في تلك القرية الصغيرة القابعة بين أشجار النخيل والتي تبعد عن ضيعتنا بضعة امتار، عجوز تحمل على سندانة عمرها أثقال وهموم ستين عاما، تعيش في بيت طيني، قصياً في القرية في الجهة الشمالية من ضيعتنا، ورثته من زوجها الذي توفي منذ زمن بعيد، وكان عمرها آنذاك يعوم في بحر الخامسة والعشرين، ولها من الأبناء بنت تسبح في عامها الرابع، وولد لم يبلغ حد الفصال، آلت على نفسها الا تتزوج طيلة عمرها لتتفرغ لتربية ابنائها ورعايتهم، ومخافة ان يمسّهم مكروه، كما تخشى من اليد التي تمدهم بالطعام,, تمتد لهم بالصفع والايلام وبالأخص ابنها أحمد، لانه قد شغفها حبا منذ ولادته، واكتحلت عيناها بعينيه، وكأن هناك أيدياً خفية تخطط لاختطافه,, حتى انها تركت بيت والدها ووالدتها عندما كانا على قيد الحياة خوفا على أبنائها, فكان والدها يتودد اليها ويتوسل اليها ان تتزوج وتترك ابناءها في بيته وسيرعاهم أكثر رعاية خئولتهم من كان في الصباح وفي المساء يعرض عليها ان تتنازل عن رايها وتقبل الزوج ليصونها ويصون أولادها، وذات يوم أثقل عليها وأغلظ، فأمسكت يد بنتها وحملت ابنها، وتوجهت صوب بيت زوجها في حافة القرية، تاركة رغد العيش مختارة ضيقة وندرته وقلته في بيتها, وكانت أثناء سيرها تلتفت يمينا وشمالا مخافة ان يلحق بها والدها ويُثنيها عن مقصدها, وصلت الى البيت قبيل غروب الشمس وكانت قد تركت بيت والدها قبيل شروق الشمس, وحطّت رحلتها التي عانت منها ما عانت تعبت وتعب الأبناء، وجاعت وجاع الأبناء، وبكت وبكى الأبناء، فانفجرت عيونها بالدموع الغزار، وصارت تبكي وتبكي طيلة ليلها، وطيلة صباحها كلما رأت أماكن جلوس زوجها، وأماكن خلوته، وأماكن نومه, وكان يشتد بكاؤها وحزنها عندما تسألها ابنتها هذه الاسئلة: متى يرجع أبي؟ أين أبي ولماذا لا ينام معنا أبي؟,, فلا تقدر على اجابتها فتبكي الأم وتبكي البنت بعد أمها, وكانت الأم دائما تستعين بقولها بين الحين والحين: .أشكو بثي وحزني الى الله فتستريح,,, مرت عليها بضعة أيام,, لم تذق للنوم طعما ولا للجلوس لذة, رفيقها السهر، وصديقها التذكر والتخيل من أجل هؤلاء الأبناء (زُغب الحواصل) قليلي الصديق والرفيق, تجرعت كأس الحنظل من أجلهم وذاقت العلقم مختارة من أجلهم, لقد قامت بدور الأم وبدور الأب، ضحت بشبابها وشَيبها وصحتها من اجل ان تحتضنهم كما تحتضن الدجاجة أفراخها, صحتها من صحتهم، وفرحهم من فرحها ومرضهم لمرضها وعلتهم لعللها, فكم وكم من الأزواج طلبوا يدها ووعدوها برغد العيش لها ولأبنائها، كم من الخطاب انحنى تحت قدميها ليظفر بها، ما أكثر الأزواج الذين يتمرغون على عتبة بيتها او بيت أبيها يُقبلون الثرى الذي تمشي عليه عل وعسى، ولكن الكل يرجع بخفي حنين وحقَّ لها ذلك لأنها تملك كمال الجمال وكمال الأدب, عليها مسحة جمال ولمسة دلال, ولكن حُب الأبناء وحب تربيتهم طغى على كل العروض الخيالية, فهي تخاف أن يذوقوا يتم الأم كما ذاقوا يُتم الأب حسب رأيها, أبناؤها قرة عينها وفرحها وسرورها, أبناؤها فلذة كبدها تمشي على الأرض، دمها الذي يجري في عروقها ونَفسُها الذي تتنفس به مهما عذل العاذلون وتحذلق المتحذلقون وتشدق المتشدقون وتسابق المتسابقون وألبسها الأزواج الديباج والحرير، لقد قل مالها وظهر عليها العوز وأحست بالجوع يغرس أنيابه في بدنها وبدن أبنائها فلم ولن تنثني عن عزيمتها ومرادها, نزلت من برجها العاجي وصومعتها وكبريائها من أجل البنين,, وعملت خادمة عند بعض الأسر سنين عددا, حتى قل جهدها وكل نظرها واحدودب ظهرها وشاب غراب رأسها واحتاجت الى ترجمان وصار نومها أكثر من يقظتها,, كبرت البنت وتزوجت فأراحت واستراحت, أما الابن فاكتفى بشهادة الثانوية العامة وعمل عملا يناسبه لأن الجامعة صارت بعيدة المنال، وأمه عجوز لا حول لها ولا قوة فرحت أمه بعمله فرحا لا يوصف لو قُسِّم على أهل قريتها لوسعهم وزيادة من قاصيهم الى دانيهم, صارت الأم من فرحها تحادث نفسها .نعم صبرتُ فظفرت,, هذا زرعي قد نما واشتد عوده وحان قطف ثماره .يعجب الزراع زرعه ومن زرع حصد، ومن صبر ظفر ومن صبر على مر العيش ذاق حلاوته ولو بعد حين ألا أيها الليل البهيم المدلهم بالغم والهم والنكد وقلة ذات اليد .ألا انجلي ويا سحابته ألا انقشعي ويا سحابة الأرزاق امطري امطري ويا أم أحمد جارتي اسعدي اسعدي هذا عاقبة الصبر وثمرة التضحية وبداية فرحي وحلمي وأملي,, أيها العاذلون تلك الأيام السوداء القاسية لا لن تعود الى دياري ولن تعود الى مضاربي ومراتعي, ما اجمل وأحلى ان يحقق الانسان ما يتمناه,. استمرت في خدمة ولدها أياماً طويلة وأشهراً مديده, فكانت تخاف عليه حتى من نسمة الهواء العليلة، ومع انها بلغت من العمر عتيا ووهن منها العظم فلا تزال تطبخ له وتنظف له ملابسه وأرديته وتفرش له فرشه وان كانت تُحس بالتعب فتصبر وتتصبر لا تنام حتى ينام وتُورد عليه وتحوقل، ومنذ ان تخرّج وعمل سنتين وامه تتوسل اليه ان يتزوج لتكتحل عينها بزوجته وترى نَسلَه وبعد جهد جهيد من امه وربعه اقتنع بالزواج وصار يبحث عن زوجة من فتيات المدينة المتعلمات لان بنات القرية لا يناسبونه, وذات يوم كانت منشغلة في البيت بنظافته دخلت حجرة ولدها لتقوم بتنظيفها نهض ابنها من فراشه مسرعا وقال: أمي أمي جئت البارحة وقد اخذتك نومة عميقة واحببت ألا ابدد هجوع طيور نومك من أوكارها وطمئنتها فأبشرك يا امي اني قد خطبت وعقدت القرآن على احد بنات الاسر الطيبة في تلك المدينة، والذين تسير معهم الدنيا اينما يسيرون والشمس تدحل عليهم من جميع النوافذ التي يرغبون,, ففطتها سحابة الفرح وأظلتها جميع اشجار الطمأنينة واحتضنتها عباءة البهجة والسرور، والبيت اشرقت فيه شمس السعادة واضاءته قناديل البهجة وبزغ فيه نور القمر, فلم تستطع ان تتكلم من الفرح وتلعثمت بالبكاء من شدة الفرح وصارت تردد في صحن البيت ما اسعدني الليلة ما اسعدني. لقد صرت أسعد الأمهات وأوفرهن حظا، فيا أركان البيت افرحي لفرحي, واسعدي لسعادتي واهنئي,, يا نجوم السماء باركي لي انا وافرحي لفرحي غدا زوجة ابني احمد ستتبخر في جنباتك ايها البيت فما اسعدك وما اوفر حظك,, اخذت عكازتها وتوكأت عليها ونهضت وقد نسيت آلام مفاصلها واوجاع ظهرها ودخلت حجرتها التي لا تدخلها الشمس الا من نافذة، وفتحت صندوقها الخشبي واخذت تلك الصرة من النقود الملفوفة بقماش احمر مهترىء وناولتها لابنها وقالت: هذا ما جمعته من المحسنين، فاخذه وضمه الى صدره وعده فاذا هو عشرة آلاف ريال ووضع معه حصيلته وتوجه الى ديار الحبيبة مخطوبته مسرعا وكانه الريح المرسلة, اما أمه فقامت تتهادى لتدير شؤون بيتها وحسب مقدرتها واستطاعتها ويدور في فلكها,, غدا تقرعيني بزوجة ابني وغدا لناظره قريب غدا تحتويني وتعطف علي سأدعوها يا بنتي وقرة عيني وفلذة كبدي وغاليتي,, سأجعلها الآمرة والناهية وانا السامعة المطيعة فبنات المدينة يعشقون ذلك سأكون انا الملبية لطلباتها عندي صحون قديمة سأبيعها واشتري لها فرشا وبسطا لحجرتها. آه ما اجمل مغاغات الأطفال في البيت ما أجمل شقاوتهم وبراءتهم سوف تعيدني الى الوراء عشرين عاما فانفجرت في البكاء,, رجعت الى يقظتها فقامت واعدت طعام الغداء قدرها وقدر جهدها والساعة تشير الى الواحدة ظهرا موعد قدوم ابنها,, فحضر في الوقت المحدد تحفه هذه المرة مواكب البشرى والسعادة وتحرسه جيوش الحب وقوافله، تُظله خيمة السرور ونشوته فمعه بعض ملابس الفرح واحذيته واغطيته فوجد أمه تمسح عبرة تنحدر من تجاعيد وجهها التي حفرته أوجاع السنين وكآبة الدهر وعينها تفيضُ بالدموع فسألها لماذا هذه الدموع يا أمي ونحن على عتبات الفرح وأبواب السرور وبيننا وبين الفرح يوما او بعض يوم فقالت: معذرة يا,, يا,, يا بني لقد تذكرت وصية أمي يرحمها الله ليلة زفافي: .كوني لأم زوجك مطيعة كوني لها خادمة فأنت صغيرة وهي كبيرة، كوني لها بنتا تكن لك اما لتسعدي ولتسعد ويسعد زوجك هدأ من روعها وطمأنها وبشرها قائلا: يوم الجمعة بعد غد سوف يكون زواجي فنشطت من عقالها وتناشطت وقاطعته قائلة: دعني اذهب لابشر جاراتي وصديقاتي أم ابراهيم, أم سعد, أم نعيمة سوف يفرحون ويهنؤون، فهم يعرفون معاناتي وتضحياتي وصبري وتصبري وجلدي وتجلدي,, ابني سأتبختر واقلد مشية الطاووس ليلة فرحك، فمتى علمي بالفرح ومتى علمي بالضحك منذ ان اختطفت يد المنون والدك، نعم سأفرح وسأغني وأغني ما حفظته عن جدتي، سوف اذهب لجارتي حسناء واستلف منها مبلغا من المال لاحضر اجمل هدية واجمل عقد لبسته بنات حواء,, مرت الأيام ثقيلة عليها وهي تنتظر وكأنها على جمر الغضا تصطلي, وفي صباح يوم الزواج رشت العطر الباريسي على اركان الحجرة التي أعدتها لزوجة ابنها، واشعلت البخور في جنبات البيت وفي المساء تعطرت وتزينت وتركت عكازها بعيدا عنها حتى تظهر امام زوجة ابنها بالمظهر الطيب حضر المدعوون رجالا ونساء واطفالا من سائر بيوتات القرية وعلت الدفوف شرفات البيت وأضيئت الأنوار, ذهب الرجال بصحبة احمد لبيت الزوجة ليكملوا مراسيم الفرح وبقي النساء يدفون الدفوف في انتظار الزوج وزوجته تحمل هديتها في يدها, طال الانتظار والكل صار خائفا يتوجس، غلب بعضهم النوم والنعاس الساعة الواحدة ليلا ولم ينفع طول الانتظار فصاروا يعتذرون وينصرفون الواحدة تلو الاخرى يجرون ارجلهم وأطفالهم جرا,, وقد شاركوا أم احمد الهم بدل الفرح، الآن الساعة الثانية ليلا ولم يعد في البيت الا ام أحمد وبعض صويحباتها وجيرانها الذين لم تهن عليهم حال أم أحمد فصاروا يصبرونها ويشدون من ازرها وعزمها وينطمئنونها، وعيونها تفيض بالدمع وقلبها يعصره الألم اشتد الامر خطورة فغلى دم أم أحمد وارتفع ضغطها وأظلم البيت عليها, عادت لها جميع اوجاعها وامراضها واحزانها, رنين الهاتف القديم يعلو جنبات البيت فتهوى اليه مسرعة تسمع صوت ابنها، عسى ان يكون المانع خيرا يضحك ابنها نحن بألف خير وعافية، رجع الفرح لأمه، ضحكت وبكت صارت تمسح دموعها وبفرح الابن: اسمعي يا أمي، انا نسيت ان اخبرك قبل اليوم، نحن في بيتنا الان الذي اتفقت مع زوجتي عليه حيث سنستقل فيه وسوف نزورك ليلة الجمعة القادمة او بعدها لنسهر عندك في قريتك, نزل هذا الخبر صاعقة مدوية، دمدمت كيانها وصعقت خشبة عمرها وزلزلت الأرض من تحتها وسقط الهاتف من يدها وسقطت عليه وصارت تردد: ضاعت الأماني ضاعت. عبدالرحمن سلمان الدهمش * قصة استلهمت مفرداتها من القواميس العربية كما استلهمت شخصياتها من البيئة، رغم ان الفكرة مكررة وهو الخوف الذي تتوجس به بعض الامهات من زيجات ابنائهن، خشية ان يهمش دورها الامومي في حياتهم، وتعاني القصة من ازدحام الفقرات, الا اننا في نهاية المطاف نشيد بهذه القصة التي جعلتنا نعايش هموم المرأة ومدى كفاحها وصبرها من اجل توفير لقمة لابنائها الذي كما يبدو قد اضاعوا في نهاية القصة حق الصلة والبر بها,, وكانت ان ضاعت تلك الاماني التي حاولت ان ترسمها هذه المرأة طيلة حياتها. تحية للصديق عبدالرحمن الدهش، وتحية اخرى لبطلة القصة المرأة البائسة ام احمد.