية في القصيدة الجاهلية يمدّها بشبكة روابطها السياقية النصية الداخلية والخارجية المتصلة بالحياة، فيُستطاع بوساطتها تأمل الدلالة الشعرية في عمقها واتساعها، اضافة إلى أنها تكشف البيئة التي صدر عنها الشاعر والفكر الذي كان ينتمي إليه، ليمنحها ذلك بالمقابل قيمتها المفتاحية لدرس ثقافة الشاعر، تلك الثقافة التي كانت قبل الإسلام ذات طابع وثني سائد، لا تخلو من ملامح مجوسية، وأخرى نصرانية، وربما يهودية، ومن هذا المنطلق فلدارس ما أن يربط الجاهلية الأخيرة بالجاهليات العربية الأولى، أي منذ «ملحمة جلجامش» مثلاً التي هي بدورها ملحمة عربية ومن المكتشفات الحديثة في الآثار. د. لعله قد اتضح من خلال هذا المشروع القرائي ما يمكن منهاجياً أن تقدمه مكتشفات الآثار لدارسي الأدب من مداخل قرائية جديدة، تثري ببراهينها العلمية المادية تحليل الشعر القديم ونقده، غير أن القراءة في «مفاتيح القصيدة الجاهلية» لم تك إلا مدخلاً في مشروع واسع يسعى إلى إعادة استكشاف الشعر القديم في ضوء معطيات البحوث الأثرية والميثولوجية الحديثة.