لا..لا تواعديني، فاللقاء قد يبعثر أوراقي.. يجعلها واقعاً رتيباً يعيدني إلى الوراء سنوات وسنوات، ويطفىء وهج إبداعي، فتنطفىء المعاني من حروفي أو في حروفي، فالأمر سيّان.. فكما أن الناس يحل بعضهم مكان بعض، فكذلك أحرف الجر شريطة أن لا تجرّ معها أمانيّ إلى بيداء قفر فتحيلها إلى قاع صفصف كلها إعوجاج وأمت.. لا.. لا تقولي سنلتقي غداً، فالغد عندي نهاية دفق غزير في آخر مصب لتوهج الحروف من يراعي.. فالمعنى يتوجع حينما يصبح جسداً، تتقهقر صوره وأشكاله فيصبح باهتاً أبقع الرؤى.. ويالهول ذلك في نفسي!! لا.. لا تصفيني بالرعونة قبل أن تنصتي إلى صوت الإنصاف يهمس في حروفي.. أو يناجي صفاء الشجن في دنياك، أو - ربما - يعلو ثم يصرخ في دنياك لتفيقي.. وعندذاك لا تلوميني ولا تعذليني، فأنت حريّة بفهم معنى السموّ حينما يعانقه اللفظ، يودعه بوح السنين.. ووجع الذكريات وإن أصبح هامشياً، لكنه جزء من تكويني.. وحينما يمتلىء المكان بزغاريد فرح ما فمن الطبيعي أن تملأ البهجة القلوب كلها، ولكن قلبي أنا - ربما - وحدي تملأه دموع دموع.. ما أكاد أرفع رأسي حتى أواريه خفضاً لئلا تفضحني تلك الدموع، فهي قد تبلغ حافة مآقي وأجفاني فتطفر فجأة لتسيل دون توقف، وإلى جانبي من أداري عنه تلك الدموع!! وأمامي من ينظر إلى عيوني يتفحصها - تطفلاً - فألاحظ ذلك فأشيح عنه لئلا يراها، فلا أدري أهو شامت بعد ذلك أم مشفق أم ممجد لخلود الدمع في القلب المرزّأ؟ ولعلك تقولين إن هذا الأمر هو الهروب بعينه من المكان، أو «رومانسية» ألوذ بها.. فلتكن ما تكون، فقد وطأت قدماي على أنّات قلبي وتوجعاته حتى غدا بنبض لا أسمعه ولا أكاد أشعر بخفقاته.. أفبعد هذا أكون أرعنَ أو مراهقاً ينشد لذة عابرة؟ لا فالأمر ليس كما تتصورين، لكنه لدى من يتأمل هو ذات صانها عفاف وطهر، خاطبتها ذاتك فدعتها إلى لهو وسمر.. هكذا دون مقدمات!! فمن منا الأرعن بالله عليك؟ إن الدموع حينما يبكيها القلب لا تطفر على سطح الفؤاد، وانما تبقى في اللبّ لتصطرع الخفقات فيه فلا أسمع إلا خفقة حميدة.. غير آثمة، لم تلوثها خدانة فتصبح سريعة الدقات قد تميت صاحبها فجأة فيسقط حتف أنفه!! وليس من المهم أن يرى هذه الدموع من هبّ ودبّ.. لكن المهم أن يستمر صوت الزغاريد في الفرح مع دقات الدفوف، فما أروع أن تدور ألسنة النساء من خلف الشبابيك أو الأسداف بتلك الزغاريد.. إنها تعيد الإنسان إلى فطرته في ليلة عرسه وإلى طبيعته، فلا «استياف» فيها أبداً ولا «افتئات» إلا من مخرسيها ومطفئي وهج المعاني حتى وإن كانت من الشقاء في دروب الحياة. وإن الخيال اللطيف إذا لم يكن في تلك المعاني فيضاً وتدفقاً لها، لمات الإنسان كمداً ولما ملأ دروبه بالآمال يرقب - ولو - بعضاً منها، وكنت أنت أملاً كبيراً تحقق لمعان سمت في دنيا الخيال فزادت التحليق في عالم الحرف.. حتى أكاد - أحياناً - أقول شعراً، لكنني لا أجرؤ على ذلك، في الوقت الذي يغنيني نثري عنه.. كي أعبر مسافات ومسافات عجزت عن عبورها في زمن مضى، قبل أن تكوني في حياتي أملاً يرتجى. ومعنى أن يكون الأمل تعلّة للنفس هو أن تمتلىء النفس بالرجاء من نور خالقها مهما أعرضت الدنيا عنها، فالنور يصون الفهم ولا يضيع المقصد مهما تاهت النفس في الدروب ومهما علتها الكآبة حيناً وضاقت ذرعاً بما يحيط بها، وقد قال شوقي: والنفس من خيرها في خير معتصم والنفس من شرها في مرتع وخم!! * فّأّلًهّمّهّا فٍجٍورّهّا وتّقًوّاهّا} إن الإلهام هنا قيمة إلهية كبرى، ولعله يتوازى أو لا يتعارض مع الحؤول الوارد في قوله تعالى: {أّنَّ اللَّهّ يّحٍولٍ بّيًنّ المّرًءٌ وقّلًبٌهٌ} أي يحول بينه وبين قلبه في الشر فيوجهه إلى الخير والعكس صحيح، والله أعلم.