يحمل هذا الدين العظيم بين طياته جوانب رائعة وحكماً تشريعية غاية في المصلحة للعباد في كل وقت وعلى مر العصور والأزمان، ومن هذه الحكم التي تميز بها هذا الدين الحنيف هي زكاة الفطر، التي جعلها الله رمزاً لتطهير الصائم من نقص العبادة في شهر رمضان المبارك، وكذلك فهي صورة رائعة للتلاحم بين الأغنياء والفقراء. ومن هنا قمنا بإجراء حوار مفصل مع فضيلة الدكتور صالح بن عثمان الهليل أستاذ الدراسات العليا بقسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية بالرياض لبيان جانب من هذا التلاحم فإلى الحوار. التشريع والأحكام * ما المراد بزكاة الفطر؟ ومتى شرعت؟ وما حكمها؟. المراد بزكاة الفطر الصدقة عن البدن في مقابل زكاة المال، وإضافتها للفطر من باب إضافة الشيء إلى سببه، فإن سببها إفطار المسلم من صيامه شهر رمضان، وقد قيل بأنها شرعت في السنة الثانية من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهي السنة التي شرع فيها صوم شهر رمضان المبارك. وحكمها فرض عين على كل مسلم ومسلمة كبيرا كان أو صغيراً، حرا كان أو رقيقاً وذلك بالاجماع المستند الى النصوص من الكتاب والسنة على صاحبها افضل الصلاة وأزكى التسليم. حكاه ابن المنذر وغيره من علماء المسلمين حيث يقول: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض. وعن الحكمة من مشروعيتها فقد نصت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأسرار التشريعية والحكم المرعية من زكاة الفطر حيث تطهر المسلم مما بدر منه من لغو أو رفث أثناء صومه فهي جابرة لهذا النقص ومزكية لنفس المسلم كما أنها مظهر من مظاهر التكافل الاجتماعي والتراحم بين الأغنياء وإخوانهم من فقراء المسلمين، قال عبدالله بن أبي عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، طعمة للمساكين.. وهي عبادة كسائر العبادات المالية تفتح للمسلم باب من أبواب الأجر والثواب من الله عز وجل تكرما ومنّة منه سبحانه. وقتها ووجوبها * ما وقت وجوبها وإخراجها؟ تجب زكاة الفطر وتتعين على المسلم بغروب الشمس ليلة العيد أي بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان وعليه لو رزق مولودا أو مات بعد غروب شمس ذلك اليوم لزمته دينا في ذمته لله عز وجل تخرج من تركته، بشرطها وهو ملك صاع فاضل عن قوته وقوت من يعوله في وقت وجوبها. أما وقت إخراجها فهناك وقت أفضلية وهناك وقت اختيار، فوقت الأفضلية صبيحة يوم العيد قبل صلاة العيد وذلك لأمره عليه الصلاة والسلام حيث أمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات». أما وقت الاختيار فيجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وهنا مسألة مهمة وهي أن بعض الناس هداهم الله قد يتسرعون في إخراجها في اليوم الثامن والعشرين وقد يتم الشهر فعندئذ يكون من أخرجها في اليوم الثامن والعشرين أخرجها قبل ثلاثة أيام ومن هنا يعرض زكاته للبطلان وعدم القبول لأنها عبادة لها وقت محدد فلا يجوز أن تؤدي قبله. مقدارها وأهلها * وما مقدارها؟ ولمن تعطى؟ وهل يخرجها بنفسه أم يوكل عليها؟ مقدارها صاع عن فرد كما جاء ذلك في الحديث المتفق عليه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر في رمضان على الناس صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «صاعاً من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط، أو صاعاً من زبيب» الحديث متفق عليه. ومقدار الصاع النبوي في هذا الزمان حوالي 5 ،2 كيلوغرام فلو اخرج ثلاثة كيلوغرامات لكان أحوط. وقد استفاد العلماء رحمهم الله تعالى مما ورد في الأحاديث الخاصة من إشارات للحكمة التشريعية لزكاة الفطر أنه يجوز إخراج صاع من قوت البر ولو وجد شيء من هذه الأصناف الخمسة لأنه أنفع للفقراء. وعن القيمة فقد وقع الخلاف في جواز إخراجها قديماً وحديثا، وعلى أهل الحل والعقد في البلدان الإسلامية دراسة الموضوع هذا من جميع جوانبه تحقيقاً للمصلحة وتطبيقاً للحكمة التشريعية من هذه العبادة إذ هي دفع الحاجة والعوز ولا يختلف ذلك بعد اتحاد قدر المالية باختلاف صور الأموال. أما مستحقوها فهم الفقراء ومن في حكمهم من المساكين ومن عليهم ديون لا يستطيعون وفاءها من المسلمين، وقد عمم بعض العلماء في مصرفها فجعلها كزكاة المال في المصارف الثمانية المعروفة والذي يعضده الدليل وما يفهم من الأحاديث الواردة في بابها أنها خاصة بالفقراء ومن في حكمهم، وهنا قاعدة في العبادات وهي ان جانب التعبد راسخ فيها فكلما سرنا مع النصوص فهو المتعين، لأنه الأحوط والأبرأ للذمم وفيه خروج من خلاف أهل العلم إلى مواطن اتفاقهم. والأولى أن يتولى إخراجها عن نفسه ومن تلزمه نفقته وإن وكل من يثق فيه من المسلمين في توزيعها جاز، وسند ذلك أن الزكاة عبادة مالية والنيابة تدخل في العبادات المالية باتفاق العلماء رحمهم الله ولكن إذا تولاها بنفسه جاز أجر عناء توزيعها وإيصالها إلى مستحقها، وفي ذلك اطمئنان له على انها وضعت موضعها الشرعي، إذن فالمستحب في حق المسلم أن يتولاها بنفسه كذا سائر صدقاته وتبرعاته مادام أنه متمكن من ذلك حساً وشرعاً. أبواب متفرقة * هل تجب عن الحمل في البطن أو الخادم؟ إخراجها عن الحمل في البطن فهو مستحب وليس بواجب مسند ذلك ما ورد عن عثمان رضي الله عنه حيث كان يخرجها عن الحمل. ومن هنا فهي صدقة عمن لا تجب عليه فكانت مستحبة كسائر صدقات التطوع أما الخادمة فهنا قاعدة وهي أن صدقة الفطر فرع وجوب النفقة ممن لزمته نفقته لزمته فطرته. ومن هنا فإن كان الخادم اشترط نفقته على من استأجره فزكاة فطره عليه وإلا فلا تلزمه وإن تبرع بها عن خادمة المسلم فباب بر يرجو ثوابه من الكريم المنان. * أين تخرج زكاة الفطر؟ وهل يصح إخراجها في غير بلده الذي هو فيه؟ تخرج زكاة الفطر في المكان الذي وجبت عليه فيه سواء كان مكان إقامته الأصلية أولا، لو فرضنا أنها واجبت عليه في مكان لا مسلم فيه أولا مستحق لها فيه فله أن يوكل من يخرجها إلى مستحقيها من المسلمين في بلاد المسلمين. * ما حكم من لم يؤدِ زكاة الفطر؟ من لم يؤدِ زكاة الفطر في وقتها المحدد لها من غير عذر أو عمداً فهو آثم لأنه ترك واجبا من الواجبات الشرعية، وخالف أوامر الشرع الصريحة في ذلك قال صلى الله عليه وسلم (أغنوهم في هذا اليوم) قال ابن رشيد رحمه الله تأخيرها عن يوم العيد حرام بالاتفاق، وقال الوزير ابن هبيرة رحمه الله اتفقوا على أنها لا تسقط على من وجبت عليه بتأخيرها وهي دين عليه حتى يؤديها، ومن هنا فمن لم يؤدها تهاونا مع اعتقاد وجوبها فهو آثم كما سبق عليه، وعليه ان يتوب ومن ثم يقضيها، أما من تركها عمداً أو جاحداً لوجوبها فقدترك ما علم من دين الإسلام وجوبه بالضرورة عياذاً بالله من الجحود والكفران. العيد وآدابه * ما حكم صلاة العيد؟ وماذا يستحب لها؟ وما الحكم والآداب للخروج لها؟ صلاة العيد فرض كفاية عند طائفة من اهل العلم وشأن فروض الكفاية أنها اذا قام بها من يكفي من المسلمين برئت ذمة الباقين، وإن تركوها جميعاً أثموا ويؤدي ذلك الى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان أول صلاة عيد صلاها صلى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة، ولم يزل يواظب عليها حتى فارق الدنيا صلوات الله وسلامه عليه ولأنها من أعلام الدين الظاهرة وقد داوم عليها الخلفاء الراشدون بعده وكل هذا يؤدي فريضتها خلاف لمن قال انها سنة، ويستحب لها أمور منها: الخروج على أكمل هيئة من لباس جديد حسن، وتطيب واغتسال، وهدوء وتذلل، ويكون ماشياً إن أمكن ذلك، ويخالف في طريقه ويكثر التكبير حتى يصعد الإمام المنبر ويأكل تمرات وتراً في عيد الفطر قبل الصلاة دون عيد الاضحى بل يأكل اولا من أضحيته، اما النساء فقد أُمرن ان يخرجن لصلاة العيد ويخرجن تفلات أي متسترات غير متبرجات ولا متطيبات ويكبّرن سراً لأنهن مأمورات بالستر والحياء. * هل تصلى صلاة العيد في المسجد أم في الخلاء؟ وهل يتنفل قبلها؟ ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي العيدين في الخلاء القريب من البنيان حكى ذلك الوزير ابن هبيرة رحمه الله تعالى اتفاقا وقال النووي رحمه الله تعالى والعمل على هذا في معظم الأمصار وسندما ذكر هو الحديث المتفق عليه من رواية ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في الفطر والأضحى الى المصلى) والمصلى مشهور وهو على باب المدينة الشرقي بينه وبين المسجد الف ذراع وعلى هذا عمل المسلمون خلفا عن سلف. لأن إيقاعها خارج البلد أوقع لهيبة الإسلام، وأظهر لشعائر الدين، ولعدم المشقة في ذلك لعدم تكررها، لذا رأى البعض أن فعلها في المسجد بدعة إذا لم يكن هناك عذر من مطر أو برد أو ريح عاتية أو نحو ذلك إلا في المسجد الحرام أو المسجد الأقصى لشرف المكان ومضاعفة الأجر. أما النافلة قبلها أو بعدها في موضعها فالذي عليه جمهور أهل العلم انه لا نافلة قبلها أو بعدها لا بحق الإمام والمأمومين لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) متفق عليه. لكن لو صليت في المسجد فهل يترك الإنسان تحية المسجد؟ فيه اختلاف والأولى عدم الانكار على من أدى تحية المسجد قبلها لعموم الأحاديث الواردة في مشروعية تحية المسجد. فرق الخطبتين * هل خطبة العيد كخطبة الجمعة؟ وما الفرق بينهما؟ الأصل أن خطبتي العيد كخطبتي الجمعة في أحكامها حتى في منع الكلام اثناءها، ولكن هناك فروق بينها أبرزها: 1 التكبير في خطبة العيدين دون خطبتي الجمعة. 2 خطبتا العيد تكونان بعد الصلاة بخلاف خطبة الجمعة فقبلها وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر وعثمان يصلون العيدين قبل الخطبة). 3 خطبة الجمعة واجبة بخلاف خطبة العيد فهي سنة لكن لا ينبغي للمسلم أن يحرم نفسه استماع الذكر ودعوة المسلمين بل يبقى حتى تنتهي خطبتا العيد ويصرف مع انصراف الامام. * ما حكم تهنئة المسلمين بالأعياد والمناسبات وذلك عبر الصحف والمذياع وغيره؟ الأصل جواز تهنئة المسلمين بعضهم بعضا بما هو مستفيض بينهم ويشهد لهذا ما جاء في مشروعية سجودالشكر وتبشير النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم رمضان، وتهنئة طلحة لكعب بن مالك لما نزلت آية توبته، وكان ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فعله، بل أقره على ذلك، ومن ثم فقياس على ذلك تهنئة المسلمين بعضهم بعضا بحلول مواسم الخيرات، والأوقات الفاضلة قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله (وقد روى عن طائفة من الصحافة أنهم يفعلونه ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره، وذكر الحافظ في مشروعيته وفيه آثار يحتج بها في مثل ذلك، والمقصود فيها التودد وإظهار السرور، وهو في العيدين شعار الدين وليس سائر الأيام. * ما حكم اللهو واللعب في أيام العيد؟ وما اللهو غير المباح؟ الأصل أن يأخذ المسلم نفسه بالجد بعيداً عن اللهو واللعب، والهزل سواء في أيام العيد أو غيرها، ينبغي للمسلم أن يعطي يوم العيد قدره من الخشوع والتذلل واظهار الندم على فوات الأيام الفاضلة، هذا دأب الصالحين الذين كانوا يدعون الله أن يبلغهم رمضان ستة أشهر ثم إذا خرج دعوا الله أن يتقبله منهم ستة أشهر أخرى وليس في حياة المسلم مجال للهو بل هذا ديدن الجاهلية كما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: {ومّا كّانّ صّلاتٍهٍمً عٌندّ البّيًتٌ إلاَّ مٍكّاءْ وتّصًدٌيّةْ } فقد كانوا يلهون بالتصفيق والصفير كما يفعله البعض في هذا الزمان وإن كانوا من المسلمين.لو كان للهو المباح مكان في حياة المسلم ما كان ينبغي ان يبرزه في أيام العيد ومقدساته مغتصبة، وحقوقه مسلوبة، ودينه محارب واقتصاده مهدد، واخواته في العقيدة يشردون، ويقتلون وتنتهك حرماتهم على مرأى من العالم اجمع. حريِّ بنا أن نرجع الى الله عز وجل وأن نسأله قبول العمل، وكف الشرور المحدقة.وهنا دعوة للشباب الذين هم عماد الأمة وعنوان قوتها وثباتها بان يبتعدوا عن مواطن الهزل في وقت الخير، وعن الكسل وأسبابه وألا يقلبوا حياتهم الى نوم في النهار، وسير متواصل في الليل، فهذه قاصمة الظهر، وهي المهلكة إذ هي وسيلة إلى الضياع وتضييع الواجبات الدينية، وفيها مضار صحية ونفسية، بل واقتصادية لا تخفى. فتور العبادة * الفتور في العبادة بعد انقضاء شهر رمضان ظاهرة على بعض الناس فما توجيهاتكم لهؤلاء؟ النفس البشرية ميالة الى الكسل والخمول إلا بالحزم والتربية لها وتعويدها الخير، والاستقامة على منهج الله عز وجل وشرعه القويم. اما إذا تركت وعادتها فإنها تفتر، فينبغي للمسلم بعد انتهاء مدرسة الصيام والقيام أن يحافظ على ما تعوده من صيام وصلاة وقراءة قرآن وسائر الطاعات. إذ من الحكم الشرعية والأسرار المرعية كون رمضان مسرح عبادة، ومضاعفة أجر، وتكريما من الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فينص انطلاقا من هذه التشريعات أن يستمر المسلم على ما كسبه من عادات طيبة وعبادات متنوعة في هذا الشهر الكريم حتى يلقى الله عز وجل. فقد كان بعض السلف الصالح لا يغير رمضان من عبادتهم شيئاً فكانت حياتهم كلها رمضان. والتكاليف الشرعية لا تنقطع والسنن ثوابت حتى يلقى المسلم ربه. يقول ربنا سبحانه {واعًبٍدً رّبَّكّ حّتَّى" يّأًتٌيّكّ اليّقٌينٍ}. (*) إدارة العلاقات العامة والإعلام بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.