الذي يدور الآن في محرقة الأفعال الارهابية المفتعلة لن تفرح بتدوينه صفحات التاريخ، وإن فعلت فسوف تدونه في الأسود من صفحاتها، إن لم يكن في الأقذر منها. لقد كان التاريخ يشفع لمذابح القرون الوسطى وما قبلها وحتى لمآسي ومذابح الحربين العالميتين الأولى والثانية، فيتلقفها ويرصدها على سطوره، متعللاً بأن المجتمعات الإنسانية آنذاك لم تكن ذات صبغة حضارية، والذي يفتقد للحضارة، يفتقد للإنسانية بمعناها المطلق. أما وإن هذه الأعمال الإرهابية التي تدور رحاها في زمن يدعي أهله بأنهم دخلوا كل أبواب الحضارة، ووصلوا إلى أقصى درجات العلم والتقنية، ووضعوا المعايير الخاصة للقيم الإنسانية الحديثة، والطموحات الاجتماعية «الثورية» والمتمثلة في العولمة، التي تعني بمفهومها الواسع إلغاء آخر الخطوط المقيدة لحرية الإنسان، إذا كان الأمر كذلك فإن التاريخ سيشقى بما يندفع إليه هذه الأيام من سجلات لا هي قابلة للتدوين، ولا هي قليلة الأهمية فتترك جانباً. وأظن أن أرشفة ما يحدث لن تبدأ الآن، ذلك لأن الفصول الأساسية لهذه الممارسات ذات العفن المفهومي، والمنهج النفعي لم تبدأ بعد، فالأمور مرشحة لأن تمتد تأثيراتها وتتسع، كما أنها تنتظر دور الشعوب في تجسيدها بمعناها الحقيقي. هؤلاء العابثون الذين صبوا الحضارة كلها في مراحل شقاء الإنسانية لن يستطيعوا مهما فعلوا أن يخرجوا بالتصفيق، إلا بأكفهم فقط، لأنهم يغردون خارج الموجة، والشعوب وحدها هي القادرة على اثارة الأمواج ولطم الشواطئ بها متى أرادت، أما الأرض فستقول هي الأخرى كلمتها وقد أثبت التاريخ أنه ليس هنالك أقوى من الرمال في درء المعتدين حيثما كانوا، وتتميز أرضنا العربية، بأن نخيلها يقف مع رمالها في المعركة. ثلاثية البقاء هذه «الأرض - الشعوب - النخيل» عصية على الاندحار، وبعيدة عن المنال. والمتوهمون أنهم قادرون على حرق الشعب والنخل والأرض، سوف يفيقون أخيراً عى أن نارهم لم تحرق إلا السطح فقط، أما ما هو مخبوء في رحم الأرض، وفي عذوق النخل، وفي نبض الشعوب فلا يزال سليماً لم يُمس، ولن يستطيع أحد أن يمسه، لأنه الذخيرة المتجذرة في وجدان كل من يعتز بإنسانيته فوق تراب فُطر على الإيمان، تحت ظل نخل امتد سقفه عالياً تسبيحاً وكبرياء وعدلاً. التاريخ الآن لا يذكر هتلر كثيراً، ولا مواسم الثلج القاتلة حول «ستاليننغراد» ولا يذكر طويلاً بالملايين الذين قتلوا خلف أسوارها، لكنه لاينفك يروي لنا كيف بقيت تلك المدينة سيدة التاريخ المعاصر في قاموس المقاومة والصمود. للذين يقيسون المسافة بين فوهات مدافعهم وصدور الآخرين ويفصلون صواريخهم على مقاييس أطفالهم، ولم يقرؤوا التاريخ جيداً، ولم يستمعوا إلى أحاديث الشعوب وغناء الأرض، والنخيل أقول: وتاليتها!!!